كيف أُفَسِّرُ نَصًّا

عبد الله جمعة | شاعر وناقد وأديب سكندري | مصر

رُبَّمَا أكونُ قد ألزمتُ نفسي بما لا يلزمُ عندما أتعرَّضُ لنَصِّ أحد الشعراء كي أقدم فيه قراءة تفسيرية أو ما يُطلِقُ عليه النُّقَّادُ دراسة تحليلية .

حينَ يَلْفِتُني نَصٌّ مُبْدِعٌ أقرؤه ما لا يقلُّ عن أربع مرات بتأنٍّ شديدٍ و قد يزيدُ . بين كل قراءة و أخرىٰ فترة زمنية كافية قد تستغرقُ كل فترة يومًا كحدٍّ أدنىٰ حتى أتلقاه بمستويات نفسية مغايرة حتى لا تتدخل دوافعي النفسية في توجهات النص و مع كل قراءة من القراءات المذكورة أدون ملاحظاتي التي برزت أمامي في النص …

في المرحلة الثانية أقوم بجمع تلك الملاحظات التي دونتها مستنبطًا إياها من النص و أقوم في هذه المرحلة بانتخاب الملاحظات التي أتحرى جاهدًا أن أستبعد منها ما أراه متأثرا بتقلباتي المزاجية ؛ فقد أكون في القراءة الأولى قد دونت ملاحظة ما على حدث درامي ما داخل النص و في القراءة الثانية دونت ملاحظة مغايرة على ذات الحدث الدرامي و كذلك في القراءة الثالثة و الرابعة أيًّا كان عدد القراءات التي قرأتها حتى أصل إلى عدد من الملاحظات المدونة قد تحريت بكل جهدي موضوعيته .

في المرحلة الثالثة أعود إلى قراءة النص بغرض المعايشة لدرجة تجعلني أعيش حالة النص و كأنني أنا من نسجه لدرجة يسيطر عليَّ النصُّ سيطرة كاملة فقد أروح و أغدو أردد النص محدِّثًا به نفسي و في تلك الفترة أخنق كل المثيرات التي تستفزني كشاعر و لا أنتج أي تجربة شعرية تخصني ؛ لأنني في تلك الفترة أكون متلبِّسًا الشاعر صاحب النص و حالته و أي تجربة شعرية ستخرج مني ستكون مسخًا من شاعر النص الذي أعايش تجربته .

في المرحلة الرابعة أشرع في البحث عن مولج لدخول النص ؛ إذ يقوم منهجي التفسيري على أساسين في ولوج النص بغية تفسيره:

(الأول) ولوج أفقي: و أعني به ولوج النص بغرض تفسيره من كافة وجوهه و هذا في منهجي مُتَنَحٍّ بأغلب الحالات إلا إذا كنت بصدد تأليف كتاب خاص في هذا النص أو تقديم بحثٍ كبير فيه و هذا لم يحدث لي إلى الآن فلم أُفْرِدْ مُؤَلَّفًا خاصًّا لنص واحد ، و مرجع ذلك عندي أن النص حياة و لا يمكن لمفسر أن يقدم تفسيرًا للحياة بكل مفرداتها ؛ ففي النص جوانب سوسيولوجية و سيكولوجية و أنثروبولوجية و تاريخية و جغرافية و كيميائية و فيزيائية و علاقات ما بين صداقية و أسرية و عملية و نفسية … إلخ ، ثم أدوات تعبيرية لا تقف عند حدود معجم مفردات النص بل تتعداها لعناصر صوتية بكل العلوم التي تندرج تحت مسمى الصوت من عروض لقافية بكل ما يتفرع عنهما للوقوف على علم الأصوات النطقي لعلم الأصوات التشكيلي للمعملي ثم الوقوف على درس النص صرفيًّا و تركيبيًّا و دلاليًّا ….. إلخ من عناصر لا تنتهي..

إذن فذلك الولوج المنهجي غير مأمول ولا يوجد ناقد أو مفسر يستطيع هذا .

 (الثاني) ولوج رأسي: و هذا هو المأمول و المستطاع و المعقول ؛ فأبدأ في البحث عن مولج رأسيٍّ أرتكز عليه لأغوص من خلاله حتى أبلغ آخرَ مَدَىً لتفسير ذلك العنصر …

في المرحلة الخامسة أقوم باستحضار كل الأسس المنهجية و العلمية التي تعزز عملية ولوجي للنص رأسيًّا و أقوم بتدوينها أمامي في صورة مذكرات أكتبها يدويًّا مستعينًا بكل المراجع التي ستخدمني لتفسير ذلك العنصر . و سأضرب مثالا :

إن كنت قد اخترت ولوج النص مثلاً من المولج الدلالي أستحضر كل ما تحت يدي من مراجع في الدلالة و السياق و الحقول الدلالية و التحليل التجزيئي للمعنى و العلاقات الدلالية و أسباب التغير الدلالي وأشكال التغير الدلالي و مجالات التغير الدلالي و أدون ما يخدم دلالة النص منها مكتوبًا بخط يدي لتساعدني في تفسير العنصر الدلالي الذي اخترته لتفسير النص رأسيًّا كما ذكرتُ .

