صوّت تحمي حقّك.. همسات قبل معركة حاسمة

المحامي جواد بولس | فلسطين

الفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر الى صورته في الماء ويقول: لا أنا إلا أنا. والثاني ينظر الى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد. وفي الليل، يضيق الفارق، ويتسع التاويل” محمود درويش.

على الرغم من وجود بعض الدلائل،والأماني طبعًا، على أن نسبة التصويت في الانتخابات المقبلة للكنيست الاسرائيلي قد تتعدى الخمسين في المائة من المواطنين العرب اصحاب حق الاقتراع، ما زالت المخاوف على مصير قائمتي حزب التجمع الديمقراطي وقائمة الجبهة الديمقراطية والحركة العربية للتغير، حقيقية؛ وذلك بخلاف وضع القائمة الاسلامية الموحّدة التي، فيما يبدو، ستكون حظوظها بعبور نسبة الحسم أوفر .

لن أعود إلى تفاصيل ليلة فك الارتباط بين حزب التجمع وشريكيه في القائمة المشتركة؛ فالنبش فيها لن يسعف أحدا، لا بل قد يعيد البعض الى حالة الامتعاض التي تفشت، في أعقابها، بين المواطنين الذين كانوا يؤمنون بضرورة استمرار الشراكة، لا سيما بسبب ظروف واقعنا السياسي المأزوم ومعاناة مجتمعاتنا من حالات تذرر خطيرة، ومظاهر العنف المتعاظم من يوم إلى يوم. وكم كنت أتمنى أن يطوي الجميع هذه الصفحة وينتقلوا، بالقول وبالفعل، الى مواجهة مهمّتهم الأصعب وهي اقناع الناخبين بضرورة مشاركتهم في العملية الانتخابية، حيث من البديهي أن يكون شرط نجاحهم الأول في هذه المهمة هو النأي عن المناكفات بينهم، والتوقف عن تهجمات بعضهم على بعض، والامتناع عن المزايدات؛ فالناس تعرف تاريخ جميعهم السياسي، منذ أن بدأت التحالفات الانتخابية بينهم، على مداوراتها، في العام 1999، وكانت حينها بين حزب التجمع، برئاسة مؤسسه الدكتور عزمي بشارة، وبين الحركة العربية للتغيير برئاسة الدكتور احمد الطيبي، وحتى أيامنا هذه. فمن كان منكم بلا تلك الخطيئة له سبق الطهارة.

يدّعي البعض على أن تفكيك القائمة المشتركة وخوض حزب التجمع الانتخابات في قائمة منفصلة سيزيد من فرص التنافس السياسي بين الأحزاب الثلاثة، وهذا بحد ذاته سيشكل حافزًا، داخل جميع المعسكرات، لدى مجموعات من مقاطعي التصويت ودافعًا لعودتهم الى طريق الصواب، مستنهَضين بعصبية حزبية جاهزة، ودفاعًا عن كرامة وطنية كانت معطّلة، بسبب ظروف أملَتها ضرورت مرحلة آفلة!

لن نعرف صحة هذا الادعاء ولا نتائج فك الشراكة الثلاثية على مصير القوائم العربية إلا بعد الانتهاء من فرز الاصوات واعلان نتيجة الانتخابات. ومع أننا قرأنا فعلا عن نوايا مشاركة فئات محدودة من المقاطعين في الانتخابات القادمة، كل ومبرراته، قرأنا أيضًا أن معظم استطلاعات الرأي المعلنة حتى يوم كتابة هذا المقال، ما زالت تؤكد على عدم حدوث انقلاب جاد وملموس على نسبة المصوتين؛ لا بل يخبرنا المحللون أن مثل ذلك الانقلاب لن يحدث اذا لم تنجح قيادات قائمة “حزب التجمع”، وقائمة “الجبهة والتغيير”، بنكش وعزق رواسب الماضي، وباجتراح برامج نضالية سياسية جديدة وواقعية وواضحة ومقنعة، تتعدى الخطابات المكرورة والتشديد على الفوارق بين شعاري القائمتين “الكرامة” و”التأثير بكرامة”، بالرغم من أهمية تلك الفوارق وما سيترتب عليها في المستقبل، سياسيا وعمليا، حيال اداء كل حزب من الحزبين ودوريهما في خدمة المواطنين والدفاع عن مصالحهم وحقوقهم.

كانت وستبقى قضية مقاطعة المواطنين العرب للانتخابات البرلمانية الاسرائيلية من اهم العوائق في وجه الاحزاب العربية التي تختار العمل البرلماني كأحد الروافد النضالية في خدمة الجماهير ودفاعًا عن حقوقها من خلال تمثيلها أمام مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من وضوح تأثير هذه القضية على مصائر الاحزاب كلها، وتبعاتها على شكل العلاقات المستقبلية بين مجتمعاتنا ومؤسسات الدولة، لم ينشغل فيها قادة تلك الاحزاب ومؤسساتها التنظيمية ولم يحاولوا معالجتها وتفكيكها الا في أوقات وقوع المعركة الانتخابية.

ليس من الصعب أن نعدد قائمة المسببات التي تدفع المواطنين العرب الى حالة العزوف التام والنأي عن الانخراط في الحياة السياسية الاسرائيلية؛ فبعض تلك العوامل يتوالد بيننا ويتكاثر في واقعنا ومواقعنا بينما تصدّر الدولة ووكلاؤها ما ينقصنا منها، ليكتمل ويتكامل مشهد المقاطعة مع استراتيجية الاقصاء المتعمدة من قبل من يتأهبون للانقضاض على مقاليد الحكم بعد الانتخابات مباشرة. وفي غياب ما يحيّد جميع هذه “المحفّزات” تصبح مقاطعة الانتخابات هي الخيار الطبيعي عند نصف المجتمع على الاقل مما يضع جميع الأحزاب في خانة خطر السقوط والفشل.

لقد سمعنا مؤخرا النائب سامي ابو شحادة، رئيس حزب التجمع الديمقراطي، يعلن بثقة على الملأ بأن قائمة “الجبهة و التغيير” والقائمة “الموحدة الاسلامية” قد ضمنتا عبور نسبة الحسم. لا أعرف ما هي المصادر التي اعتمدها النائب ابو شحادة عندما اعلن تصريحه بثقة واضحة، وطلب من الناخبين، بناء عليه، التصويت لحزبه كي يضمن نجاحه أيضًا. من الواضح أن اعلانه المذكور لا يعتمد على معطيات حقيقية وموثوقة، هي ليست ولن تكون موجودة أصلاً، وقد يندرج تحت باب التكتيك الانتخابي فقط؛ فهو يعلم، مثل الكثيرين، بأن نجاح الاحزاب الثلاثة في جولة الانتخابات القادمة لن يتحقق اذا لم تتزايد نسبة المصوتين العرب بشكل حقيقي؛ وهو يعلم ايضًا بأن عدد الناخبين العرب المسجلين في سجل الناخبين يناهز المليون ناخب، علينا ان نخصم منهم، مائة وخمسين الف ناخب، على الأقل، لا يصوتون للاحزاب العربية؛ وهو يعرف كذلك ان كل قائمة ستكون بحاجة الى ما يقارب المائة وخمسين الف مصوت كي تعبر نسبة الحسم، وهذا لن يتحقق لقائمتين في المعطيات الحالية. اننا امام مشهد سياسي خطير وجديد لا نستطيع تحديد مآلاته المستقبلية اليوم.

يحاول البعض التهجم على من يحذرون من خطورة اعتلاء اليمين الفاشي الى سدة الحكم، وهو الاحتمال الاقرب الى الواقع. لا اعرف كيف يبرر هؤلاء استخفافهم بمخاطر ميليشيات الفاشيين القادمين وبمخططاتهم ؛ بالرغم من اننا نواجه كل يوم عينات من ممارسات هذه الميليشيات، التي سبقتها تصريحات قيادييهم المعلنة؛ هذا علاوة على ما علّمنا تاريخ الحركات الفاشية التي قيّض لها ان تحكم في دولها، وتضطهد وتقمع وتريق دماء كل من وضعتهم في خانات الاعداء.

وكما قلنا في مرات سابقة من حق كل مواطن أن يقاطع الانتخابات، ومن حق الحركات السياسية المعارضة للتصويت أن تدعو مؤيديها وتحثهم على مقاطعة الانتخابات، ولكن من حق شعبهم عليهم أن يعرف ما هي برامجهم في مواجهة الخطر الفاشي الداهم، وكيف سيذودون عن مجتمعاتهم في حال شرعت زمر الفاشيين يتطبيق قوانينها وشرائعها الدموية؟ وان كان شعار بعضهم مرة “قاطع لتحمي شعبك”, نقول لهم كيف ؟ والاصح أن نقول : “صوت تحمي حقوقك”.

يعيب علينا بعض المفكرين والمحللين أن نحذر أهلنا من الآتي، وأن نخاف على مصائر أولادنا واحفادنا في وطن لم يعرف من النصر الا “نونه” وهي مجرورة بهاءات الهزائم. فللأنقياء من اولئك، بخلاف المزايدين والمفسدين، أقول: لا تقسوا على من لا يجيد السفر مثلكم على جوانح الغمام، ومن يخشى النوم على أنوف السيوف.

فلكَم تمنيت أن تكون هذه الذئاب مجرد مخلوقات كابوسية، لكنني في كل مرة التفت أتذكر كيف كانوا قبل حفنة عقود مجرد كمشة “اعشاب ضارة” فصاروا غابات ضارية؛ وتذكرت ايضًا بئر “الدرويش” الراقدة في حضن طليلة البروة، وهي تبكي حصانًا قضى وحيدًا على حفافها، عندما كان الحالمون يمضون شرقًا ويحملون في صدورهم تناهيد وطنية، وقربهم ملآنة دموعًا ووعودًا وحسرات.

فاحلموا يا اخوتي كما تشاؤون ودعونا واقفين على محطة القطار قبل أن يسقط مجددا عن الخريطة. فأنا اتابع الاخبار مثلما يفعل السجناء، واسمع كيف تتساقط الاماني عند عتبات الأمل، وفي ساحات البلد، واسمع قهقهات الشياطين صارت قريبة من مخادع أولادنا، واسمع أيضًا كيف ينقضّ عَمرنا على زيدنا، وجيوشهم نائمة على كتف السماء تترقب رعد الأساطير الباردة.

كم أريد أن أحلم أنا أيضا، ربما مثلكم أو ربما أكثر؛ فمن قال إني لا أريد أن يتمسك الناس، كل الناس باحلامهم؛ فللقوميين أن يحلموا “بوطنهم حبيبهم، الوطن الاكبر ” وبتحرير القمر وجزره؛ وللاسلاميين أن يحلّقوا كي يستعيدوا الاستانة ونيسابور وقرطبة، وللاوفياء أن يستحضروا في صلواتهم وفي أعيادهم بيسان وأم الرشراش والبصة ويمطروها أيام عودات. ولي أن أحلم بأنّ دوريّ صغير ينقر شباك بيتي لينبئني بولادة قلبي من جديد، وأن ينام حفيدي على زندي المتعبة وفراشة عسلية تقبل جبينه كمسحة ملاك.

صوّتوا كي تحموا حقوقكم؛ واحلموا كما شئتم. فمن يجرؤ على وأد أحلامنا، وهي حليب الجائعين الخائفين من مواضينا الخائبة؛ وهي سعاداتنا المؤجلة وطريقنا الآمن نحو غدنا المرتجى.

وإن اختلفنا فلنختلف في الليل حيث “يضيق الفارق ويتسع التأويل” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى