معين بسيسو … الشاعر الذي جعل القصيدة تمشي بين الناس
سميح محسن | فلسطين
تحل اليوم الذكرى الثامنة والثلاثون على رحيل الشاعر والمناضل الوطني والأممي معين بسيسو. تمرّ هذه الذكرى (بالعادة) دون أن يتذكرها إلا قلة قليلة من رفاقه، وعدد قليل من الكتاب والأدباء، حتى أولئك الذين عاصروه، واقتسموا معه رغيف الشعر، وعذاب المنافي.
لم يكن معين بسيسو شاعراً نخبوياً، ولم يكن شاعراً منعزلاً عن الناس، ولعل انخراطه المبكّر في العمل السياسي، والمباشر في الفعل الوطني، أخرجه من الغرف التي يغلق بعض الكتّاب أبوابها عليهم، وينظرون إلى الشوارع من خلف الزجاج المعتم لنوافذها، ويكتبون عن معاناة الناس. وبالتأكيد هناك بون شاسع بين تخيّل معاناة الناس، وبين معايشتهم وتلمّس معاناتهم كواحد منهم.
إذا خضعنا للتوصيفات التي وُسِمَ الشعر الفلسطيني بها، فإنّ معين بسيسو يُعَدُّ من أول وأبرز شعراء المقاومة في فلسطين بعد النكبة، وذلك بعد تقسيم فلسطين التاريخية إلى ثلاثة كيانات منفصلة عن بعضها. انضم بسيسو إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني، وشغل منصب الأمين العام للحزب. وفي سنوات خمسينيات القرن الماضي واجهت القضية الفلسطينية واحدة من أخطر محاولات تصفيتها، ألا وهي مشروع توطين اللاجئين من قطاع غزة في صحراء سيناء المصرية، فتصدّر الحزب الشيوعي رأس الحربة لوأد هذا المشروع قبل ولادته، وتصدّر بسيسو المظاهرات التي عمّت في القطاع، ونجحت في وأد ذلك المشروع.
هل على الشاعر أن يذوق مرارة السجن وعذاباته حتى يقترب أكثر من ناسه؟ وهل عليه أن يكون على رأس المظاهرات في الشوارع العامة حتى يقترب أكثر وأكثر من ناسه؟
حمل معين بسيسو أشعار شاعر تركيا الخالد ناظم حكمت معه إلى العراق التي عمل مدرساً لمدة عام في إحدى مدارسها النائية. ولعله حمل هذه الأشعار معه إلى سجن الواحات، كما حملها في تلك الفترة تقريباً توفيق زيّاد إلى سجن الدامون. فهل هي مصادفة أن يقود بسيسو المظاهرات ضد مشروع التوطين، وأن يقود زيّاد المظاهرات ضد مشاريع سلب الأرض الفلسطينية ليُفجِّر إحدى أهمّ الثورات الشعبية الفلسطينية وأنبلها في يوم الأرض؟ أم أن هوية فكرية واحدة رسمت لهما هذه الطريق؟
لقد حمل هذان الشاعران، وهما قائدان جماهيريان أيضاً، مشروعهما الشعري والوطني معاً، منطلقين من مدرسة فكرية وأيديولوجية واضحة، قاعدتها الأساسية الانحياز الواضح للطبقات الفقيرة، وجمعا في تجربتيهما النضال الوطني والاجتماعي في سلة واحدة، وضمن توجه إنساني وأممي لا لبس فيه، وكان هذا مفتاح نجاحهما كشاعرين كبيرين كما أعتقد.
نُقِل عن معين بسيسو قوله أثناء حصار بيروت عام 1982 قوله: {{أنا لا أعرف الكاتيوشا، ولا أعرف الغراد ولا ألـ” أر بي جي”، ولكني أحسست مثل أي فيل فلسطيني يريد أن يدخل إلى مكان هذه القبيلة من الفيلة ويموت معهم، أريد أن يشعر المقاتل أن شاعرًا يقف معه، وإلا كيف نحن ؟}}
هل في قول معين هذا رسالة لنا؟
في الذكرى الثامنة والثلاثين لرحيل الشاعر معين بسيسو من حقنا أن نتساءل: هل أخذ هذا الشاعر الذي أفنى حياته مناضلاً صلباً وعنيداً دفاعاً عن فلسطين وشعبها وقضيتها حقّه؟! لماذا لم يُشَيّد صرح ثقافي يحمل اسمه؟! ولماذا لم تُطلَق جائزة باسمه؟! وفي الحقيقة لا أدري إن كان لدينا مدرسة أو شارع يحملان اسمه؟!
إن تكريم الكتاب والمبدعين والمفكرين هو اعتراف من الدولة بدورهم في تشكيل الوعي العام في مجتمعاتهم، وفي حالتنا الفلسطينية فإنّ هذا الدور يتعاظم حيث يقع على عاتق الكاتب الفلسطيني مجابهة الرواية النقيض، وترسيخ روايتنا الحقيقية على أرضنا، وتقديمها للعالم في أعلى درجات الإبداع الفني.
لا أتشبّه بالعدو، بل وأرفض ذلك تماماً، ولكن عندما طرحت دولة الاحتلال النسخة المتداولة اليوم من عملتها الورقية، حملت تلك العملة صور أربعة من شعرائها، والأمر هنا لا يتوقف فقط على جانب تكريمهم، وإنما يهدف إلى تكريس تلك الأسماء في الأذهان.
قبل أيام معدودات أطلقت وزارة الثقافة جائزة تحمل اسم الكاتب والمناضل الشهيد غسان كنفاني للرواية العربية، وإن كان هذا التكريم جاء متأخراً رغم تجذّر اسم كنفاني فينا، إلا أنّ الفرحة غمرتنا لتجذير المتَجَذَّر، وتكريم هذا الكاتب الذي كتب بالدم لفلسطين. وفي ذكرى رحيل الشاعر والقائد الوطني والأممي معين بسيسو نتطلع لفعل رسمي يليق باسمه، وبدوره الثقافي والنضالي.