المرأة بين ثقافين (1)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
في خطاب طاغور لحبيبته يقول: “لو كان قلبي زهرة لطيفة صغيرة لاقتطفتها من فرعها كي أزين بها شعرك، ولو كان قلبي جوهرة ثمينة لحطمتها مائة قطعة وصغت لك من أجزائها عقدا جميلا كي أطوق به عنقك.. ولكنه يا حبيبتي قلب!! فأين حدود القلب!! إنك لا تعرفين حدود هذه المملكة، ومع ذلك فأنت ملكتها”.
قد تبدو الكلمات رغم روعتها كما لو أنها جاءت من عالم الأساطير، وقد يخال في بعض الواقع المنقضي حين يقص علينا من أخباره أن بعض هذا لم يكن ليكون في زمن ما لصعوبة تمثله في واقعنا، وهكذا تختلف الثقافة والأفكار باختلاف الأمكنة والأزمنة.. حتى العواطف والمشاعر تبدو في زماننا وكأنها متجمدة، كما قال نزار” عرفت حضارة التعب.. عرفت عواطف الأسمنت والخشب” هكذا صور الشاعر الفارق الشعوري بين حضارة وحضارة وثقافة وثقافة وعالم وعالم.
فهل ثمة امرأة تعرف كما قال الشاعر “حدود هذه المملكة ” التي هي ملكتها، أو كانت في زمن ما حقا ملكتها؟!! لا أظن إلا قليل، وقد درست معالم هذه المملكة، وعافت رسومها مع الأزمنة ولم يعد لذكرها ذكر إلا ما يتلى علينا كما سبق من عالم الأساطير، وكما قال أحمد شوقي عن بواكير الصبا بين ليلى وصاحبها :

فيك ناغينا الهوى في مهده

ورضعناه فكنت المرضعا
وحدونا الشمس في مغربها

وبكرنا فسبقنا المطلعا
كم بنينا من حصاة أربعا

وانثنينا فمحونا الأربعا
وخططنا في نقى الرمل فلم

تحفظ الريح ولا الرمل وعى

فكما تتغير صور الممالك الأرضية، ويستجد من رسوم الحكم وطقوسه ودساتيره وقوانينه، فكذا تتغير صور الممالك القلبية والروحية؛ تلك التي كانت المرأة قديما متربعة على عروشها، وقد ظلت سيدة هذه العروش زمنا ليس بالقصير؛ حتى جاءت (حضارة التعب) فانتزعتها من مملكتها إلى مملكة هي محكومة فيها وليست حاكمة، وهي تابعة فيها وليست رائدة .. وقد كانت في أزمانها الأول درة التاج وواسعة العقد وحبة القلب وسلطانة العرش، وصاحبة الخباء ومحمولة الهودج ؛ ثم هي كانت كذلك تحكم في مملكة الأرض من خلف الستار، ومن رواء الحجاب ..
وكانت النفوس تواقة إلى شيء منها مهما كان يسيرا، والعيون مشرئبة ولو طرف ثوبها أو لحظ عينها، وكان البعض يرضى بأقل من ذلك كما قال المجنون:

وإني لأرتضي منك يا ليل بالذي

لو رآه الواشي لقرت بلابله
بلا وبألا أستطيع وبالمنى،

وبالوعد حتى يسأم الوعد سائله
وبالنظرة العجلى وبالحول ينقضي

لا نلتقي آخر الحول وأوائله

وقال ابن حزم أنه يرضيه أن يجمعه مع محبوبه (علم الله)، فقط أن يعلم أنها تعيش في الأرض التي يعيش علينا ولو كانت في أحد أطراف الأرض وهو في آخره، ولم يكن عجبا أن ترى ابن أبي ربيعة حين يعز عليه اللقاء والرؤيا يتتبع حتى ولو هذا الكف المخضب لينسج فيه بعض غزله العذري فيقول:

بدا لي منها معصم يوم جمرت

وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب

بسبع رميت الجمر أم بثمان

ثم ما لبثت هذه الحضارة (حضارة الأسمنت والخشب) أن راحت تغري المرأة بمملكة بديلة ليست بالتي هي خير، تبحث فيها عن أمر لم تألفه، وعن مفقود لم تعرفه .. بل راحت كل واحدة منها وقد كانت صاحبة مملكة، أن تلقي ثياب ملكها وتضرب في تصاريف الحياة الجديدة عن الجنة الزائفة والملك المزعوم ، فمن إثبات الذات ومساواة الرجل، إلى مجالات لم تخلق لها في الرياضة والعمل الشاق، والتسليع (التحول لسلعة ) كما ذكر د. المسيري في “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان” ، أنها حولت المرأة إلى سلعة لا للبيع والشراء، ولكن للاستثمار في التسويق والإعلان والفن والسينما والجنس والجاسوسية والسياجة و….
فهي حققت الأنثى التي كانت ملء السمع والبصر، هل حققت السعادة في عالم (الأسمنت والخشب)، هل قدمت لها الحضارة الحديثة تحقيق الذات ومساواة الرجل؟ أم كان هذا فطرة محققة في الأصل الأول، في المملكة التي كانت سيدتها، والبيت الذي كانت رائدته، والمجتمع التي كانت صانعته على عين، لا يصحو إلى على ندائها، ولا ينام إلا بأمرها ، ولا يبرم قضاء فيه إلا بمشورتها وعقلها، والمدرسة والجامعة والمشفى والكتابة والأدب، والشعر واللغة، وقد أثمرت من قبل ذلك في ممالكها الأول “شعبا طيب الأعراق”.
وللحديث بقية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى