شاهد أمسية ” عُمان تجمعنا “.. في سوق عكاظ تحت خيمة الشيخ السفير هلال السيابي

ناصر أبو عون

لقد كانت خيمة الشاعر السفير هلال السيابي أوسع من مقاعد اتحادات ونوادي الثقافة العربية المنتخبة.. تحت خيمة السيابي ولّت شياطين الشعر المؤدلجة إلى أزقة العتمة، وتوارت خفافيش الكلام، وحضرت ملائكة البهاء ترتدي بياض الكلمات، وتتدثر القصائد بعباءات المحبة، وتُتلى الأوراد على دفوف الحنين إلى القومية العربية النائمة في أحضان الشعراء منذ مطلع الحبّ، وأتى الليل يمشي على صرحٍ ممردٍ من قوارِير ليجلس في حضرة الشعر والشعراء، وتداعت المعاني في لجّة الصمت وكشفت عن، تصاويرها البكر، وسطعت أنوار حروفها العذريّة، وتعرّت عن مكنونها موازين الخليل الفراهيدي.

تحت خيمة الشاعر هلال السيابي في نادي النخيل لم يطمث براءة الكلمات أنس يختال على موسيقى “البلاك ميتل”،ولم تتراقص طواويس أدعياء الحداثة، ولم ينعق طائر الفينيق في سماء القاعة؛ بل كان الشعر عربيًا وعروبيا بامتياز، كانت أبخرة الاحتفال بيوم اللغة العربية تعبق في سماء القاعة؛ فلمّا انتهى الكلام إلى لسان الشيخ الشاعر سالم بن محمد العبري؛ نعى اللغة، وحمل على ضحالة الفكر، وتراجع القيم، وأغطش في ليل الوحدة المذبوحة حتى العظم؛ وأعذر وأنذر بأننا ماضون إلى حتفنا ولابد من وقفة استنهاضية حتى لا يكون مصيرنا على شاكلة من وقع القول عليهم وقامت قيامتهم.

جلس السفير الشاعر السيابي فكان عن يساره البروفسور نائل حنون، وجلس التاريخ العربي بين يديه منذ انبلاج فجر الحضارة المسماريّة إلى عصر السقوط العاشر لبغداد في براثن تتار العصر؛ فكنس الغبار عن مصابيح الحضارة العربيّة المطفأة عمدا في عقول الأجيال المتعاقبة من شباب أمتنا بفعل خروجنا من خيمة الاستنهاض الحضاريّ والدخول طواعيّة نائمين ومنومين إلى حضن القرن الأمريكي وأكذوبة نهاية التاريخ على أيدي قراء الكف ودجالي العصر وأصحاب نظرية صدام الحضارات من أمثال صمويل هنتجنتون وفرانسيس فوكاياما.

فلما أتى الدور طائعا إلى الشيخ سالم بن محمد العبري استل سيف الوجع الدمشقي من غمده وحمل على ألسنة التطبيع والممالئة وأصحاب نظرية الإمساك بالعصا من المنتصف والذين كان خنجرا مسموما في الخاصرة الرخوة للأمة وطفق يخصف أسئلة الممانعة، ويجلو حراب المقاومة، ويشد قوس التحفز دفاعا عن مشروع النهضة الموؤدة في الصحراء العربية من المحيط إلى الخليج.

وفي معرض الحديث عن الاستنهاض القومي ارتأى الدكتور الناقد جمال فودة أنّ اللغة العربية تختضر على قارعة الأنظمة التعليمية العربية، وأن هناك مؤامرة ربما كونية على هذه اللغة المقدسة، وأن أبناءنا واقعين في حالة من الاستلاب والاستقطاب باتجاه حزمة من اللغات الأوربية بدعوى أنها لغات العلم والحداثة، وهذا يأخذنا إلى دهاليز مستقبل باهت المعالم غير معلوم النهاية وستفضي في النهاية إلى طريق مسدود لا طائل من السير فيه.

وعندما تطرق الحديث إلى النظام التعليمي العربي وهو أحد أذرع الاستنهاض القومي تحدث الدكتور محمود السليمي فكان بشوشا ضحوكا، وتحدث فألقى بذور الأمل في الأرض اليباب، وسقاها بالأمنيات الجسام، واستمطر سحابات البشرى في فيافي اليأس، واستطلع قمر اليقين في السماوات العربية المعتمة، واستحث شمس العروبة فأرسلت أشعتها واستضوأت الدياجير المتراكمة.

غير أن الأمل كان يشرئب برأسه وتطول عنقه تحت صيحة الدكتور عارف حمزة السوري المخضرم الذي عاصر هبّة الكرامة العربية منذ نهايات أربعينيات القرن العشرين، وانطلاقة مشروع الاستقال الوطني من المحيط إلى الخليج وصولا إلى الوحدة السورية المصرية ومكسورا في نكسة حزيران، ومنتصرا في تشرين الأول ومذبوحا على طاولة كامب ديفيد وأخواتها انتهاء بسقوط المشروع العربي على أيدي دواعش القرن الجديد.. ومازال الرجل يبتسم وهو الذي أطلق صيحة (عُمان تجمعنا) تحت خيمة الشاعر الشيخ السفير هلال السيابي.

ومن قبله كان الدكتور المنشتح علي درار الذي أتى حاملا السودان في كف يده اليمنى ويموسق على دفوف المحبة باليسرى فخرجت السمراء من عباءته (يوم طلت علينا الكل وقعوا سكاره سقطت في الحليب ما بينت له عكاره)، وظل يعرج بغزلياته على قلوبنا المكسورة، ويستنطق الحب المخبوء تحت جلودنا ويوقظ حبيباتنا النائمات في حجرات القلب من سباتهن منذ مطلع الحب.

فلما أفلت شمس المنشتح، حطت عشتار على كتفي الشاعر وائل محمود الحميد، فترجّل الشعر ونزل فاغتسل ما بين العاصي وبردى، وكشفت القصيدة عن ساقيها، وعزفت سورية لحن الشموخ، ونوطة الشآم على أوتار البزق الحزين.

ومن عشتار إلى جلجامش جاء نص الشاعر عبد الرزاق الربيعي مزاوجا في بنيته الموسيقية بين (التفعيلة المشحونة بالحزن)، و(قداسة الشعر) فأرّقَ اللغة وتشظَّتْ على سياقنها الكلمات التي تبرعمتْ على أفرع النص وتناسلت المعاني وسالت على جذوع الوحدة البنائية للقصيدة واستطاع الشاعر أنْ يصنع حالة خاصةً من الألم الممزوج بالألم في تضفير رائع يجيده ثُلّة من الشعراء الذين عجنتهم الغربة في أفران الاغتراب المصطنعة خصيصًا للشعراء العراقيين.

واستلم الراية الشاعر وسام العاني وكعادته يتفصّد جبينه شعرا عندما يركب أحصنة الخليل الفراهيدي، وتنزُّ البلاغة من أكمامه، ويجثو شيطان الشعر على ركبتيه في حضرة الموسيقى، وتخلع القبرات معاطف أحزانها لتستكين على زنديه.

وكان الشاعر الأردني سمير عبد الصمد الغائب الحاضر بين حنايا قصيدته التي ألقاها الأستاذ مجاهد عبد الله على طاولة القلوب المنبسطة حبا والمبسوطة فرشها عشقا لعُمان وأهلها، تتمدد أبياته الشعرية على آرائك الحنين، وتحلّق في سمائها القوافي بأجنحة من شوق يتجدد حضوره كطائر العنقاء يأبى أن يغادر عمان جسدا وروحا، وتاريخا لا ينسى.

وفي ختام اللقاء طلب المجتمعون سماع الشاعر الشيخ هلال بن سالم بن حمود السيابي فألقى قصيدته الفلسفية الصوفية: رؤى

أطلٌ حرفك فوار الصبابات 

كأنه  من – جمال – نقش نحات

///

ماضي الشباة ولكن في مضاربه

بعث الحياة  أحياء وأموات

///

كأنما هو في تدبيره ملك

يوحي إلى اأرض مكنونَ السموات

///

فاأرض مورقة حتى  خرائبها

والعرش مؤتلق من روحه الآتي

///

وبين ذين لأهل الشان اندية

من السمو بأعلام  ورايات 

///

ﻻ الضوء يكشف من أسرارها فلقا

كلا ، وﻻ البرق إﻻ بعض فلتات

///

وكيف يكشف ضوء البرق بارقه

ومصدر اأمر من بعض الخفيات

///

ﻻ ينجلي أبداً اﻻ ببارقةٍ

ﻻ تنجلي أبداً إﻻ بإخبات !

///

تعلٌق الأمرِ باأسباب مرجعه

لحكمة دونها عقل  الخليقات !

///

فإن أردتَ فرشتَ الهدب ممتطيا

سَرجَ الظلام بأنٌات  ورنٌات

///

أو ﻻ  فلست من الوادي بمقترب

وإن سبحت على آذيٌه العاتي

///

أنْ تشهدَ الشمس ﻻ يعني الوقوع بها

 فاعرف مقامك من عالي الثنيات

///

و خلّ نفسك ترعى في مسارحها

بين البهائم من تيسٍ ومن شاة

///

ما للكواكب في عالي السماء  سوى

كواكب اأرض أقطاب الإشارات

///

فلتفهم الأمر أجلى من ضحى لترى

مواقعَ الخطوِ في سَلبٍ وإثبات

       <<>>

يا أخوة الحرف  في وردٍ وفي صَدَر

ومبدعي القول بين الوصف والذات

///

أثرتموني ببوح” ظل يسكرني

ﻻ أبتغي بعده صحو “النهايات “١

///

وكيف بالصحو أن تبدو بوادره

وكاس خمري حولي رائحُات

///

والوجد مشتعل والحب مشتمل

على تواقيع أناتي وآهاتي

///

وبي من الأمر مالو طاف طائفه

على الجبال لأنٌت فوق أنٌاتي

///

٢حملته، ولهيب الوجد في كبدي

أشهى إلى النفس من كل السلافات

///

يعاين القوم حالي رحمة وأسى

ولو دروا  لرأوه خير حاﻻتي!

///

مالي ومالهم سكرى مباذلهم

وكأس خمري من نهر السموات

///

يرجّعون ، وترجيعي يضايقهم

شتان بين التصابي والصبابات !

///

من يألف العرش ﻻ يرضى التراب وإن

 يكن من الترب في أصل البدايات

///

أجل، خلقتَ من الترب القميئ على 

أن تستقلٌ السنا نحو المجرات

///

فما لهمك ﻻ يسمو  لمورده

أما اصطبتك مقامات السراوات

///

تعيش أخمل من ترب على جدث

خاوي المقام، بلا وصف وﻻ ذات

///

والنهج من ألقٍ يسبي العيون سناً

من دونه الشمس في ضاحي الأصيلات

///

أما سباكَ وعين الله ناظرة

به على كل سار أو سرٌيات

///

تقاذفته رجال ﻻ يهمهم

إﻻ الترقي إلى تلك المقامات

       <<>>

أخا بني الأزد قد حركت من شجني

وقد خبا بعد  عمر صائفٍ شاتي

///

صاحبته زمناً في شِرةٍ وهوىً

فذاب ما بين حالات محيلات

///

ولو فقهت سبيل الرشد لانصرفت

نفسي إلى الملأ الاعلى بإخبات

///

وكنت من قاب قوسين بمقربة

عالي السمو على سامي المقامات

///

لكن ولله منها أيٌُ شائنةٍ

قد أوسعتني جراحا في جراحات

///

رأى الكرام عروش العز مشرعة 

أبوابها فتداعوا للمنيفات

///

زمٌوا ركائبهم والنور ثالثهم

على نجائبَ من نفيٍ واثبات

 ///

يا ويح نفسي إذا سارت مواكبهم

إلى السماء على هام الكرامات

///

وخلٌفوني وحيداً وسطَ طامسةٍ

رهنَ التراب وهم فوق السماوات!

وفي نهاية اللقاء الذي أداره ورتّب له الشاعر أحمد بن هلال العبري ألقى قصيدة ووزع ديوانين له الأول بعنوان: (في أدنى القلب)، والثاني: (أناشيد الحياة)، وهنا نثبت بعضا من القراءة النقدية لهذا الديوان بقلم الدكتور المنشتح علي درار التي قال فيها: (وأنا أنتقل في عجالة بين دفات أناشيد الحياة وقفت على إخلاص الشاعر أحمد العبري للمدرسة حيث أدّى التحية لها وللعلم والعَلَمِ، كما نادى بالمجد للقلم، ثم عرّج الشاعر في ديوانه على أناشيد القيم، وكأنه بذلك يكمل رسم لوحة أناشيد الحياة التي لا يكون لها مغزى بلا قيم، فينشد نيل الطلب والقيادة الإبداعية، والإنصات من ذهب، وكان برُّ الوالدين والوفاء بالعهد والعلم والعمل من أبرز القصيد في أناشيد القيم التي وعد في خاتمتها بالوفاء بالعهد. وانطلاقًا من أن شاعرنا ظل يغرف من بحرٍ عبر لوحته الشعرية أناشيد الحياة، فقد وجد من بين ثنايا كتاباته ما يميل إلى العموميات فعنونها بأناشيد عامة، تناولها لتزدهي اللوحة الشعرية بها ممثلة في رحلة السلام، وأطفال الأسى، والسلامة على الطريق، خاصة عند نزول المطر حيث الوالد متكئ على عصاه يتأمل الطبيعة ومحيّاه كالبدر، وهو يتنسّم ذلك الخير الوارد من السماء).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى