عنترة القرن العشرين
خالد رمضان | كاتب تربويّ
أجبني يا عنترة، هل حقا أحببتها حتى الثمالة؟ أم كانت نشوةّ اعترتك؟أو سكرةّ غمرتك؟ أكنت صادقا حينما أشعرتَ وأفضت، ووصفت فأوفيت؟ وهل تذكرك لعبلة تحت صليل السيوف، وتطاير الأشلاء، وارتفاع الغبار، واشتداد الأنواء كان حقا من نياط قلبك، وشريان وجدانك؟ أم تلك وساوس زخرفها لك شيطانك؟.. ألست القائل:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ما أروعك يا فارس بني عبس وأنت تكتم الحسرات في أعماق قلبك الأبيض، وتجهد في إخفاء حبك، وقسمات وجهك الأسمر تفضحك، وكلماتك المتناثرة على شفاهك تكشفك، فالحب أيها الصبّ لا يحتاج إلى دليل أو برهان.. ألم تقل في وصفها:
فيهن هيفاء القوام كأنها
فلك مشرعة على الأمواج
يا فارس بني عبس لم يكن الرق حاجزا بينك وبين محبوبتك الغراء الفرعاء، بل على النقيض، كان دافعا رئيسا لتكسير تلك الأغلال التي عشت ترسف فيها .
إن عبلة القرادية لم تتأفف يوما من سواد لونك، ولا تعرجات شعرك، ولا ازدراء قومك لك ولعبوديتك، إنما أحبت فيك نفسك السامية، وأخلاقك السامقة، ومشاعرك الصادقة، تلك هي التي مست شغاف قلبها، وعزفت على أوتار وجدانها.
فما أروعك حين تقول لها:
هلا سألت الخيل يابنة مالك
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ورغم الإهانات والإساءات والمعايرات التي نالتك، لا تجد من تلك النفس النقية الزكية إلا الحب والتضحية، وكأنه يقول لهم:
أرضي وإن ضاقت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرام
حقا يا فتى، لقد كنت عفيفا شريفا، لم تتطلع إلى تلك اللعاعات الفانية، ولا الأسلاب العارمة، فزدت في عينيها رقيا فوق الرقي، ومكانة فوق المكانة.. ألست القائل؟
لي النفوس وللطير اللحوم
وللوحش العظام وللخيالة السلب
إن ذلك الحب الذي غمر قلب عبلة إنما يكشف عن كرم طبعها، وسماحة نفسها، ونبل فكرها، ونقاء سليقتها، وصفاء لبها، إذ نظرت إلى عنترة بعين غطى الحب عليها، فباتت أسيرة ذلك الحب، وارتمى هو في شباك عينيها، فلا يناديها إلا سيدتي .
يا عنترة أنت لم تأسر قلب عبلة وحدها، بل سحرتنا جميعا بعظيم خصالك، وكريم فعالك.. ألست القائل؟
لا تسقني كأس الحياة بذلة
بل واسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياه بذلة كجهنم
وجهنم بالعز أطيب منزل
وكأنك يا فتى تنظر من سجف الغيب، فتنشر تعاليم الإسلام قبل قدومه، من عزة النفس، والتضحية من أجل الحق، وعدم الرضوخ للباطل والبهتان.. فما أجملك وأنت تنثر درر الحكمة، وعصارة الحياة، فيتعلم منها القاصي، والداني .
حكم سيوفك في رقاب العذل
وإذا نزلت بدار ذل فارحل
موت الفتى في عزة خير له
من أن يعيش أسير طرف أكحل
قد طال عزكم وذلي في الهوى
ومن العجائب عزكم وتذللي
ما كنت يا أسمر اللون فاحشا، ولا بذيئا، بل عفيفا أمينا… ألم تقل:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مثواها
وقلت أيضا:
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المأكل
ولا زالت بصمات ذلك العَلَم السني جلية واضحة حتى عصرنا هذا، بكلماته المذهبة، وحكمه الثاقبة، بل وفي منطقة الجواء بالمملكة العربية السعودية صخرة لعنترة، عليها أشعار له، تعد مزارا سياحيا إلى الٱن .
لم يكن عنترة مجرد شاعر، وفارس، بل كان ذا خلق، وسماحة، وحياء، وتواضع، فقد سأله فارس يوما فقال: علمني يا عنترة معنى الشجاعة،
فقال له عنترة: ستضع إصبعك تحت أسناني، وسأضع إصبعي تحت أسنانك، ولننظر من الأقوى؟ ففعلا، حتى صرخ الرجل، ونزع إصبعه، فانظر ماذا قال له عنترة؟ لم يعيره بأنه الأضعف، وأنني الأقوى، بل قال له:
لو لم تنزع إصبعك لنزعتُ إصبعي،
فأراد أن يعلمه أن الشجاعة تعني قوة التحمل.
وفي الأخير أقول :
ماذا لو وُجد عنترة في الألفية الثالثة؟
هل كان سيظل على ما كان عليه من قيم، ومبادئ راسخة؟
أم كان سيذوب في زحام التكنولوجيا الحديثة، فينشغل بالموبايل، والكمبيوتر، والإنترنت؟
هل كان سيظل على حبه لعبلة؟ أم كانت ستجذبه الفاتنات الغانيات الساحرات وصنوف اللهو والترهات؟
هل كانت عبلة ستبقى سيدته وملهمته ومعشوقته؟
أم كانت ستأسره نجمةٌ سينمائية، أو مذيعةٌ تليفزيونية؟
إن البيئة الأعرابية الجاهلية كانت ولا شك بيئة نقية هنية، يسبح فيها الفكر، ويغوص فيها العقل؛ ليخرج من مكنوناتها، ويتمتع بمدخراتها، فتتفتق فيها المواهب الدفينة، وتستقيم فيها الأساليب الركيكة، فهي أنقى وأصفى وأدعى لما كانوا عليه، وما وصلوا إليه .
ونختم ونقول: إن الدنيا مازالت بخير فلكل زمان علماؤه، وأدباؤه، ونبغاؤه .