الصداقة والنزعات الإنسانية الواعية
عماد خالد رحمة | برلين
من يعيش الحياة بتفاصيلها اليومية ومكوناتها العامة، لا يمكن أن يستمر في العيش وحيداً دون صديق. فالصداقة بالدرجة الأولى شكلٌ من أشكال العلاقة الوطيدة القائمة على الحرَّية بمدلولاتها وماهيتها، هو في حدِّ ذاته بناءً متيناً متماسكاً، ولا يقبل التسلسل الهرمي. وبالتأكيد فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ كل علاقات الحب التي تتكوّن بين الناس تخلو من كل التسلسلات الهرمية، وتلك التراتبية المنساقة ضمن مقاييس معينة، وقيودٍ مصفّدة، وأن العلاقة المتأتية بين شخصين أو أكثر تتأسس بحرّية ،وهي شرط أساس للصداقة وفضائها الواسع، وعندما نعود لمقولة الفيلسوف اليوناني أرسطو: (أيها الأصدقاء، ليس هناك أصدقاء)، نجده نفسه هو الذي يؤكد ذلك بما قاله: (كما أنَّ العبيد لا يمكنهم تكوين صداقات لها مدلولها، فكذلك لا يمكن للشخص الحر أن يكونَ صديقاً للعبيد. لوجود فوارق كبيرة بين الحر والعبد).
في حقيقة الأمر، هناك ثَمةَ فارق بين الأصدقاء والرفاق أيضاً، فالرفقة تعني مجموعة من الأشخاص يجمعهم هدفٌ واحد ومشروع واحد، أو جمعتهم حالات محدّدة، أو ظروف عسفٍ في منفى أو سجن، فهم يأتلفون في جماعة لها مكونها الخاص بها للدفاع عن مصالحهم وعن أنفسهم، بخاصة في المجتمعات التي يحكمها الطغاة والمستبدين، ويمارَس عليهم القمع والاضطهاد حين ينخرطون كمثقفين في السياسة وفي الشأن العام في بلدانهم، وعادةً ما يتفرّق الرفاق ويفترقون عن بعضهم البعض عندما تتصادم أفكارهم وآرائهم، أو حين ينتهي العائق أو الخصم الذي ضمّهم ووحَّدَهم، غالباً ما يحدث هذا مع رفاقٍ تجمّعوا في تنظيم أو حزب، أو جمعية أهلية أو مجلة أو جريدة أو إذاعة تدافع عن رؤاهم وتطلعاتهم وأهدافهم، وحين ينزاح التهديد والضغوط يمضي كلٌ إلى سبيلهِ دونَ الالتفات إلى الخلف، وفي بعض الأحيان يتحوَّلون إلى خصومة حادّة تصل بهم حتى العداوة والشراسة، أما الصداقة فهي أعمق إنسانياً ،وأسمى من ذلك لأنها القيمة السامية العليا في كل العلاقات الإنسانية والأخلاقية، تتجاوز التناقضات الصغيرة والخلاقات الناشئة بل تجعلها رافداً قوياً لهذه الصداقة التي تمتاز بالشفافية والصدق، والصديق هو الذي تفكِّر معه بصوتِ عالٍ، وهو من يستوعبك بكلِّ حالات ضعفك وعيوبك وأخطائك.
وقد تتحوَّل الرفقة إلى صداقة فعلية وتدخل الإطار العملي في العلاقة حين يعزِّزها الوعي بأهمية التكامل والتفاضل، والتمتع بالقدرة الكافية على التسامح، واستيعاب أنَّ (المعارضة بما لها وما عليها هي الصداقة الحقيقية دون أدنى ريب) كما يقول الشاعر والرسام والصحفي الإنكليزي وليام بليك (1757 ـ 1827 ) م .
الجدير بالذكر أنَّ معظم الفلاسفة والمحللين النفسيين والأطباء المتخصصين، وعلماء الاجتماع يتّفقون على أنَّ الصداقة من النزعات الإنسانية الفطرية الخالصة التي لا تشوبها شائبة، وهي التي يحتاجها الناس روحياً ونفسياً وأخلاقياً، وقد اكتنز تاريخ وتراث كل أمةٍ بما يؤكّد على هذه العلاقة ويعزِّزها من خلال الحكايات والوصايا والشعائر وتأدية الطقوس، بينما توجَّه الفحص الفلسفي واستطالاته لهذه العلاقة إلى مفهومها الإنساني الوجودي، انطلاقاً من مثنوية الخير أولاً والشر ثانياً التي تمحورت حولها الفلسفة الأخلاقية منذ نشوئها الأول، والإنسان كجوهرأساسي في هذه الحياة يعيش حالة وسط بين الكمال المطلق المتمثل في الخير وإيجابياته، والنقص المطلق المتمثل في الشر وسلبياته، ووفق رؤية الفيلسوف اليوناني أفلاطون يمكننا البحث عن جوهر وكنه الصداقة في هذه المنطقة الوسطى الهامة التي تقبع بين الكمالين المتتاليين .
وقد شكَّل مفهوم الصداقة انشغالات الفلسفة واهتمامها منذ نشوئها وعصورها الأولى، وحوى كتاب (المحاورات) للفيلسوف اليوناني أفلاطون (438 ق. م – 347 ق. م) وهو كتاب ضخم في خمسة أجزاء مع ملحق لآدم فوكس كبير الأساقفة بعنوان: (أفلاطون والديانات السماوية) شكَّل هذا الكتاب عمليات نقاش فلسفي مهمة، تتقصى تلك الحوارات جوهر هذه العلاقة الخارجة عن علاقات القرابة من الدرجة الأولى والدرجات المتتالية ،أو الرفقات الإجبارية التي تحدِّدها اهتمامات الحياة مثل الهموم المشتركة، أو الوظائف، أو الاحتشاد والتوافق في وجه خطر ما يهدِّد المجموع.
من جهته يرى أفلاطون أنَّ الإنسانَ الذي يحوز بالمطلق صفات الخير والمِفضال لن يكون في حاجةٍ لصديق، لأنه في مثل هذه الحالة مكتفٍ بذاتهِ الخيّرة المعطاءة، بينما من يتصف بالشر والشناعة والضرر لا يرغب أساساً في الوصول إلى الكمال والتسامي، وبالتالي من يَعِش في مسافةِ الوسط بين الخير والعطاء، والشر والضرَر والأذى، هو من يبحث عن الكمال والتسامي عبر إنشاء صداقات منتقاة بدقةٍ وشفافية. طموحها الأساسي البحث عن التسامي والاكتمال، وهذا ما يفسِّر بدوره، حسب رؤية الفيلسوف اليوناني أفلاطون وبعض تابعيه ومريديه، استحالة قيام صداقة حقيقية بين النقيضين أو بين الشبيهين، بل تتحقَّق بين مختلفين بينهما مشترك معيّن، يعزِّز هذه الرغبة في التكامل والتسامي أو التعاضد القيمي من أجل الاكتمال، وبالتالي، غير وارد أن تنشأ صداقة حقيقية بين العارِف تماماً والجاهل تماماً، ولكن بين من لا يجهل تماماً وبين ما لا يعرف تماماً.
من جانبٍ آخر يعارض الفيلسوف والحكيم اليوناني سقراط (470 ق.م – 399 ق.م) والذي يعتبر أحد مؤسسي الفلسفة الغربية هذه الثنائية التي يعتمد عليها أفلاطون، ويرى أن التكامل والتسامي يذهب أكثر من ذلك، بل يشمل النقيضين الضروريين للصداقة ومكنوناتها، باعتبار الفرد لا يمكن أن يُنشيء صداقةً مع من يشبهه شبهاً كبيراً، ومن خلال محاورة بين سقراط ومنكسينوس المتضَمَّنة في كتاب من تأليف أفلاطون.فعبر التاريخ الفلسفي لم يترك أول الفلاسفة اليونانيين الكبار كتاباتٍ ولا سيرة ذاتية، والمتداول عنه هو ما رواه زينوفون وأفلاطون، اللذان عرفاه فيلسوفاً للأخلاق وحكيماً مشهوراً بمنهجه السقراطي، ومذهبه الفلسفي في العاصمة اليونانية أثينا التي مزقتها الحرب.
وتبدأ قصة الحكيم سقراط المتداولة على لسان تلامذته ومريديه في منتصف عمره، واشتهر منذ كان ثلاثينيا بمحاوراته ومناقشاته ومقولاته واستجوابه، وحتى قصة إعدامه التراجيدي والمأساوي الذي شكَّل نهاية عصر أثينا الذهبي. وكتاب محاورة منكسينوس تأليف الحكيم أفلاطون واحد من أهم أعمال أفلاطون يجمع آراء أفلاطون حول فن الخطابة. و قد اشتهر أفلاطون بأنّه كان من المعادين لهذا الفن باعتباره وسيلة السفسطائيين وامتهانهم لها لتحريف الحقائق وتشويهها.ومحاورة منكسينوس هذه جاءت لتوضح وتخطط لنا الأسلوب الأمثل لممارسة فن الخطابة وإدارة الحوار من وجهة نظر أفلاطون، حيث يضع لهذا الفن قوانين وأسس يجب أن يقوم عليها، هذا وقد ذهب أفلاطون إلى اتخاذ منهجاً صريحاً وواضحاً في هذا الفن، بعد مجيء أرسطو و ثيوديكتوس إلى الأكاديمية.
ومن خلال المحاورة الشهيرة بين سقراط ومنكسينوس (يخبره الحكيم سقراط بأنه شخص لم يشغل قلبه منذ طفولته فصاعداً سوى الولع بالأصدقاء وحبّه للصداقة، وأنه يفضِّل الصديق الخيّر المعطاء الكريم على أي شيء آخر، وأنّه يبتهج ويذهل عندما يراه هو وليسيوس فى سنهما المبكرة هذه، وقد امتلكا بسهولةٍ هذه الثروة الهائلة، بينما هو بالرغم من تقدّمه في السن لم يحصل على صديق صدوق ولا يعرف حتى كيف يكتسب الصديق المناسب.
إنِّ ما يمر به العالم من أحداث ساخنة ، بل دامية، وما نشاهده على الشاشات من قتلٍ ودمار وخراب، وفقدان للنواميس والأخلاق الحميدة، يؤثر تأثيراً كبيراً على الصداقات، ويجعلها تتصدّع وتنهار، بخاصة بين صفوف المثقفين وأصحاب الرأي لم تجمعهم رفقة المشروع الوطني أو القومي أو أي مشروع آخر فقط. ولكن شروط الصداقة الحقة والصحبة الطويلة، وفي مظهر صريح وواضح لا يفرق الإختلاف بالرأي وجوهر علاقات الصداقات التي تتطلب هذا الخلاف وذاك الاختلاف بالذات، كي تستمر الصداقات لأنّ الخلافات ملح الحياة .