أضع تلك الملاحظات ثم أنتخب من النص العناصر التي سأطبق عليها تلك المدونات الخطية التي جمعتها غير متناسٍ روح النص و دراماه الكلية حتى أنتهي .

في المرحلة السادسة أجمع تلك الأحكام التي جمعتها و سجلتها في هذا العنصر الذي اخترتُ و أشرع في الصياغة الأدبية النهائية التي سأقوم بنشرها لجمهور القراء .

في المرحلة السابعة أقوم بمراجعة ما صغته من تحليل فأضيف و أحذف واضعًا النص أمامي حتى أراعي أثناء الحذف و الإضافة عدم تشويه الروح العامة للنص .

هنا أشعر بالراحة و أن ما سجلته يستحق أن ينشر على الجمهور .

قطعًا كل هذا يكون مقتطعًا من حياتي و عملي و أسرتي و متطلبات حياتي و لكني كما أخبرتُ سابقًا لم أعرف إلا الإتقان و لا أحيد عنه …

لذلك فلا يتعجبن أحدٌ أن أعلن أنني سأبدأ في تقديم تفسير لنصه ثم أتأخر و يطول بي الأمد … و حتى أكون صادقًا ؛ فإنني – في أحيانٍ قليلة نادرة – يصيبني الملل و ربما يأخذني شاغل حياتي يخص عملي و سعيي وراء العيش فأنصرف عما أنا بصدده رغمًا عني خاصة و إنني أقوم بكل هذا الجهد حُبًّا و استمتاعًا غيرَ مأجور عليه ، و في أحيان أخرى و بعد الانتهاء من صياغة تفسير لأحد النصوص أجده قد احتمل أفكاراً جديدة غير مسبوقة فأضنُّ به على النشر على صفحتي و أختزنه ليصدر في أحد مؤلفاتي و حين يحصل على توثيق رسمي أبدأ بإظهاره على الملأ و هذا يرجع إلى أننا في زمان كثر فيه اللصوص المتبجحون الذين يسرقون الأفكار ثم – و بمنتهى التبجح – يأتون متهمين إياي بسرقة أفكارهم و ما حدث بالأمس القريب ليس بعيدًا عن كل متابعي صفحتي و لولا أني كنت أمتلك التوثيق لنجح ذلك اللص أن يثبت لنفسه ما هو من بنات أفكاري بمؤامرة دنيئةٍ بدعم من بعض الأصدقاء للأسف .

إن الدافع الذي دفعني لكتابة هذا المقال أن بعضًا من إخوتي المبدعين يراسلونني طالبين مني أن أتناول نصوصهم بتقديم قراءات تفسيرية فيها و حين يأخذني الوقت و تأخذني حياتي عن ذلك أفاجأ بأنهم غاضبون معتبرين ذلك إهمالا مني … ظانِّينَ أن الأمر لن يستغرق مني سوى النظر لنصوصهم و تدوين كلمتي شكر و مجاملة كما يفعل الكثيرون .

إنني و في المقام الأول و الأخير أعمل من أجل تطبيق رؤاي التفسيرية التي وضعتها لنفسي و علاقتي بالنصوص لم تكن و لن تكون علاقات اجتماعية و إنما هي علاقات بحثية إذ أفتح صفحتي باحثًا عن نص يصلح لتطبيق رؤية ما أسعى إلى تحويل تنظيراتيَ إلى تحليل تطبيقي عليه .

فالأمر عندي ليس بحثًا عن علاقات اجتماعية بقدر ما هو سعي لتأكيد أفكاري التنظيرية معترفًا بمنتهى الوضوح أنني لستُ جهة منح أو منع للشاعرية فأنا أفقر من ذلك و لم و لا و لن أدعي ذلك لنفسي ، كل ما في الأمر أنني – إن جاز التعبير – باحثٌ عن نصوص تدعم أفكاري النظرية فقط و لا غير .

و ليس اختياري لنص دليلاً على قوته و ليس ابتعادي عن نص دليلا على ضعفه ، فأؤكد أنني لا أملك صلاحية المنح أو المنع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى