قراءة في رواية شيفرة بلال للدكتور أحمد خيري العمري
بقلم: عفيف قاووق | لبنان
بقدر ما هي رواية بسيطة وسهلة بلغتِها، ومترابطة بإنسياب أحداثها، بقدر ما هي عميقة بدلالاتها وبالمواضيع والمحاور التي طرحتها.
حسنأً فعل الكاتب الدكتور أحمد خيري العمري، عندما أسند مهمّة كتابة سيناريو فيلم بلال الحبشي إلى شخصية كأمجد الحلواني الذي يُجاهر بإلحاده، مما أتاح للكاتب فرصة التملّص من أن تعتبَر الرواية دينية، بل إن إسناده دور الكتابة لأمجد، هذهالشخصية المحايدة حتى لا نقول البعيدة كل البُعد عن الدين، فإن الرواية ستكون بلا شك ببعدها الإنسانيّ والفلسفيّ،معتمدة فقط على معلومات وأحداث تاريخيّة قابلة للنقاش والسجال الفكريّ، وتُتيح الفرصة لطرح الأسئلة حول الكثير من القضايا، وحتى حول وجود الله من عدمه.وأيضا تسمح بإجراء إسقاطات معاصرة وربطها بالماضي البعيد، ومن هنا جاء الربط بين العبودية التي كانت سائدة في العصر الجاهليّ وما تلاه، وبين العنصريّة الظاهرة حيناً والخفيّة حيناً آخر في عصرنا الحالي. وقد كان الكاتب موفّقاً في إقحام رواية “جذور” للربط بين هاتين الظاهرتين.
المتصفّح للرواية، لا بدّ أن يكتشف العديد من النقاشات الفكريّة والثقافيّة والفلسفيّة، ومنها عمليّة الربط بين صخرة أميّة التي وضعها على صدر بلال الحبشي، وبين صخرة سيزيف الواردة في الاسطورة. ليس هذا فحسب بل ذهبت أبعد من ذلك لتقول أن على صدر كلّ منّا صخرة كواحدة من هاتين الصخرتين، بل وربّما في نفس كل واحد منّا أميّة أو بعضاً من أميّة.
الثابت في حياة بلال الحبشي أنه كان عبداً لأميّة آمن بالدين الجديد، ولكي يردّه أميّة عن إيمانه، وضع على صدره صخرة بعد تعذيبه، ولكن جواب بلال الذي لم يتغيّر كان “أحد،أحد”. أمّا رواية جذور، تحدّثنا عن الفتى الأسود كونتا كنتي والذي إستُعبِد من قبل سيّده الأبيض، الذي شاء تغيير إسمه إلى توبي، لكنه رفض فتعرض للألم والتعذيب والجلد بالسياط لكنه في نهاية الأمر أذعن وقبل الإسم الجديد، في حين أن بلال لم يذعن وبقيَ يقول أحد أحد، وهذا دليل على أن الإيمان الصادق بالله أهم وأعظم من الإيمان بأيّة قناعة فرديّة او شخصيّة.
الربط بين صخرة بلال وصخرة سيزيف يُعبّر عن المقارنة بين العبث الذي تعنيه صخرة سيزيف، وبين التحمّل والألم من أجل الحرّيّة التي أنتجتها صخرة بلال. ونجد في بداية حياة لاتشيا والدة بلال النيويوركي،التي نشأت في سانت لويس أحد أفقر أحياء ولاية ميسوري، نجد دليلاً على البيئة السيزيفيّة التي جعلتها هي وغيرها من سكان الحيّ، تقضي حياتها في دحرجة صخرة الفقر والعوز إلى الإعلى ثم إعادة دحرجتها مجدّداً.
وفي إشارة ولو عابرة إلى العلم والإيمان،يقول أمجد “لم يكن والديّ مؤمنين، لم يعلِنا إلحادهما، لكنهما لم يتحدّثا عن الإيمان، والدي أكاديميّاً يؤمن بالعلم، أمضى عمره في المختبرات، ولم يجد الله في أنبوب مخبري، وكذلك والدتي الحقوقية عملت في المحاكم وشهدت على أنواع كثيرة من الظلم الموجود في العالم على نحوٍ لا يمكنها من أن تؤمن بإله عادل في ظلّ هذا الكمّ من الظلم.
السؤال الآخر الذي طرحه بلال النيويوركي هو “هل أن الدافع وراء إيمان العبد بلال الحبشي هو فقط طمعه بتحريره من العبودية” ، بمعنى إذا كان الجواب بالإيجاب فسيكون الإيمان ناجماً عن صفقة بيع وشراء. لذا نجد أن الدين لم يمنع الرقّ بل عمل على تقنينه والحدّ منه تدريجيّاً، ليصل إلى معادلة الجميع عبيد وكلّكم عبيدً لله الواحد، وبهذا يستوي العبد مع الحرّ.
نقاش آخر من وحي رواية جذور جرى بين المعلمة لاتشيا والمستر وايد المعترض على إعادة تدريس هذه الرواية التي تتحدّث عن العنصريّة وعن السيّد الأبيض، والفتى الأسود المستعبد كونتا كنتي، كونها كُتبت عن زمنٍ مضى، والآن الأمور تغيّرت بوصول رئيسٍ أسود الى الولايات المتّحدة الاميركيّة. ليكون ردّ المعلمة بأن العنصرية لا تزال موجودة وإن كان بشكل يصعب إثباته قانوناً،والعنصريّة بشكل أو بآخر أقرب إلى عبادة الأصنام اللامرئيّة ولكنّها كامنة في النفوس، فالصراع الأصعب ليس مع القانون الذي حرّر العبد، ولكن مع الأصنام الصغيرة في النفس البشريّة،مدعّمة رأيها بأمثلة عديدة، فالسود دوماً في دائرة الشُبهة، مثلاً السائقون السود يتعرّضون لإيقاف سيّاراتهم بنسبة أكبر من إيقاف سيّارات البيض، وعندما يرغب أحد السود بشراء منزل في حيّ للبيض، يتم وضع العراقيل أمامه للمحافظة على بياض هذا الحيّ وغيرها من الأمثلة الدّالة على عنصريّة مقنّعة، وبالقانون.
نظرة فلسفيّة حملتها المقاربة التي أتت بها الرواية ولا ندري مدى ملاءمتها، وهي المقارنة بين الحلم الأميركيّ والهجرة النبوية إلى المدينة، لقد حاول أمجد المقارنة بين الهجرة التي صنعت أميركا والتي جمعت أشخاصاً من مختلف الأعراق والألوان وبقاع العالم ليتوحّدوا على الحلم الأميركيّ، وبين هجرة المسلمين إلذي كان منهم العربيّ والفارسيّ والأثيوبيّ، ليبدأوا بتأسيس حلمهم الجديد،فكلتا الهجرتين تحمل الأمل بالتغيير والمساواة بين الناس دون النظر إلى الإختلافات في العرق او اللون او البلد.
” لا نجوت إن نجا” عبارة أطلقها بلال الحبشيّ عندما واجه أميَة في المعركة، أقتبسها بلال النيويوركيّ وعمل بها في معركته مع زميله بالمدرسة جون واشنطن والذي كان دائم التنمّرعليه، ويناديه بصاحب المؤخرة السمينة، تذكّر عبارة “لا نجوت إن نجا”، وتقدّم نحو جون، ولكمه بقبضة يده لكمة كسرت أنفه، وتحرّر بلال النيويوركيذ من صخرة “جون–أميّة” التي ربضت على صدره طيلة سنوات زمالته بالمدرسة.
الموضوع الآخر الذي عالجته الرواية تمثل في الإلحاد الذي يدّعيه أمجد الحلواني او يتظاهر به، هو بلا شك نتيجة لنشأته في بيت غير متدين وإن كان ابويه من أصول مسلمة، لكن كان تعاملهما مع الدين تعاملا سطحيا او شكليا، لدرجة ان القرآن الكريم مجرد كتاب موضوعا على رف المكتبة إلى جانب كتال أصل الأنواع لداروين وإن كان القرآن قد وضع بشكل لافت أكثر، ليس هذا فحسب ففي نفس المكتبة وعلى رف مواز إصطفت بعض أواني النبيذ والمشروبات التي هي بالأصل محرمة تبعا لتعاليم هذا الكتاب، وكأن وجود هذا الكتاب وغيره من الكتب ما هو إلا شأن ثقافي ليس إلا ولا يعبر عن الإيمان والتدين لمن يقتنيه.
من هنا نستطيع القول أن إلحاد أمجد الحلواني ما هو سوى ردة فعل عكسية على الصورة المرعبة التي ألحقت بالدين سيما بعد أحداث 11 أيلول وما تلاها من أحداث وممارسات مستنكرة، وكأن أمجد بذلك أراد التبرؤ من هذا الدين الذي يوسم بالتعصب والإرهاب.
أمجد الحلواني لم يتعرف على الدين الحق حتى يقبله أو يرفضه بشكل علمي أو عقلاني، وإذا كان يرفض أو ينكر وجود الله فإنه حقيقية يرفض الله كما قدّمته الأديان بصورة مشوهة او مجتزأة وأحيانا مرعبة، فهو مقتنع تماما كما قالت له كريستين بأن الملاحدة لا يقدمون أجوبة حقاً وإن أجوبة الدين قد تكون غير مقنعة في أغلب الأحيان ولكن في النهاية فإن الدين يقدم تلك الأجوبة وهذه نقطة لصالحه. ألم يقل له عبدول ان في مجتمعه (مجتمعاتنا) ربما هناك ملحدون أكثر من هنا، ولكن إلحادهم هو ردة فعل نتيجة الكبت والقمع الذي يمارسه رجال الدين، هو هروب ممن يدعّون إنهم يمثلون الله وليس هروباً من الله بحد ذاته.
لذا فإن إلحاد أمجد الحلواني كان إلحادا هشاّ غير قائم على مرتكزات علمية وأساسية، لذا نراه عندما توغل في تفاصيل حياة بلال الحبشي لأجل كتابة سيناريو الفيلم بدأ يعيش حال من الصراع الداخلي وبدأت الأسئلة تحاصره محاولا تجنب الإجابة على بعضها وهذا ما حصل معه عندما تغاضى عن إخبار بلال النيويوركي بكلمات الآذان او الصلاة لأنه في حالة صراع بين معادلته التي يؤمن بها وهي “لا إله” وبين معادلة الدين “لا إله إلا الله”.
هذا الهروب أو الصراع الذي عاشه أمجد، تعرض لإهتزاز كبير قلب كل موازينه وجعلته يعيد حساباته ويقترب من الإيمان عندما قرأ ما كتبة بلال النيويوركي عن الأب، وكيف ربط بين بين الله والاب ببساطة مذهلة، لديك أب إذن لديك ربّ، فالأب يشبه الله في نواحٍ كثيرة فهو موجود طالما الإبن موجود حتى ولو لم تتسنى لهذا الإبن فرصة رؤيته، كذلك الرب فما دمت موجودا فلا بد ان هناك من صنعك وأتى بك إلى عالم الوجود، هذه المقارنة التي أجراها بلال النيويوركي في رسالته جعلت أمجد يجد الجواب الشافي الذي يؤرقه ويقول ” لم أحدد من هو الإله الذي أصلي له لم أعرف بعد، لكن ثمة إله، ثمة خالق لهذا الكون.والآن ربما أعرف كيف بدأت القصة.
اما بشأن أمنية الحياة التي سألت عنها الرواية، اجيب عنه بما كتبه جون كيتس لحبيبته فان براون، متمنّياً أن يكونا فراشات لم تعِش إلّا ثلاثة أيّام صيفيّة، تحتوي من السعادة ما لا يمكن لخمسين عاماً إعتياديّة من أن تحتويه، المهمّ أن يترك الإنسان أثراً بعد موته، أثراً يجعل لحياته التي عاشها معنىً وجدوى، هذا الشاعر عاش بمنطق الفراشة سنواته الخمسة والعشرين، مات قبل أن يموت أغلب شعراء عصره، لكن شعره بقي مخلّداً أكثر من أشعار غالبيّتهم. وبهذا المنطق، عمل بلال النيويوركيّ وأمّه على جعل هذا الأثر خالداً وباقياً بعد مماته، من خلال المدوّنة التي حملت إسم “شيفرة بلال” ضمّنها كلّ رسائله التي وجهها الي أمجد وأبيه، وأيضا إلى الله ،وإلى مرض السرطان الذي تحدّاه وقال له ستموت وتنتهي بمجرد ان أموت أنا.وغيرها من الرسائل التي حملت الكثير من الرسائل والشيفرات في شيفرة بلال هذه.
ختاماً نقول أن رواية شيفرة بلال، جعلتنا نعيد النظر في ذواتنا، لنكتشف كمّ من صخرة جاثمة فوق صدورنا بمسمّيات مختلفة، صخرة التقليد الأعمى،صخرة الإنجذاب للغرب، صخرة الأنانيّة وحبّ الذات، صخرة التعصّب الطائفيّ او المذهبيّ، أم صخرة الولاء المطلق للزعيم هذه الصخور وغيرها هل سنبقيها كصخرة سيزيف أم نحوّلها لصخرة بلال ونقول معه أحد أحد؟ لا مكان بعد اليوم للصنميّة ومصادرة حرّيّاتنا بشتّى أنواعها.