سطوة الحب في رواية (أنقَذَني) للروائي الفرنسي غيوم ميسو
عليّ جبار عطيّة
يقول الروائي الفرنسي ستاندال (١٧٨٣م ـ ١٨٤٣م) : (الحب كالحمى يحل، ويرحل دون أن يكون للإرادة فيه أي دخل).
يقتبس الكاتب والروائي الفرنسي غيوم ميسو هذا القول فيجعله مدخلاً لأحد فصول روايته (أنقَذَني) التي صدرت باللغة الفرنسية سنة ٢٠٠٥م، وقد ترجمها الناقد والمترجم المغربي الدكتور محمد التهامي العماري، وهو متخصص في النقد المسرحي، وله ترجمات رصينة للكاتب الفرنسي ميلان كونديرا، خاصةً روايته الشهيرة (الخلود)، وكذلك (كتاب الضحك والنسيان)، و(الحياة في مكان آخر)، و(غراميات مرحة)، و(رقصة الوداع)، و(الهوية)، كما ترجم لغيوم ميسو رواية (بعد سبع سنوات).
صدرت رواية (أنقَذَني) في طبعتها العربية الثامنة سنة ٢٠٢٠م في المغرب ولبنان، وجاءت بنحو ٤٠٠ صفحة من القطع المتوسط.
ولد غيوم ميسو سنة ١٩٧٤م في أنتيب- فرنسا، وشغف منذ طفولته بقراءة الروايات والمسرحيات، وفي سن التاسعة عشر غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأقام في ولاية نيويورك لعدة أشهر، وعمل في بيع الآيس كريم لتغطية نفقاته، وتعرف إلى المجتمع الأمريكي.
عاد إلى فرنسا، ودرس في جامعة مونبلييه الفرنسية باختصاص الاقتصاد، مع استمراره في صقل موهبته الأدبية.
في سن السابعة والعشرين أصدر أولى رواياته سنة ٢٠٠١م،وكانت بعنوان skidamarink وتتحدث قصتها عن سرقة لوحة الموناليزا من متحف اللوفر بباريس إلا أنها لم تحقق النجاح المطلوب.
ثمَّ تتابعت أعماله الناجحة بعد ذلك حتى صار من أشهر مؤلفي فرنسا، وحصلت كتبه على أعلى المبيعات.
ترجمت بعض رواياته إلى أكثر من عشرين لغة،كما مثلت في أفلام سينمائية كروايته (وبعد) سنة ٢٠٠٨م وكذلك روايته (لأنَّي أحبك) التي حولت إلى فلم سينمائي سنة ٢٠١٢م، وهو يوفر العناء على القارىء فيعطيه رسماً وافياً للشخصيات التي يتناولها كما تحفل رواياته بالحكم والأقوال والاقتباسات المفيدة .
يقول في حوارٍ معه أُجري سنة ٢٠١٦ م :
(.. في السابق، لم أكن أكتب إلا في المنطقة الجنوبية، في مكانٍ يطلّ على الحديقة، وكنت أغوص بالكامل في كتاباتي. تعلّمتُ الآن أن أكتب في أي مكان. الكتابة ليست منطقية بل تشبه أن نقف حفاة القدمين أمام جبل إيفرست !)
ويضيف : (أكتب رواياتٍ شعبيةً وأخترع القصص التي أحب قراءتها وتتشكّل من مستويات عدة ويمكن أن يجد كل شخص ما يريده. أبحث عن حبكة عميقة لاستعمالها كهيكلٍ لكلماتي. ترتسم معالم الشخصيات تلقائياً وقد تفاجئني أحياناً وتتملّكني..)
تمتاز روايات غيوم ميسو بالإثارة والتشويق والحبكة البوليسية فضلاً عن محور الحب الذي يعالجه من أكثر من زاوية كما في هذه الرواية (أنقَذَني) التي يهيمن فيها الحب على مجريات الأحداث، وتكاد سلطته هي الحاكمة.
تتحدث الرواية التي تدور أحداثها في نيويورك عن علاقةٍ عاطفيةٍ تبدأ بكذبتين :الأولى من الفتاة الفرنسية (جولييت) المتخصصة في الفن، والراغبة في أن تكون ممثلةً مشهورةً في أمريكا لكنَّها لم تحصل على عمل سوى نادلة في مطعم !
تدعي جولييت أنَّها محامية حين تتعرف إلى طبيب الأطفال الأمريكي (سام غالوي) الذي يعاني منذ سنة من الجفاف العاطفي، والشعور بالذنب بعد وفاة زوجته (فيديريكا) انتحاراً بسبب تورطها مع عصابة مخدرات، وحين يلتقي بجولييت في عطلة نهاية الأسبوع مصادفةً يكذب عليها ويقول لها بأنَّ له زوجة !
يقر الكاتب بأنَّه (ربما لا شيء في العمق عرضي تماماً. لعلَّ بعض الأحداث كانت ستقع مهما كان الحال كما لو كانت مرتبة في كتاب القدر. الأمر أشبه بسهم رمي منذ الأزل وهو يعرف متى وأين سيسقط).
ص ٨٧
يرتفع منسوب مياه العلاقة العاطفية ليصل إلى أعلى مراحله في آخر ثلاثة أيام على مغادرة جولييت أمريكا عائدة إلى بلدها.
يبدو حدث اللقاء وتطور العلاقة العاطفية ملفقاً، لكنَّ وقوع مثل هذه الأحداث ممكن في هذه المجتمعات المفتوحة التي تختلف عن مجتمعاتنا الشرقية المغلقة .
لا يعبأ العاشقان بالنصائح السلبية لكانط وستاندال في الحب : (الحب مصدر عذاب ومعاناة، ما الحب غير شمس خادعة، مخدر يحجب عنا الواقع) . ص ٣٢٩
ويعيشان الساعات الأخيرة، وهما على يقين (إنَّ ألق ساعات السعادة القليلة يكفي أحياناً ليساعد المرء على تحمل الخيبات والاخفاقات التي تخبئها له الحياة) ص ٩٠
يروي الكاتب تفاصيل عن حياة جولييت التي تهوى الفن برغم عدم موافقة أبيها الذي يرى بأنَّ دراسة الآداب الكلاسيكية غير مجدية في سوق العمل فضلاً عن اعتراضه بشدة على دراسة المسرح والسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان يفضل أن تختار ابنته دراسةً تضمن لها مهنةً مستقرةً مثل الهندسة أو الحسابات، بينما تدافع الأم ماري عن ابنتها، وترى أنَّ طموح جولييت لا يتمثل في تحقيق استقرارٍ اجتماعيٍّ، وأنَّ هناك شيء واحد مؤكد هو أنها فتاة متخلقة وشجاعة كانت تعرض دائماً في اختياراتها عن الرداءة وهذا هو مبعث اعجاب أمها بها، وإنْ كانت تعي بأنَّ ابنتها هشة رغم ما تظهره من صلابة.
يقول الكاتب : لقد لمست (الأم) مراراً في صوتها نبرة الخيبة لما كانت تكلمها في الهاتف.
لم تظهر جولييت يوماً تبرماً، لكن ماري تعلم أنَّ هذه السنوات التي أمضتها في أمريكا لم تكن كلها سعادة… ولعل ما كان يحزنها أكثر هو أنَّ ابنتها لم تعثر بعد على شريك حياتها فرغم كل ما ينشر في الصحافة من مقالات عن (العزاب الجدد) الذين يعزفون عن الزواج ويختارون العيش بمفردهم فإنَّ الإنسان بحاجة دائمة إلى شخص يحبه. ورغم ان ابنتها تزعم العكس أحياناً فانها لا تخرج عن هذه القاعدة. ص ١٠٣.
أما الطبيب سام غالواي فقد تحدر من بيئة اجتماعية مسحوقة، وحاول باجتهاده أن يتجاوز محددات هذه الطبقة، ونجح إلى حدٍ كبيرٍ في ذلك، وصار طبيباً للأطفال يساعد المصدومين على تجاوز أزماتهم النفسية، إلا أنه يخفق في تجاوز أزمته والحفاظ على مَنْ يحب، وهكذا خسر زوجته فيديريكا.. (أنتَ تعلم جيداً أنَّ الحب غير كاف للوقاية من الموت) ص ٣٤٤
تحين ساعة مغادرة جولييت إلى باريس لكنَّ الطائرة التي يفترض أن تقلها تنفجر في الجو، وتحدث الكارثة فيشعر سام غالواي أنه فقد الشخص الثاني الذي أحبه بصدق، ثمَّ تتكشف الأمور فنعرف أنَّ جولييت لم تحتمل فراق سام فتركت الطائرة قبل إقلاعها بنصف ساعة، ونجت لكنَّ الشبهات حامت حولها لاتهامها بعمل إرهابي فيجري اعتقالها والتحقيق معها !
أما الخط الخيالي المدهش في الرواية فيتمثل بلقاء شبح الشرطية القتيلة (غريس كوستيللو ) بالطبيب سام غالواي، وإبلاغه أنها قادمة من العالم الآخر لتصحيح وضع وهو أنَّ حبيبته جولييت يجب أن تكون في عداد الموتى الذين قضوا في حادث الطائرة ، وأنها لا يمكن أن تفلت من هذا المصير فيعرض عليها أن يكون بديلاً عن جولييت فتقبل بهذا الاتفاق !
تتسارع الأحداث فتفرج الشرطة عن جولييت، ويتكشف أن الشرطية غريس كوستيللو حاولت اختراق عصابة للمتاجرة بالمخدرات قبل عشر سنوات، وجاءتها رصاصة في الظلام بالخطأ في مواجهة مع العصابة، وأنَّ الذي أصابها هو الطبيب سام غالواي نفسه من دون قصد !
تنتهي الرواية نهاية سعيدة بعد وعدٍ برعاية غالواي للفتاة (جودي) ابنة غريس كوستيللو ونجاة سام غالواي وجولييت.
تخاطب غريس كوستيللو سام غالواي بالقول : أنصتُّ إلى قلبي فأمرني بأن أترك لك جولييت) ص ٣٩٨
يبدو أنَّ رسالة الكاتب في هذه الرواية مفادها أنَّ النجاة هي في الحب !
*رواية (أنقَذَني) للكاتب الفرنسي غيوم ميسو، ترجمة : محمد التهامي العماري،المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء/ المغرب، وسما للنشر /بيروت الطبعة الثامنة ٢٠٢٠م، عدد صفحات الرواية ٤٠٠ صفحة من القطع المتوسط.