فكر

يا أيها الملأ

بقلم: محمد عبد العظيم العجمي

     إن الدالف إلى هذا الرحاب العبق، والروض الأنف عليه أن يستوقف النظر، ويرجع البصر كرات ومرات، عله يتدبر القلب بعضا مما أمر فيه بالتدبر، ولن يعدم مثل هذا أن يخرج من هذا البحر الزاخر بما لم يخطر له على بال، وما لن يجد مثله أو مثل مثله عند أحد من حكماء البشر، ولا عظماء الكون؛ إنما هو الكتاب والحكمة معا، فأنى يصرفون؟!

   هذا الصنف الذي أولاه القرآن أكثر من وقفة، وعوّل عليه في كثير من إدارة الأمور، والمشورة، والرأي، والإفساد والأصلاح، وحفظ الممالك وتضييعها، وهداية الملوك وإضلالهم، والأخذ بأيدي الأمم إلى معالي الحضارة، أو النزول بها إلى مهاوي التهلكة والتضييع، ونجاة الأمراء والخروج بهم من حالك الأزمات، أو الزج بهم في غياهب الضلال الدنيوي والعذاب الأخروي.

لذا عوّل القرآن عليه في كثير من الخطاب الملوكي التوعوي الترشيدي، وعرض لأكثر من نموذج من هذا الصنف ليبين خطر هذه المهمة ودقة أثرها، وعظم المترتب على اتخاذها بطانة سوية أو مفسدة، وقد عرض لـ(الملأ) مع أكثر من حاكم ليقدم هذا المثل العملي المقتدى والمعتبر.وهذا أولهم يقول “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي“، وهذا تعريض أو تصريح بهذا هذا الجمع المستمع لهذا الخطاب الفاسد، والذي لم يبرز منهم إليه من يرده إلى صوابه، أو يردعه أو يصحح له؛ إنما كان السكوت هو دليل صارخ على رضا هؤلاء الطغمة المنتفعة بما يسمعون، وأن استقبالهم لهذا السقط من الكلام؛ ماهو إلا دليل حمق وخسة وجهالة من المستمع الذي يرضى بالتلبيس على أعظم قضية في الوجود، والتي لا ينكرها العقل المحض حتى ولو حيل بينه وبين أبسط العلم، فإن الفطرة تأبى غاضبة مثل هذا السفه.

فضلا عن أن يقال هذا بحضرة رسول جاء مؤيدا بالبينات من ربه، وقد أقام عليهم من الحجج والبراهين والآيات ما يدحض مثل هذا الهراء، لكن “لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون بها”، ثم يلقي بين أيديهم بالأمر لينظروا فيه ويتأملوه ثم يدلي كل منهم بما يشير عليه، فما كان منهم إلا ازديادا واستمراء في التعالي والشطط، فقالواقَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)و”بكل ساحر عليم “.

  وحين يسقط في أيديهم، ويحق القول عليهم، ويقع الحق ويبطل ماكانوا يأفكون، لم ترعوي هذه العقول عن غيها، ولم تثب إلى شيء من رشدها، بل قالوا” وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)”(الأعراف).

   ثم يملوا لهذا المتكبر العتل في غيه، ويسهبوا له في سقطه حين ينادي فيهم فلا يجد منهم غير هذا العقل القطيعي المنتفع المؤتفك، لا يرى إلا مكانه من الدنيا الذي يدفع عنه بكل ما أوتي من الجهل، ولو لآخر قطرة  من دمه، أو آخر فسحة من عقله الغوي “ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ(52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ(53)” هكذا يترفع هذا المأفون عن منهج السماء المنزل، ويتعالى بما أوتي من الملك الذي لم يكن ليديه فيه صنعة ولا فضل؛ بل كان منة من مرسل هذا الرسول الذي يستخف به.

فلما أن أُغلقت دونهم أبواب الهداية، وحيل بينهم بين فطرة العقول ومكتسباتها، حقت عليهم لعنة الاستخفاف والفسق، بما قدموا لهذا الغوي الغبي من طاعة وراءها مصلحة وانتفاع «فَاسْتَخَف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54)فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)”(الزخرف).. فهذا صنف ربما أسيء انتقاؤهم فكانوا نقمة ووبالا على المختار، وربما تشاكلت هذه النفوس المريضة فوقع بعضها على بعض، فأهلك بعضها بعضأ.

    وقد نرى على الجانب الآخر مثلا مختلفا، على نفس الأرض وبين يدي نبي ابن نبي ابن نبي، لكن الأمر اختلف؛ إذ ارتقى العاهل فانتقى البطانة من الملأ الرشيد، أصحاب النهى الذين ترفعوا عن التكلم بغير علم في تأويل الرؤيا حين طرح الأمر على أسماعهم فقال “ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايإِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43) “(يوسف)، إنه اشترط عليهم خبرة (التعبير) وهو العلم بالتأويل؛ لذا ترفعوا جميعهم عن القول بغير علم فقالوا “أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين”.. 

وهنا انفسح المجال أمام مجهول بسيط الحال والعمل، بل مستخرج من سجنه بعد بضع سنين، فارتأى الساحة خصبة رغم رهبة المشهد، وعظم السائل؛ إلا أن فرضية الشورى، وبسط الثقة لأهل الرأي، شجعه أن يشير بما لديه من سابق معرفة، وإن كان ليس صاحبها، فإنه يعرف صاحبها، ومن يقوم بأمرها ، فضلا عن أنه الصديق العليم الحفيظ.

     ومن روح المشاورة، وإرخاء العنان للمواهب المتوارية، مهما كان وضعها حتى ولو كانت مغيبة في غياهب السجون، إلا أن هذا لا ينفي أبدا الانتفاع من علمها، والإنعام عليها بالعفو، واستخراجها مما ألصق بها لاقتضاء مصلحة عليا للبلاد، يتحتم من تداركها نجاة البلاد والعباد، وحفاظ الحرث والنسل الذي أنيط به هذا الحاكم ، وطوق به عنقه، وهو عنه مسئول أمام الله ، والناس ، والتاريخ.. “وقال الملك ائتوني به “، “وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي”.

وبفضل هذه الشورى المتبعة، والثقة المطرحة لأهل العلم والرأي، لا لبطانة السوء والإفساد والإهلاك كالتي سبق ذكرها، جعل الله إنجاء البلاد والعباد، وإنقاذ الحياة في محيط الأرض على يد هذا (الحفيظ العليم) يوسف عليه السلام، صاحب البراءة والدماثة والأصالة.. فيفتح الله على يديه وتصلح بخبرته الحياة ويفيض الخير والنماء؛ ويأتي ما ارتقب بعد السبع العجاف”عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون”.

صورة أخرى مشرقة من صورة هذا الملأ، في قصة بلقيس مع سليمان عليه السلام” قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)“(النمل)؛ وهنا الأمر جد جلل، حين يسمع سليمان لأحد بطانته مهما كان تواضع خطره (الهدهد)، بل يتحمل مع السماع من هذا المخلوق البسيط العجيب، يتحمل خيلاءه وتعاليه بما أوتيه من علم لم يبلغه عقل سليمان عليه السلام فيقول”أحطت بما لم تحط به “، وهنا يفسح المجال للعلم ويقدم شأنه، ويؤخر ما دونه، ليرى سليمان من حكمة الله التي أودعت في كل نفس مهما حقرت أو عظمت، إنك لن تعدم منها مالم تحط به، وما ليس لك به علم ، وما يستحق أن تطأطأ له رأسك خاشعا متواضعا،

    ويستجيب سليمان ليختبر صدق هذا الجندي البسيط من كذبه، ويكلفه باستكمال الأمر الذي بدأ، دون إقصاء من سليمان أو تعال، أو استبدال .. إنما يقدره حق التقدير ويوكل إليه إكمال المهمة ، وإبلاغ رسالته إلى ملكة أعظم مملكة في ذلك الزمان .

   ولما وصلها الخبر من سليمان، لم تأخذها عزة الملك، ولا إثم الجهل والكبر، وقد كانت اختارت لها ملأ أهل عز ورأي وبصر، فأخبرتهم بعد أن جمعتهم ليشيروا عليها بالرأي، فكان جوابهم “ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)”(النمل)، هو ليس استعراضا للقوة، ولكن عرض ما هو متاح ثم رد الأمر بعد إبداء المشورة إلى صاحب الأمر ، وقد علموا ما لها من العقل والحكمة ودقة التدبير..

لكنها تقدم بين أيديهم بالرأي الأول الرشيد الذي يفتح الأبواب للعقل والحكمة والرأي السديد، ويسد مسارب أهل الغلق والفجور، فتصف الكتاب بالكريم ، وتتلو عليهم نصه الذي يحمل فيه طياته الدعوة إلى الخير والرشد، والبشرى بالفلاح والنجاح .. وكذا التحذير من الاستعلاء والتجافي عن أمر الله بالإسلام وإخلاص الدين له وحده.

ولم يكن من نتاج هذه المشورة الراضية، مع هذا الملأ الحكيم الذي انصاع لحكمة الرأي من مهادنة الملوك وخطب ودهم، وعدم الدخول معهم في صدام لا يجتني منه إلا الويل والدمار، لقد كان من يمن هذه الشورى وبركتها أن أسرعت بلقيس وملؤها للدخول في الإسلام مع سليمان لله رب العالمين.

هذه بعض صور من هذا النموذج الذي أنيط به الشورى والاختيار والتدبير وحفظ الممالك، فكان بعضها هلاكا لنفسه وصاحبه ومن حوله، ونقمة على البلاد والعباد، ومنها صنف ألهم الرشد، وأقصي عن الغي، وابتدر العقل والحكمة، فكان بعضها صلاحا للبلاد والعباد وإنقاذا لهم، وبعضها يفتح الله له طريقا ممهدا إلى خيري الدينا ونعيم الآخرة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى