التّسامح والتساهل الفكري كفكرة أخلاقية سامية
عماد خالد رحمة ـ برلين
من المؤكد أنَّ التسامح كفكرة أخلاقية سامية، قد احتلت مساحةً واسعةً في النواميس والأديان ،والعديد من القوانين العرفية من أجل تحقيق أمن وأمان وسلام المجتمعات، وذلك لأنّ التّسامح يؤسس لقاعدة أخلاقية لها مكانتها في الوجدان والشعور والحياة الإنسانية، وتجعل بناء مجتمع يتعايش داخله الجميع ممكناً، بغض النّظر عن خلفياتهم الثقافية والدينية والعرقية (الإثنية). كما كانت الدعوة إلى التسامح من أجل وئام وسلام المجتمعات بوازع أخلاقي صرف، وروحي محض.لكن بحالة الفهم الحديث، هو أبعد من ذلك بكثير، وأكثر تجذراً في المجتمعات البشرية، باعتباره مبدأ إنسانياً كاملاً ومتكاملاً، يواكب الحياة المدنية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. ولا ينبني على علاقةٍ متعالية أبداً مهما كانت، إضافة إلى أنّ فكرة التسامح كقيمة أخلاقية تضفي على تساكن الكينونات المتنافرة والمتغايرة وتجاورها وتقاربها وتلاقيها. يسمو فيها المتسامِح على المتسامَح معه، وفي حقيقة الأمر تكون العلاقة بالعكس علاقة ندّية ومتساوية بين أطراف العلاقة المتوازنة، وهذا هو جوهر وأساس التّسامح.
التسامح في جوهره يأخذ شكل الحق في الاختلاف والتنوّع، الذي لا يؤدي إلى نبذ المختلف اجتماعياً وتهميشه أو إلغائه، هذا إلى جانب كونه حقاً طبيعياً في المعاملة الإنسانية المتسامية على القوانين والتشريعات الناظمة نفسها، باعتباره قواعد مجرّدة تحكم بقوة حالات مجرّدة، بشكلٍ غير منحاز، لا يتأمّل إحداث توازن ما بقدر ما يطمح إلى خلق نظام قوي محكم وصارم للمجتمعات، يحفظ الأمن والأمان، لكنه لا يخلق الوئام والتوافق الإنساني الذي يبقى بيد الإنسان في حد ذاته، وهذا ما سعى ويسعى الحق في التسامح إلى جعله حقاً وفرضاً على الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وليس من باب كرامة النفس التي هي فوق أي اعتبار، بل هو شرط من شروط العيش المشترك بين بني الإنسان الذي يفترض تفاعلاً إنسانياً حقيقياً وفعّالاً بين عناصره ومكوناته. التّسامح كفكرة يؤسس لقاعدة أخلاقية، تجعل من الممكن بناء مجتمع يتعايش داخله الجميع بالتساوي ودون تمييز، بغض النّظرعن خلفياتهم العرقية (الإثنية) والثقافية والدينية بكل طوائفها ومذاهبها.والأخلاق التي هي عبارة عن منظومة قيم يعتبرها البشر بشكلٍ عام جالبة للخير وطاردة للشر والقتل والإجرام وممارسة المحرمات وفقاً للفلسفة الليبرالية وهي ما يتميزبه الإنسان عن غيره، وهي شكل من أشكال الوعي الإنساني، كما تعتبر مجموعةً من المبادئ والقيم تحرك الأفراد والشعوب كالعدل والمساواة والحريّة ، بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعيةً ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً تشريعياً وقانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين .
في كتابه رسالة في التسامح للمفكر والفيلسوف التجريبي والسياسي الانكليزي جون لوك ( 1632 ـ 1704م) والذي كتبه في أثناء وجوده في منفاه القسري فى هولندا يؤكد أخلاقياً على قيمة التسامح بقوله : (لا يمكن للإنسان أن يكون أخلاقياً إلا من خلال الإيمان فما دام الإنسان مؤمناً يمكن حينها الوثوق به. الجدير بالذكر أنَّ الفيلسوف التجريبي جون لوك كان قد تأثَّر بالفلاسفة السابقين أمثال أرسطو، أفلاطون، توماس هوبز، اسحق نيوتن، رينيه ديكارت، وفرانسيس بيكون. وغيرهم .
إنَّ جملة الأفكار الأخلاقية التي قدمها جون لوك كان قد درسها في أكسفورد الأرسطوطاليسية كما درس الهندسة والبلاغة والمنطق وعلم الأخلاق واليونانية. مؤكداً أنّ معنى التسامح شرط هام لقيام العلاقة الأخلاقية المستندة على ركائز بناء تدبير الاعتراف ، وجعله قابلاً للتحقق واقعياً وعينياً، أي إضفاء خاصية هامة هي خاصية القيمة عليه .
فالاعتراف بالآخر دون قيمة يعد أمراً غير مكتمل وناقصاً، لأنه بالضرورة يحتاج إلى (علاقة أخلاقية سامية) تضفي على تساوق وانسجام الكينونات المتفارقة والمتغايرة وتقاربها وتجاورها وتلاقيها، معنى ايجابياً يحوّل علاقة المتوافق والمنسجم المؤتلف مع الآخر والمختلف، أي (الأنا) و(الآخر) أو (النحن) و(الهم)، إلى قوةٍ إيجابية تضمن الوئام والتوافق في سياق المغايرة والاختلاف.
لذا قرَن الأديب والمؤرخ وعالم في الفقه الإسلامي واللغة العربية ابن منظور، التّسامح في مؤلفه الضخم : (معجم لسان العرب في اللغة) بالجود، أي أنّه يتمثّل التسامح والتساهل الفكري في تلك القدرة التي يستعيدها الشخص ليتصالح مع إنسانيته، ومن ثم فَقَدَ ظلّ غاية أخلاقية سامية لمدةٍ طويلة، فالشعوب قطعت أشواطاً طويلة لتحقيقها . وخاضت لأجلها حراكاً وصل إلى حد الصراع لجعلها قاعدة وأساساً لبنية التعايش التوافقي البنّاء قبل أن تتكرّس كمفهوم أكثر شمولاً واتساعاً.
يقول المفكر المغربي محمد أركون (1928ـ 2010) م ،إلى أنه على الرغم من أنَّ النصوص الأساسية الكبرى للفكر العربي الإسلامي كانت تتضمن البذور الأولى لفكرة التسامح أو (التساهل)، وتدلّ على الطريق المؤدّي إليه بالمعنى الحديث للكلمة ، يتجلى ذلك عند أعلام هذا الفكر مثل: الإمام والقاضي والمحدّث من علماء التابعين الحسن بن يسار البصري، والأديب العربي، ومن كبار أئمة الأدب في العصر العباسي أبو عثمان بن بحر المعروف بالجاحظ ، والعلامة والفيلسوف العربي والعالم في الفيزياء والطب وعلم النفس والمنطق أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي، والفيلسوف المسلم المتصوف أبو حيّان التوحيدي، والشاعروالمفكر والنحوي والأديب أبو العلاء المعري، إلّا أنّنا لا يمكن أن نتحدّث عن التسامح كممارسة شائعة جداً في البيئة الإسلامية، بسبب طبيعة البنى الاجتماعية التي كانت وما تزال سائدة والأطر الفكرية المسيطرة بشكلٍ أو بآخر، فقد كابدت المجتمعات الإسلامية أوضاعاً معقّدة وصعبة منذ القرن الثالث عشر الميلادي، فمنذ ذلك الوقت شهدت عمليات فرز وتعريب واضحة للجماعات العرقية والثقافية والنخب الحضرية، والطبقات الشعبية، وأقيمت من ثم الحواجز والعقبات الجدران بينها . إنَّ التسامح كقيمة أسمى من القيم الإنسانية، تحضّ على القبول بالتوافق والتعايش بجانب الأضداد وتعميق وتوسيع فكرة الديمقراطية وهيئاتها وإداراتها زمؤسساتها ، وتخلق العمل الإداري والمؤسساتي، وتعزيز وتوثيق ثقافة المواطنة والانتماء الوطني التي تدفع الفرد للعمل الجاد لصالح المجتمع ككل. هكذا تطور مفهوم التسامح والتساهل من الفرد، إلى المجتمع، إلى الدولة ومؤسساتها وإداراتها وهيئاتها، وإلى المجموعة الدولية ( دول العالم) ، ولم يعد المفهوم اصطلاحاً معجمياً أو لغوياً، يرتبط بالسخاء والعفو والتكرّم، بل وصل إلى الاعتراف بصراحةٍ ووضوح بالحق في التسامح، واحترامه الصادق مثل أي حق إنساني آخر في المجتمع.وهذا ما جعله يقترن بفلسفة حقوق الإنسان ولم يعد سلوكاً ذاتياً ، وإنما صار أساس التنظيم السياسي والاجتماعي . بخاصة في المجتمعات الغربية كما يرى البعض وهذا يدلّ دلالةً واضحةً أنَّ المفهوم الحديث والمعاصر للتسامح والتساهل بالإضافة دوافعه الدينية الأصليى، ودوافعه الفلسفية اللاحقة ، اكتسبت قوة قانونية وتشريعية.