النشاط الفكري والقيم الأخلاقية
بقلم: عفاف عمورة | برلين
لم يتوقف النشاط الفكري على العمل (الذهني) الفكري الذي يؤدى من طرف فئة الكتّاب والمثقفين الرؤساء في العمل والمشرفين والإداريين أو مايطلق عليهم في مجالات محدّدة أصحاب الياقة البيضاء.وهناك عمل يدوي (عضلي) يؤدى من طرف فئة العمال اليدويين بستخدمون عقولهم ضمن مساق عمل فكري (ذهني) محدّد.وأصبحت متطلباته تقتضي قدراً كبيراً من النشاط الفكري، كمعالجة وإتخاذ القرارات الفردية والإشراف على أعمال أخرىمتنوعة وأفراد آخرين من خلال المهمة التي يؤديها العامل اليدوي البسيط.وعلى هذا الأساس فالعمل الفكري(الذهني) أو النشاط الفكري بشكلٍ عام، يطلق على كل الأعمال التي تتميز بمعالجة وتصفية المعلومات عن طريق المراكز العليا للدماغ. الذي تتثَّمل فيه عمليات المعرفة، والحواس مع المعرفة المخزنة بالذاكرة، والتجربة، والقدرة على تشكيل وتكوين أفكار جديدة، وسرعة في التفكير. ومن الأمثلة على ذلك تخطيط عمليات الإنتاج وتصميم وصنع الآلات، ودراسة الوثائق وإستنباط الحقائق المهمة منها، وكتابة التقارير وإعطاء الأوامر.وهكذا فإنَّ النشاطُ الفكري له أهمية كبيرة في بُنية العلاقات الاجتماعية لأنَّ يُمثِّل وَعْياً عابراً للأنماط السائدة، ويُشكِّل تَيَّاراً فكرياً له خصوصيته في منظومة التفاعلات اللغوية والمعايير الأخلاقية.
وإذا كان النشاطُ الفكري تعبيراً عن الانتاج التفاعلي اللغوي معَ عناصر البيئة ومكوناتها وتراكيب الطبيعة، فإنَّ العلاقات الاجتماعية هي نتاج حقيقي لأبعاد التجربة الإنسانية داخل المجتمع. والتجربةُ الإنسانية بما تحمل من غنى فكري وثقافي ومعرفي لا تنفصل عن القوى الاجتماعية القوية الفاعلة، التي تصير تصوُّراتُها الحيويةُ، وتأثيراتُها الحياتيةُ قانوناً وجودياً يَضبط دَوْرَ الفرد وأهميته في الأحداث اليومية، ويُسيطر على فعالية ودَور المجتمع في الوقائع التاريخية وأحداثه. وهذه المُهمة المُزدوجة للقانون الاجتماعي الوجودي والإنساني تُسَاعِد في تَكوين التسلسل الهَرَمي للعلاقات الاجتماعية وترابطها، وتُسَاهِم في تكريس الظواهر الثقافية والمعرفية داخل سُلطة الفِعل الإنساني والاجتماعي.
وإذا كانت العلاقاتُ الاجتماعية بكل تلاوينها لا تَقُوم إلا على أساس فكري ومعرفي وفِعل واعي على صَعيد تاريخ الأفكار الإبداعية من شعر وقصة ورواية ومسرح وفنون تشكيلية وفنون موسيقسة إلخ ، فإنَّ الظواهر الثقافية لا تَقُوم إلا على أساس التحليل المنطقي والعقلاني على صَعيد تاريخ مجريات الأحداث اليومية. ويَنتج عن الأفكار الإبداعية بكل تلاوينها نظامٌ مِن الرموز والمعاني يَحْمِي الفردَ مِن حالة الروتين اليومي الوظيفي، لأنَّ المعاني والمدلولات مُتَجَدِّدة دائماً، والرموز متتالية ومُتكاثرة، وهذا يَضمن توليداً متواصلاً ومُستمراً لجملة الحُلُول غير التقليدية للمشكلات المُعَاشَة واقعياً وذهنياً.
ويَنتج عن الأحداث اليومية المعاشة نَسَقٌ مِن المشاعر والأحاسيس والسلوكيات يَحْمِي المجتمعَ مِن الوَعْي الزائف والمفارق للحقيقة والمنطق، لأنَّ السُّلوكيات لها قدرة كاشفة لماهيَّة الجَوهر الإنساني، والمشاعر والأحاسيس مُنعكسة عن طبيعة الاحتكاك والتماهي بالحياة اليومية، وهذا يُجذِّر ويكرِّس الحقيقةَ كقيمة مِعيارية عالية وكبيرة في البُنى الوظيفية للفرد والجماعة على حدٍ سواء، فَيَصير الوَعْي حقيقياً ومجسّداً، وتصير الأحلام والآمال بما لهما أمران واقعيّان .
أيضاً العلاقاتُ الاجتماعية تُمثِّل قيم وركائز وهياكلَ معرفيةً متكاملةً قائمة بذاتها، تستمد شرعيتها من تفاعُلِ اللغة مع الواقع والحقيقة القائمة، واندماجِ الواقع مع الثقافة والمعرفة السائدة. والواقعُ لَيس مُجرَّد بيئة حاضنة للكِيَان الإنساني وجوهره، بَلْ هو أيضاً مجال حضاري حيوي يُوازن بَين مركزيةِ الماضي البعيد والماضي القريب في الشُّعور والوجدان، وسِيادةِ الحاضر بقوة على الوَعْي السائد. والثقافةُ لَيست مُجرَّد مُؤسَّسة أو إدارة أو هيئة مَعْنِيَّة بنشر المعرفة بكل تلاوينها، بَلْ هي أيضاً مَشروع نَهضوي وتنويري يُوازن بين العاطفةِ المنطقية في الحياة والوجود بشكلٍ عام، والعقلِ المُتَلَقِّي في التاريخ الإنساني.
وكُلُّ ظاهرة ثقافية هي نتيجة حتمية للوعي وللمعرفةِ العقلانية والإدراكِ الواعي، الذي ينشأ من الفِكر الجَمْعي الذي يفوق أو يتجاوز مرحلةَ الفهم العادي البسيط للعلاقات الاجتماعية إلى مُستوى الوعي والفهم التأويلي الهيرمنوطيقي لِمُرَكَّبَات اللغة ومدلولاتها وعناصر المجتمع ككل. والفِكْرُ الجَمْعي يؤدي دور فَعَّال في تكوين وبناء شخصية الفرد بناءً جيداً، بحيث يُصبح قادراً على تَلَقِّي العلوم والثقافة والمعرفة وتأويلها، وتحليلِ أنساقها ومستوياتها، وتَوظيفها توظيفاً ناجحاً في إنتاج الآداب والفنون والعلوم، وإعادة بناء دقائق وتفاصيل الواقع على أساس منطقي وعقلاني، مِن أجل تفعيل عملية الاكتشاف في الظواهر المعرفية والثقافية، وتثبيت مبادئ الإبداع في اللغة ومدلولاتها والمجتمع، بعيداً عن الاستنساخ والتقليد. وإذا تجذَّر الإبداعُ كمنظومة حيوية ونظام حياتي، فإنَّ المُجتمع سيتجاوز بالتأكيد مأزقَ التلفيقِ والتوفيقِ في والتفاعلات اللغوية والمعايير الأخلاقية، والظواهر الثقافية والمعرفية
إنَّ الأساس المعرفي والثقافي في العلاقات الاجتماعية يُجذِّر رمزيةَ اللغة في الظواهرالإبداعية والثقافية، مِن أجل معرفة تناقضات وخبايا المُجتمع الإنساني ، وتحليلِ الروابط الوجودية بين النشاط الفكري ( الذهني) والظروفِ التي نشأ ونما فيها. ومِن شأن هذه العملية أن تُبعِد حالة التكلّس والجُمُودَ عن عمليات الإبداع والانتاج الإدبي، وتُوجِد الأصلَ الواعي والعقلاني الجواني (النسغية) للصُّوَر الاجتماعية الظاهرية (اللحائية)، ضِمن حركة تكامل وتفاعل الفرد معَ انعكاسات البيئة الحاضنة على شخصيته، وانفعالاته بإفرازات البيئة الحاضنة التي تُعيد تشكيلَ مصادر الثقافة والمعرفة الحِسِّية والعقلية.
وثنائيةُ الانفعال والتفاعل في الحياة الإنسانية، وَعْياً وبنية وسُلوكًاً، تمنع تحطيم قواعد المنهج الاجتماعي المتبع ،وتَحْمِي الدَّلالات اللغوية وأهميتها للفِكر الجَمْعِي الإنساني مِن عملية التقويض والنكوص والارتكاس بِحُجَّة البحث عن أسلوب جديد للحياة. وهَدْمُ هيكلية الدَلالات اللغوية هو تحطيم للفرد والمجتمع على حدٍ سواء، وبناءُ الحقيقة الاجتماعية الصحيحة والقوية إنَّما يكون على أساس وقواعد متينة وصُلبة، ولَيس على رمادٍ مُتناثر بعد الاحتراق، وشظايا لغوية وفكرية.
لذا، لا بُدَّ مِن تحويل المجتمع وتغيير مساره إلى مؤسسة ثقافية ومعرفية مُتَاحة للجميع دون استثناء، ومَفتوحة على جميع القراءات والاجتهادات القائمة على الأدلَّة العقلانية والمنطقية والحُجَج المستندة على مبادئ عقلانية. والفِكْرُ ميمكن أن نجده في كُلِّ مكان، وهو لَيس امتيازاً لأحد أو امتيازاً نُخْبَوِياً. وحقيقة الأسلوب والمنهجُ الاجتماعي فهماً عقلانياً وتطبيقاً صحيحاً وتفسيراً صريحاً وواضحاً يُولَد مِن ذاته ضِمن صَيرورة التاريخ وسيرورته ، ولَيس احتكاراً لطبقة ما. والفلسفةُ في عقلانيتها وحقيقتها هي أسلوبُ حياةٍ ، ولَيس سُلطةً دينيةً كهنوتيةً أو سلطةً أبويةً أو عشائريةً. ومعَ هذا يجب التفريق بين التعبير عن الشيء وشرحه وتفسيره وتحليله، وبَين الشُّعور بالشيء واعتماده توظيفه توظيفاً عملياً وفاعلاً.