الجمال.. كيف نراه؟
محمد عبد العظيم العجمي
كاتب مصري
الذين أوقفوا الجمال عند حد العين والنظر، قد أخطأوا وأفسدوا.. فمن ذا الذي يزعم أن يفرق بين العين والقلب، فيمنع القلب رفده، ويمنع البصر روحه..وحين يزعمون ذاك فإنهم يحكمون على أكثر الجمال في الكون بالفناء؛ إذ الأصل في الجمال نفس صاحبه، وروح الناظر وقلبه، فالجمال هو المنطقة العالقة بين الطرفين،أو القلبين، يعطي كل طرف منها بقدر ما يأخذ من صاحبه، ويضيف إليها بقدر متعته منه.
وحين يصفون الجمال بالأبعاد والمقاييس، ينكرون هذه النفثة الروحية الرابضة في كل نفس تحيي هذا الجمال وتبرقه، وتجليه وتبديه، وتضفي في كل نظرة ولفتةعليه جمالا جديدا، وبريقا آخذا، وصحوا رائقا.
فللجمال إذن روح تبرزه وتصقله، وتقدمه وتؤخره، وتحييه وتميته، وتقربه وتبعده، وتنضره وتضمره، وتقيمه في إحدى النفوس مثالا للجمال يحتذى، وتنفره في أخراها صدودا وابتعادا..وما هذا إلا التقاء بين الأرواح وافتراق.
فليباعدوا إذن بين العيون وقلوبها،وليخلعوا الأبصار من أفئدتها ثم لينظروا.. كم يتبقى في هذا الكون من جمال؟!
فماذا الذي يبقى للكون من جماله حين ألزم أن أرى بعين غير التي أرى بها، وأبصر بقلب غير الذي بين جوانحي، وأهوى بنفس غير التي أهوى بها، وكأن الجمال كما يرون مادة كيميائية يتحتم أن يسري أريجها بين كل النفوس، ويبهر كل العيون، فأنى تصرف الأرواح واللطائف.. وكيف يشاع الجمال ويبتذل فلايقع كل مخلوق على شاكلته، ولا تستطيع نفسه أن تهوى من كتب لها هواها، ولا أن تألف قرينها من الخلق ومبتغاها، فيصبح في الجمال الواحد شركاء متشاكسون؛ فأنى يعقلون؟!
لقد تحدث الفيلسوف الفقيه ابن حزم عمن يهوى بخاطره، ومن يهوى بالنظرة العجلى، ومن يهوى مع المطاولة والمداومة، ومن يهوى بالسماع.. وهذا هو عين الفيلسوف والشاعر والمتذوق للجمال، فكل يرى الجمال حسب ما تبديه له الروح من داخله، وما تفيض عليه روح الجمال من خارجه.وقد احتج كثير عزة على جمال محبوبته حين أنكروا عليه، بقوله” خذوا عيني فانظروا بها”.
وهكذا لا يقع الجمال في الكون إلا بقدر ما يقع على النفوس وبداخلها، فإذا حجبت عنه أو حيل بينها وبين تذوقه كان كأن لم يكن، وقد ذكره أبو ماضي في قوله:
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا.
هكذا يؤكد الشاعر حقيقة التواصل بين نفس الناظر ونفس المنظور حين يتواضع أحدهما على إبهار صاحبه، ويفيض بما أبدع فيه من الصنعة، وما حف به من الجمال، وما أسبغ عليه من لذة النظر، ومتعة الروح حتى حرك كوامنه وأيقظ رواقده، وأشعل بداخله انفعاله بالجمال.
وذكر نقيضه أبو العلاء المعري في قوله:
وشبيه صوت النعي عندي
بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنت
على فرع غصنها المياد؟!
أما شاعرنا أبو العلاء فهو يمثل الصورة المقابلة ، لكنها ليست صورة دعاة المادية والوجودية، ولكنه يؤكد ما نرمي إليه من خبوت هذا الانفعال وتوقف هذا الحراك الداخلى الذي أكده أبو ماضي، فلم تستوقفه الأصوات ولا جريانها ولا نغماتها، ولا المناظر وألوانها وأشكالها وتنوعها، فغدا في الوجود يستوي عنده الناعي والشادي، والمغني والباكي.
إنه لمن خالص النعمة أن ننعم النظر ونستوقف القلب، وأن نأسى ونشجى، ونهوى ونسلى، ونطرب ونزعج لانفعالات الكون وجمالاته من حولنا، وتلكم هي نعمة الوجود الحقيقة لاالوجود المادي الذي ينعق به الماديون المبهتون المنكرون لروح الكون وظواهر الجمال فيه وبواطنه؛ فما الكون والإنسان إلا هذا التناغم والتلاحم بين المادة والروح، وهذا لعمري عين الجمال والجلال.
فليخط الوجوديون والماديون والبراجماتيون ما يشاءون، فهذه أرواحهم بين جسومهم غائبة في رقدة العدم، وهذه الأجساد قد جعلت قبورا لأوراحهم قبل القبور.. ولتبق لغة الجمال في الكون رائعة في نواظر هذه الأرواح الملهمة المطوفة الهائمة، وليدم هذا اللقاء بين روح الكون وروح الخلق يعانق كل منهما الٱخر، وليشهد بكل ذرة من أنفاسه على وحدة الخالق المبدع وعظمته، ولنردد قول أبي نواس:
تأمل في نبات الأرض وانظر
إلى ٱثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات
بأبصار كأنها الذهب السبيك
على قصب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك!!.