تمازج أم تفارق بين الفكر والسياسة؟
بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين
لم تتوقف تعريفات مفهوم (السياسة) أو (علم السياسة) عن التوقف عبر التاريخ، فقد أشار اللغوي الأندلسي، وصاحب كتاب (المحكم والمحيط الأعظم) أبو الحسن علي بن إسماعيل والمعروف بابن سِيدَه المُرسيّ أنّ السياسة لغوياً من مصدر على فِعَالَة، وساس الأمر سياسة، والصاحب بن عبّاد قال قبله: أنّ السياسة فعل السائس، والوالي يسوس رعيته، وهي تعني اصطلاحاً رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية. كما أنَّها دراسة السلطة والحكم التي تحدّد مَن يحصل على المصادر الخاصة المحدودة. واصطلاحاً تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتعرف إجرائياً حسب ما قدمه عالم الاجتماع الأمريكي هارولد دوايت لاسويل Harold Dwight Lasswell (1902ــ 1978) م.وهي فعل الترويض والتدريب على وضعٍ معّين، والتوجيه والتربية، وإصدار الأوامر والقرارات ،والعناية والرعاية، والإشراف بشكلٍ تام على شيء معيّن، والاهتمام به والقيام عليه بشكلٍ فعلي.
والسياسة تعبيرعن عملية صنع القرارات والقوانين الملزِمة لكل المجتمع، وتتناول القِيَم المادية والمعنوية، وترمز في الوقت ذاته لمطالب وضغوط كبيرة، وتتم عن طريق تحقيق المرامي والأهداف ضمن ما خططه الأفراد والجماعات والمؤسسات والهيئات والإدارات والنخب، حسب أيدولوجيا محدّدة، على مستوى محلّي أو إقليمي أو دولي. وفي حقيقة الأمر تساهم السياسة في إقامة علاقة بين الحاكِم والمَحكوم، وهي السلطة العليا في المجتمعاتِ الإنسانيةِ، حيث تعني السلطة السياسية القدرة على جعل المحكوم يخضع للحاكم، ويعمل أو لا يعمل أشياء ما، سواء قَبِل بهاَ أم رفض. وتمتاز تلك السلطة بأنّها سلطات عامّة وتحتكر وسائل العنف والضغط والإكراه، كالأجهزة الأمنية والقوات العسكرية والشرطة، وتحظى بالشرعية القانونية والدستورية .
فكلّما سعينا للحديث عن السياسةِ ازدادت الحاجة والضرورة إلى اعتبار السياسة أساسية كعلم يرتبط ارتباطاً قوياً بالخيرِ والأخلاق بشكلٍ عام. لذا تساءل العديد من المفكرين والباحثين المتخصصين حولَ هل السياسة علمٌ مستقلٌ مثلَ بقيةِ العلومِ الإنسانية والطبيعية، وهل لها علاقة وثيقة بالفكر؟. ذلك لأنّ هناك توظيفاً سيئاً للفكر في بعض الحالات تكريساً لمصلحة محدّدة أو أهدافاً معينة، وهذا ما يدفع عامة الشعب لاعتبارها طريقةً مخادعةً ،وفيها كل أساليب إخفاء الحقيقة. من أجل الوصول إلى الأهداف والمرامي المبتغاة. وفلسفة السياسة هي تفكير نظري عميق في ما يتعلّق بالتجربة السياسية، وهي أيضاً فرع من فروع الفلسفة، باعتبارها بعداً من أبعاد التجربة الإنسانية بشكلٍ عام.، يصنفها الفيلسوف اليوناني أرسطو ضمن العلوم التطبيقية، نظراً لارتباطها بالممارسة العملية.
والسياسة حسب الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتابه (السياسة) تعني الأفعال النبيلة، بخاصة في المدينة النبيلة أو (المدينة الفاضلة) مثل أثينا واسبارتا وحدةً صغيرةً نسبياً ومتماسكة، وتتشابك فيها المفاعيل والشواغل السياسية والثقافية والدينية، كما أنَّ تشابهها مع الدول القومية الحديثة أمر مثير للجدل. و(politike) هي المفردة التي يشير بها الفيلسوف أرسطو للسياسة، وهي اختصار لــ ((politike episteme)) أو العلوم السياسية. هذا المصطلح ينتمي لواحد من الفروع الثلاثة الأساسية للعلوم الإنسانية والطبيعية، والتي يميزها أرسطو بواسطة أهدافها وغاياتها.
كما عرّف الفيلسوف اليوناني سقراط السياسة بأنّها: ( فنّ الحكمِ، والسياسي هو الذي يعرف فنون الحكم). وعرّفها الفيلسوف اليوناني أفلاطون بأنّها: )فن تربية الأفراد في حياة جماعية مشتركة ومتكاملة، وهي عناية بشؤون الجماعة ككل، أو فن حكم الأفراد بقبولهم ورضاهم، والسياسي هو الذي يعرف هذا الفن ويعمل به).
وحسب عالِم الاجتماع العربي الأوّل عبد الرحمٰن بن مُحمَّد بن خلدون الحضرمي (ابن خلدون) فإنّ السياسة هي صناعة الخير العام، فحتى عصر ابن خلدون كانت السياسية عند العرب تنقسم إلى ثلاثة أقسام مختلفة، يمكن تسمية أولها بالخلق وموضوعه العلائق بين السلطان والرعية، والثاني عملي ويحدّد تصرف الحكومة نحو الأفراد فيما يتعلق بالمسائل العامة، ويكون جزء من التشريع، والثالث نظري ويختص بالخلافة وضرورتها، وأساسها من الدين والعقل، ومختلف آراء المسلمين، وهي أمانة وتفويض،كما كتب عَرَفَة بن طنطاوي في هذا السياق كتاب بعنوان:(قطع العلائق للتفكّر في عبودية الخلائق) .ووفقاً لـــ فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف بــ لينين تعتبر السياسة تكثيف للاقتصاد، أما المنظِّرة السياسية والباحثة الألمانية حنة آرنت Hannah Arendt(1906 – 1975) م فقد قالت إنَّ أصل السياسة هي الحريّة، والحريّة هي جوهر الفعل الإنساني الذي يقوم على الشجاعة والقوة والبراعة. ويذهب الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي المولود في ماجديبورغ الألمانية )كارل فون كلاوزفيتز (Carl Philipp Gottlieb von Clausewitz إلى اعتبار الحروب نوع من السياسة يتم تقديمها بوسائل عنفيّة.
هنا يمكننا أن نقول إنَّ السياسة هي فن الممكن في الواقعية السياسية، وعلم إدارة الدولة ومؤسساتها وهيئاتها، وتوازن القوى، وهي تجمع الإدارة والتنظيم والتدبير والفن بشكلٍ عملي ممنهج ضمن قواعد ومعايير إنسانية باقترانها بفعل الحق والخير والعدالة الإنسانية، وإلّا ستكون السياسة ومنتجها وفعلها شرّاً وضرراً وخطراً كبيراً، والشرير والمسبب للأخطار ليس شجاعاً حتى لو انتصر على أعدائه، وذلك لأنّه اقترنت صفة الشر بالجبان الرعديد، أما الشجاعة هو مصطلح معناه القدرة على مواجهة الخوف، والوجع، والألم، وعدم اليقين، والخطر الشديد، فهي بشكلٍ أو بآخر فضيلة من فضائل القيَم الإنسانية الصادقة والقلب الصافي الحر، حيث تقتضي مقاومة الشرور والآثام، والسياسي الناجح هو من يعمل لتحقيق الخير والحريّة والمساواة والعدل والجمال والتسامح، مقترنةً الوسيلةَ بالهدفِ المنشود. لكنَّ السياسي ورئيس الوزراء الأسبق في بريطانيا بنجامين دزرائيلي Benjamin Disraeli(1804 ـ 1881) م يرى: (إنّ السياسة هي فنّ حكم البشر عن طريق خداعهم).
شهد التاريخ البشري فنوناً متعدّدة من المفاهيم والأفكار السياسية فقد ظهر كتاب (الأمير) للمفكر والفيلسوف السياسي الإيطالي (نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي Niccolò di Bernardo dei Machiavell) (1469ـ1527) م، وهو الشخصية الرئيسية والمؤسِّس للتنظير السياسي الواقعي، والذي أصبح كتابه الهام والخطير (الأمير) فيما بعد عصب دراسات العلم السياسي. فقد كان كتاب (الأمير) أشهر كتب ميكافيلّي الذي تضمن العديد من النصائح للحاكم، نُشرَ الكتاب بعد موته، وأيَّد فيه فكرة أنَّ ما هو مفيد فهو ضروري، والتي كانت عبارة عن صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية. والتي حملت شعاراً ما يزال متداولاً: (الغاية تبرر الوسيلة) وهي بمثابة موجِّه للحاكم كي يبسِط سيطرته وهيمنته على الشعب والبلاد ومن يعاديه من الداخل والخارج. مع العلم أنّ الشرعية السياسية تستند إلى عنصرين رئيسيين الأوّل: رضا الشعب، والآخر المنجزات المتحقّقة، مع العلم أنّ المشروعية تستند على حكم القوانين الناظمة .
من المعلوم أنّ السياسة كانت قائمة كممارسة على تحقيق المصالح بين اتفاق وخلاف. لكن الإطار النظري للسياسة تجسّد كعلم ومعرفة منذ أن بدأت الثورة الفرنسية التي عرفت عدّة مراحل استمرت من 1789 حتى 1799،م
وهكذا نفهم انّ معنى السياسة هو (الكفاح من أجل السلطة والحكم، والصراع عليها) وليس هو محصوراً في (فنّ الحكم المجرّد) وليس معنى السياسة أيضاً على أنها (هي أداة تسلّط طبقي) ولا هي (فن الوصولية). بل هي: )رعاية شؤون الشعب والأمّة بشكلٍ عام( .
لقد ساد اعتقاد شائع على مدى سنوات طوال أنّ (السياسي) لا يتورّع عن القيام بأي عمل يستطيع من خلاله تحقيق أهدافه ومراميه، متذرِّعاً بأنّ غايته الشريفة تؤهله لكسب هذا الحق، وأنّه صاحب الحق المطلق أو شبه المطلق، فهو يسعى نحو تحقيق مصالحه بالدرجة الأولى، وأنّ له الأفضلية في ذلك. من هنا كان وقوع العديد من القوى والأحزاب والتيارات الآيديولوجية في مستنقع الطغيان والاستبداد والعنصرية أو الاستعلاء أو التمييز الديني والمذهبي والطائفي، من خلال استخدامهم الإكراه والإرهاب والعنف المنظم والتضليل الغَوْغَائِيّة أو الدَهْمَانيّة، وهي استراتيجية تسير وفق نسقٍ معيّن وممنهج لإقناع الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة. وهي استراتيجية سياسية تهدف بشكلٍ أو بآخر الحصول على السلطة وإدارة الحكم والإمساك بهما، والكسب للقوة السياسية من خلال مناشدة التحيزات الشعبية معتمدين على مخاوف وقلق وتوقعات الجمهور المسبقة.وهذا يسير وفق مسار الخطابات الرنّانة والإعلام الممنهج، وكل أشكال الدعاية الحماسية مستخدمين المواضيع التاريخية والتراثية والوطنية والقومية والشعبية محاولين استثارة عواطف الشعب وذلك من خلال استخدام القوة العنيفة الخشنة والقوة الناعمة المخادعة .
لقد كان لأفكار العديد من الكتّاب والمفكرين والفلاسفة دورٌ كبير في التعبير عن الحقوق والواجبات بين الفرد والدولة في مجال عقد ينظم تلك العلاقة، فقد كان للكاتب والأديب والفيلسوف وعالم النبات الجنيفي جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau) (1712ــ 1778) م. والكاتب والفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري آروويه (François-Marie Arouet) ويُعرف باسم شهرته فولتير (Voltaire) (1694–1778) م.والفيلسوف التجريبي والمفكر الإنكليزي جون لوك (( John Locke (1632ــ 1704) م. والفيلسوف والأديب والقاضي والسياسي الفرنسي شارل لوي دي سيكوندا (Charles Louis de Secondat) (1689 ــ 1755) م المعروف باسم مونتيسكيو. وهو صاحب نظرية فصل السلطات الذي تعتمده في الوقت الحالي العديد من دساتير الدول عبر العالم. والفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي توماس هوبز Thomas Hobbes (1588 ــ 1679) م الذي اشتهر في اشتغاله بالفلسفة السياسية.
هؤلاء عبّروا عن بروز وانتشار شعارات الحريّة والمساواة والإخاء والمحبة، حتى إذا ما جاءت الدولة القومية وترسّخت قواعدها وأركانها، وبدأ عصر الاستعمار الكولونيالي صار الفكر مرادفاً للدولة ومؤسساتها وإداراتها وهيئاتها، وغدت السياسة المعروفة بالبراغماتية Pragmatism مرادفاً لها، هكذا ابتعدت السياسة كعلم عن دورها ووظيفتها الأخلاقية.
ساهمت الحرب العالمية الثانية (1939ـ 1945) م في تطوير وبلورة مفهوم نظري أحدث لعلم السياسة تبنتها منظومة الدول الغربية بهدف مواجهة الأفكار الشيوعية واليسارية التي انتشرت في معظم دول العالم بخاصة في فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية وبعدها، والتي مهّدت لظهور المكارثية McCarthyism نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف مكارثي وهي فكرة تستند على توجيه الاتهامات بالخيانة والتآمر دون الاهتمام بالأدلّة والبراهين.
لقد عمل العديد من الساسة والمفكرين على تطوير وتكريس علم السياسة وفق رؤاهم مثل السياسي والدوبلوماسي الأمريكي والخبير الجيوسياسي (هنري ألفريد كيسنجر (Henry Alfred Kissinger وهو أحد كبار العقول المدبِّرة في الولايات المتحدة الأمريكية. والمفكّر الاستراتيجي) زبيغنيو بريجينسكي Zbigniew Brzeziński ) (1928ــ 2017) م وهو مستشار الأمن القومي الأمريكي لدى الرئيس الأمريكي جيمي كارتر .
والعالِم السياسي الأمريكي صامويل فيليبس هنتنغتونSamuel Phillips Huntington )1927-2008) وغيرهم، وهؤلاء عملوا على بلورة رؤية رأسمالية لعلم السياسة الذي كان تركيزه الأساسي على التنوّع والتعدّد ومراحل التطور والنمو ،ودور النخب الرفيعة بإخضاع الفكر للدولة ومؤسساتها، وأصبحت النظريات والرؤى وتطوير المفاهيم والمصطلحات تتجه نحو تبرير السياسات التي اتخذتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
مقال جيد يؤرح لما يسمى “علم السياسة” ويأتي الأستاذ عماد رحمة على أقوال ورؤى أكثر من عشرة فلاسفة من القدامى وحتى الوقت الراهن، وهذا عمل فكري يعكس اهتام الكاتب بموضوع السياسة ودور السياسة والسياسيين في حياة البشر وتطور نظم الحكم في العالم، لذلك يشكل هذا المقال، أو بالأخرى هذه الدرساة مرجعا حيدا لطلبة الاقتصاد في الجامعات العربية.
أهنئ الأستاذ عماد على هذا الجهد الكبير، وأتمنى له دوام التوفيق.