رحيل

يكتبها | محمد فيض خالد

اوقَفهُ والده على التَّعليمِ ، فَلم يَشأ أن يَشغله بشيٍء يُعيق نُبُوغه المُبكِّر كحالِ أقرانه من أبناء الريف ، ” فصالح” ابنه الوحيد رزقه بعدما فَني سبعة من الإخوة ِ الذُّكور قَبله ، تتَخطَّفهم يد الحمى ، بَعد إذ شَبّو واخذوا يدرجون طريقهم بين جُدراِن البيت ، كانت ” مبروكة” ترى فيهِ العِوض، ، نذرت لله نذرا ، أن تُطِعم مساكين مقام سيدي ” الدماريسي” كُلَّ جُمعةٍ طوال حملها ، وما إن اطلّ للدُّنيا برأسهِ، فبشَّرتها ” نفيسة ” الداَّية :” ذكرا كفلقةِ قمرٍ يملأه الحسن” ، حَتَّى اضمرت المرأة أن تُكمل ما نَذرت فتراه أفنديا .
بعد كُتّابِ الشيخ ” عبدالمتجلي ” ارسله والده للبندرِ ، واصلَ صَاحبنا تفَوقهُ لينتهى بهِ المَطاف على أعتَابِ الجامعة ، عندها انقبضَ صدر الشَّيخ الهَرِم ألف مرة ساعةَ وداعه على محطّةِ القطار، يرُدِّدُ في نجوى مَفزوعا:” يا لطيف اللطف يا رب ، ربنا يكفيك شر مصر وبنات مصر المُلعَب”، على فتراتٍ يتَأتَّى مايُنغِّصُ عليهِ حياته ، حكايات عن انفلاتِ النساء وميوعتهم، وانحراف الشباب وضياع مستقبله، ومآسي تغشى المصاطب تثُير حفيظة كُلّ غَيورٍ ، يظلّ الشَّيخ مُغضَّن الجبين ، طاويا أوجاعه ، يكرُّ حبات مسبحته يُردِّدُ في مرارةٍ :” يا لطيف يا لطيف”، لا تنفك عنه تباريح نفسه ، حتى يرجع الغائبُ آخر العام ، يَزفّ إليهِ بُشرى نجاحه ، ساعتئذٍ يبتلع العجوز ريقه المُتَيبِّس، تحمل عودته للدارِ بعض الحياة ، تتردّد التّهاني ، وتُمدّ موائد الأطايب عامرة ، وما يفيض يُوزّع على مساكينِ القريةِ وما أكثرهم ، آن للمُتعبِ أن يستريح ويتريضَ بعد عناءٍ ، تتَخطّفهُ الحقول صباحا فيلبّي النِّداء ، ما إن تَستَفيق الشَّمس من غفوتها ، فتنفتل خيوطها شيئا فشيئا ، تُداعِب خدود الأرض الصّامتة ، وتمرّ تدغدغ الخيطان الرابضة في ونسٍ تحت رداءِ الطّل، يطالع في تَشوّقٍ لوحة الخالق البديعة ، التي ارتسمت في وقارٍ تحت قُبة السَّماءِ البنفسجية ، حينها يتخفّف من وقارهِ ، حيِنا يتلاعب مرِحَا وقطعان الماشية، وحينا آخَر يقذف عراجين البلح بحصاةٍ ، أُسوةً برفاقهِ الدين تحلّقوا بهِ، فرحين بمقدمهِ بعد طولِ غياب ، يشرع مأخوذًا بسحرِ حديثهم ، يُطوِّفُ بهم في سردٍ ماتعٍ من أقاصيص رحلته عن مصر وأهل مصر ، حتى يأذن داعي المساء ، ينصَرم عقد النهار ، يُلمّلم الضَّوءُ ذيوله ، ليَعود من حيث أتى ، إيذانا باقتحامِ جيوش الليل في اجتراءٍ هكذا كُلّ يوَمٍ.
لكن صاحبنا ورُغم ونسه بأصحابهِ في شغلٍ عنهم ، ” وداد” ابنة جارهم الحاج” مصباح ” حُبّ عمره ، حاول ألف مرة فكَّ القَيدَ الذي قَيده والده ، لكن شجاعته بالأخيرِ تَخونه ، لقد اسرى إليه ” فتوح ” الحلاق عن مزاعم حُبٍّ تَجمعها وابن شيخ الخفر ، في كَمدٍ جَعلَ يُوبِّخ جُبنه، ويلعنَ تردده الذي اودى بضياعها منه ، بيدَ أنّ خَيال الوالد يتَبدَّى لَهُ كُلَّما استحضرَ ذِكراها ، يَحثه على الانصراف عنها ، يُذكِّره بالوعدِ الذي قطعه على نفسه، أن يُصبِّحَ قَاضِيا ملئ السَّمع والبصر .
وفي ذاتِ أصيلٍ وبينما هو في جلستهِ المعتادة بجوارِ الجميزة ساهما ، أتاه مكتوبها تطلبه ، جمعهما لقاء اعترف لها بتباريح قلبه المُحتَرق ، فبادلته حبا بحُبٍّ ، لكن لا شيء يخفى على أبناءِ الطَّين، صحى ذاتَ صبيحةٍ على صوت والده يوقظه وأذان الفجر ، ودمعة رقراقة تُداعِب أهدابه ، اتَّخذَ الشَّيخ قرارا بليلٍ ، ليجد صاحبنا نفسه عائدا من حيث أتى ، ويده فوقَ المصحف ِ ، يُقسِّم لوالده يمينا مُغلَّظا ، أن ينسى القرية وألّا يعودَ إليها إلّا قاضيا ، دهمه الخَرَس فلم ينطق ، لملم أغراضه وغَادرَ من سُكاتٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى