شعرية الوصف في سردية الأحوال الشاعرة تغريد بو مرعي أنموذجا

الشاعر والناقد المصري: عمارة إبراهيم

     الشعر يتغير مفهومه وأدواته ووظائفه وربما عوالمه بتغير المناخ الإنساني عبر زمنه ومكانه ومستجد ثقافته؛ بيد أن الأحوال لم تتشابه والبيئات تطورت، ولم يعد الشعر مثلما كان من قبل،ليجسد رهان الأمجاد العربية للقبائل والمدح والذم وما شابه؛ الشعر أصبح إنسانا يمشي فوق الأرض، يغزو الفضاء، يرتب لبناء ثقافات وعلوم، ويعالج قضايا الأوطان، يرسم لنفسه خارطة عمل جديدة ولا يهم أن يكون مبناه عمودا أو سطرا أو أن يلتزم بوزن محفوظ ومتعايش في قلب وروح ونفس الشاعر الموهوب، أو أن يعتمد علي إيقاع أحواله الداخلية عبر حركية الأفعال وتداخلها الإنساني مع اللغة، لتحويلها إلي لفة فعل، يدير منها الشاعر الموهوب والمهموم بقضاياه الوطنية والانسانية والخاصة، كل المعطيات الشعرية داخل كل تجربة له،وهي تختلف من شاعر إلي آخر.
والشعر الآن بتفوقه وحضوره الإنساني يعبر عن قضاياه العامة لأمته والخاصة بالذات وعلاقتها بالآخر، ليصل إلي أعالي جمال الحياة بإنتاج دهشة وابتكار الصور وإنتاج توافقية اللفظ مع أفعاله المتحركة من مستحدث تقنية تطوره، واستفاداته من العلوم والثقافات المستدعاة داخل النص الشعري، حتي تمنحه التفوق المطلوب، أيضا يوسع من قاموس لغته، ويعدد من إنتاجية جمالياته وابتكاراته ومن ثم من حضوره.


وسأضيف هنا بعدا لم يذهب إليه غيري في ظني؛ أن عدم استقباله من جمهوره كان وسيكون لاضمحلال ثقافة وذائقة متلقيه، لانشغال العامة عنه والبعد عن التأمل والتدبر في مكوناته من المهتمين، بسبب ثقافة الاستسهال والمجانية التي تربي عليها الجمهور العريض من شعوبنا العربية من جراء المحتوي الرخيص الذي تدعمه السياسات، وتوفره الفضائيات وأجواء تقنيات التواصل الاجتماعي، وكانت من الأسباب أيضا أدوات الترفيه الأخري والمختلفة التي تمنحهم احتياجا ماديا مغايرا، بعيدا عن سمو الانسان، هذا المحتوي المجاني الرخيص،امتلأت به شاشات العرض السينمائي والتليفزيوني حتي تطورت وأصبحت في يسر من يملك فونا أو تلفاز جيب صغير،يدير به شؤون لحظته، واحتياجاته؛ كما أن الواقع السياسي والاجتماعي والتعليمي أبرز مساحات التباعد الشاسعة، بين الشعر ومتلقيه، وربما كان هو السبب الرئيس في إنتاج كل محتوي رخيص لأهداف سياسية محددة، كما ذكرت.
من هذه المقدمة التي نخرج منها نحو شاعرة، حطت بموهبتها فوق الكثير من أرض البيئات المختلفة وثقافاتها أيضا المختلفة؛ فبرغم إقامتها في البرازيل واجادتها للغات متعددة، كانت إضافة مهمة لها من خلال التعايش مع لفات الكثير من شعوب العالم،لتقوم بتوظيفها عربيا، بما يتماس ويتفق مع ثقافتها الخاصة، من خلال معايشة أنسنة وتعريب هذه اللغات،فتترجم فنونها وتستحضر أحوالها وتنتقي ما يتوافق مع بنيتها العربية،فتضيفه إلي لغة بيئتها، ليمثل مستجدا ورافدا مهما لثقافة وأحوال شريحة كبري من البشر،يتفاعل في تجانسه المقبول مع ما يتوافق مع بنية ومسارات وأحوال حضور فنون لغتنا العربية علي أرض هذه اللغات وتراجمها الحي والمباشر ليكون بجنب لغتها الرسمية.
وكانت بيئة منشأ الشاعرة هي ذلك الأثر البالغ الذي حط بكينونته وثقافته وجمال لغته العربية علي أرض هذا التجاور الإنساني بالغ الأهمية،
لتجسد الشاعرة تغريد بو مرعي ملامح لبنان موطنها الأصلي بقضاياه وهمومه وأحلامه عبر موهبتها الشعرية في لغتها العربية الاصل، رغم تعدد حضور ملامح شعرية أخري من بيئات أيضا متعددة، تمتلك حضورها،وتجيد لغاتها وربما تعايشت ولو في نسبيتها من خلال ترجمة شعرية كتابها الذين برزوا في تراجمها لهم، بجنب معايشتها لهم هناك.
كانت رصانة حضور لغتها العربية وعدم تأثرها من عوالم المختلف معها ومع ثقافتها يمثل إضافة مهمة مع اللغات التي تجيدها، وأثرا فاعلا ومنتجا شعريا قد حافظ علي متمماته العربية الخالصة،لتصبح قصيدتها التي تكتبها عربية؛ فلم تتأثر من ذلك،بل درست وتعلمت اللغات الاخري مثل الإيطالية والفرنسية والإنجليزية ودققت في إنتاج آداب هذه اللغات وخاصة الشعر، لتمنحه فضاءات متسعة وقوية، لكنها لم يؤثر هذا كله في ثابت تجربتها،لتمنح شعريتها خبرات ما نقلته لنفسها ولتجربتها، لكن من دون أثر لهذه الشعرية التي اختارت أن تقدمها لنا عبر التشكيل العمودي.
فتلتزم الشاعرة تغريد بو مرعي التزاما عفويا بمسارات تأصيل انسانيتها وتضفيرها بلغة بيئتها وجينة الانتماء الذي تحقق من تأصيل مكونها الثقافي العربي ومنح هذه الجينة بكل ضفيرتها ملامحها العربية وتكون الرافد الرئيس والسبب في تشكيل قصيدتها في مبناها وفي أدوات تشكيلاتها من اللغة ومن البحر الشعري الخليلي، الذي يلتزم بصرامة الميزان مع الاستفادة من الزحافات والاعرض ودوائر البحر، بما يتوافق وينسجم مع هذه التشكيلات التي تديرها الأفعال المشحونة بهموم الشاعرة وقضاياها العامة والخاصة؛لتتناغم وتتوافق كل معطيات الشعرية لديها،كما أن همها الوطني حقق للقصائد عندها أبعادا إضافية تهتم بلبنان الوطن ولبنان السياسة ورغم تعدد الطوائف والعقائدية والايدولوجية التي تسببت في الألم الكبير لها غير أن لبنان كان هو قضيتها الكبري وهمها الأوفر،وقد برز ذلك وأثر في وجدان الشاعرة،ليجعل نبض الوطن يسري في عروق الحروف التي تناغمت معها مشحونات الشاعرة من هذا الأثر،لتقدم لنا صورة الطبيعة وأجوائها وخضرتها وتراثها الذي تميز به لبنان العروبة ولبنان الهوية.

تقول الشاعرة، قصيدة “لبنان”المنشورة في جريدة “عالم الثقافة” في عددها الإليكترونى بتاريخ 13نوفمبر 2022.

رقّ النّسيمُ فمالَ الغصنُ نشوانا
وراودَ الشّعرُ أفناناً بِلبنانا
ألعِطرُ يثملُ والألوانُ زاهِيَةٌ
والطّيرُ يشدو تباريحاً وَأشجانا
لُبنانُ والشّمسُ وَالأفلاكُ تحضنُهُ
وَغابَةُ الأرْزِ تُوفي الرّوحَ تَحْنانا
لِلْعاشقينَ لَهُ مِن وَجدِهِمْ قِصَصٌ
في كُلّ شبْرٍ ترى روْضاً وَبُسْتانا
لُبْنانُ سِحْرٌ وَإنّي قد سُحِرْتُ بِهِ
وَلَن أحِبّ على لُبنانَ أوْطانا

كانت الصورة الشعرية في القصيدة ترسم لبنان العروبة، لبنان الشموخ والكرامة، لبنان الثقافة والجبال الخضراء بألوانها الزاهية، وشمسها التي تحصنه من كل عوالق الطبيعة وهي حاضنته،حيث تقدمه في تفصيلات شعرية تنسجم مع واقعه ومع جماله الذي يشهد به كل زائر يريد أن يقضي وقته علي سفوح ووديان أرض لبنان،كما تبرز الشاعرة تراث هذا البلد من شجر الأرز الذي يرمز له ويطبع في علمه،ليكون الراية الخفاقة التي تزين سماواته،وتزينه في أمجاده.
تستخدم الشاعرة هنا تقنية السرد الشعري في ضفيرة الصور التي تأخذ من قاموس الطبيعة ومن الخضرة في وصف بلادها،كما أن حضور لبنان الوطن الذي لن تحب غيره ولن تستبدله بوطن آخر، وهو يمثل أيقونة لكل العاشقين له ينحتون من وجدانهم ومحبتهم وعشقهم له قصصا وافنانا،حتي سحروا به وأصبح يمثل لهم أيقونة الحياة.
وتستمر الشاعرة في وصفها الشعري للبنان وهي تتباهي ببطولاته وتأريخ عزه وعزته ورجولة من أعطوه دماهم كي يعززوا للنصر برهانا لهذه البطولات التي خاضها كل المجاهدين وهم يفنون ببسالة للدفاع عنه وعن أرضه، حتي يعيش الوطن بمجده وشموخه وتكون راياته محفورة بشجر الأرز ليمثل عنوانه.
وتؤكد برهانها عن كل مشحوناتها الجمالية شموخه ونضاله ضد كل عدو له حيث تقول في القصيدة نفسها:

ألشّرْقُ يَفخرُ أن تُذكَرْ مَآثِرُهُ
فَما أطاقتْ بِلادُ الأرْزِ عُدْوانا
تحْكي البطولاتُ عن تاريخِ عِزّتِهِ
أعْطاهُ مَن جاهَدوا مَجْداً فأعْطانا
شمْسُ الرّجولَةُ في لُبْنانَ ساطِعَةٌ
وَأهْلُهُ قدْ غَدَوْا لِلْنّصْرِ بُرْهانا
وَكيفَ لا وَشموخُ الأرْزِ يَحْفِزُهُ
يَحْيا وَيَبْقى بِمَجْدِ الأرْزِ مُزدانا.

الذات الشاعرة كان لها الحضور الكبير في قصائد تغريد بو مرعي من خلال تعبيرها عن الأنثي وهي ترسل خطابها الشعري إلي حبيبها مستدعية ذكرياتها معه ومدي الالم الذي أرهق نفسها لتبث اليه همومها وقد أرهقها الفراق وتمنت لو لم يغب عنها ولا يتركا بعضهما،ولا يعيشا ألم وغصة الهجران والكمد.
استخدمت الشاعرة هنا في قصيدة “طـيـفُ الـهـوى” نُشرت في جريدة الزوراء ليوم الاربعاء الموافق 9/ 11/2022. العدد 7833 تقنية سردية الوصف والحكي الممزوج بمعالم الذات التي تعبر عن أحوال المحبوب العاشق الذي يعاني من الفراق من معذبته التي هجرته وتركته في صبوته وقد عبر عن ألمه الذي أرهقه والحزن الذي مسه من جراء هذا الفراق بعد حياة الصفاء والهوي، حيث كانا ينعمان بالحياة ، وقد استخدمت الشاعرة في القصيدة القاموس الشعري الذي ينسجم مع دفقة وحركية أفعال أحوالها،فتناغمت مفردات الوصف مع مفردات الحكي الشعري مع تقنية تنغيم تفعيلات بحر البسيط (مستفعلن فاعلن، مستفعلن، فاعلن) وفي ضربها تتحول فاعلن إلي فعلن. لترسم الشاعرة بأدواتها وخبرتها الطويلة أحوال الدفقة الشعرية داخل البيت الشعري وعبر تدويرات عروضية تلتزم بكلية الوزن وتتحرك وفق أضرب وأعاريض البحر بتوافق وانسجام مع حركية الأفعال التي قادت أدوات الكتابة من قاموس وصور وتنغيم عروضي في بناء شعري ينسجم مع ضرورات الأحوال العامة داخل القصيدة
.

وأختتم بهذه الأبيات التي تدلل علي رؤيتي واستنتاجاتي،لتدعم امتلاك الشاعرة لأدواتها وأيضا خبراتها التي ضفرت بها تجربتها الشعرية ذات النكهة العربية العربية.

مُذ شَفّ طَيفُ الهوى يا مُنيَتي كَبِدي
أصْبَحْتُ مِن صَبْوَتي خلواً مِنَ الرّشَدِ
أرْهَقتُ نفسِيَ طَوْعاً يا مُعَذّبَتي
عِندَ الصّفا كنتُ أخشى مِن فِراقِ غَدِ
يا لَيْتَنا لَمْ نغِبْ عَن بعضنا أبدا
وَلَمْ نَعِشْ غَصّةَ الهِجرانِ وَالكَمَدِ
لَكِنّ عيشَ الصّفا وَلّتْ هناءتُهُ
وَمَسّنا الحُزنُ بعدَ السّعْدِ وَالرّغَدِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى