بلدي في أيام الكورونا

زياد شليوط | شفاعمرو – الجليل | فلسطين

مقطع من عمل نثري طويل قيد الإنجاز

تنبه نادر إلى أن شوارع بلدته تكاد تكون خالية من الناس والسيارات على غير العادة، ونبهه صوت داخلي (انه زمن الكورونا، معقول نسيت)، هزّ رأسه نافيا. وعاد للتفكير بحال بلدته.. لم أعهدها يوما على هذا النحو.. معقول، معقول أن يختبيء أهل بلدي في بيوتهم خوفا من فيروس صغير يكاد لا يرى بالعين. أهل بلدي الذين لم يتأخروا يوما عن الخروج للشوارع والتنقل بين المحال التجارية أو لمجرد التجوال في السيارات أو تبادل الزيارات والقعدات. هل يعقل اني لا أسمع أصوات التحيات: كيفك خال؟ شو الأخبار؟ كيف العيلة؟ والشغل ها؟ لا يا رجل.. أو النساء يتذمرن في محل الخضراوات. والله مش عارفي شو بدي أطبخ اليوم؟ فش خيار أحسن من هذا؟ وتأخذ بنبش كوم الخيار من أسفله الى أعلاه فلا تبقى خيارة سالمة بين يديها. بينما ينظر اليها البائع شزرًا وهو يكظم غيظه. وزمامير السيارات صمتت وسكنت، ألم يعد أحد مسرعا إلى مكان ما، أو محتجا على إغلاق الشارع بطابور السيارات، لأن سيارة واحدة عرقلت حركة السير، تبغي الوقوف أمام متجر وهي تنتظر سيارة أخرى للتحرك، بينما السيارة الأخرى تتبطأ إلى أن تفرغ السائقة من وضع الأغراض في صندوق السيارة، وتتحول إلى مقود السيارة تحاول تذكر رمز محرك السيارة، وإلى أن ترجع على مهلها، غير آبهة بطابور السيارات الطويل الذي امتد على طول الشارع، فيفقد أحد السائقين صبره ويطلق زامور سيارته المزعج، ويأخذ آخر بالتلويح بيده معبرا عن احتجاجه وغضبه، وفي الصف الخلفي يخرج أحد السائقين ناظرا الى البعيد علّه يستكشف ما الخبر، ويجلس سائق آخر بهدوء مثير للأعصاب مرددا يعني الزامور رح يحل المشكلة، فقط ازعاج وتوتر أعصاب لا حاجة لهما، دقيقة دقيقتين ويمشي السير.

أين الناس؟ اشتقت لسماع أصواتهم، لشتيمة منهم يلعن أبو اللي خلفك ما أظرفك. ويطلق ضحكة مجلجلة فينتبه الى صداها ويكتمها خجلا. اشتقت لطوشة صغيرة.. انزل عينك ليه بتطّلع فيّ. يا عمي مين اطّلع روح الله يسهّل عليك. ولك بتهزأ مني. ينزل هذا من سيارته وذاك ينزل لملاقاته، ترتفع الأيادي. يلحق شاب بهما من هنا وآخر من هناك. له.. له يا اخوان.. مش محرزة من شان الله. يتراجع المتنازعان وكل يرمق خصمه بنظرة غاضبة. يا ليت تعود تلك الطوشات. وننتهي من أعمال القتل والإجرام التي حلت علينا، وجعلت أهالي بلدتنا يعيشون في خوف وحالة ترقب دائمة. والبعض منا يردد بسذاجة “بلدنا بعدها بخير”، الى أن راح الخير وبقيت بلدنا دون خير. لكن بلدنا بعدها كما أعهدها وكما سمعت عنها من أبي وأصدقائه. قرن من الزمان لم تتغير بلدي، لم تتطور، لم تتعصرن. نعم كبرت وامتدت بيوتها الى كل التلال التي كانت تعتبر وعرًا موحشًا، يخرج اليها الأهالي للبحث عن الأعشاب البرية ويحولونها الى طعام وغذاء. الزعتر، الخرفيش، العلت، اللسينة، العكوب قبل أن تصدر القوانين الغريبة بمنع قطف الأعشاب التي نبتت لوحدها في البر، وليس بفضل أحد سوى الخالق. فلم تعد عندنا أصلا أراض وعرية بعدما امتلأت بالبيوت والدور التي أخذت تعلو عاموديًا. وازدادت الشوارع بالطبع والأهم السيارات، في كل بيت تجد اليوم سيارتين وأكثر. السيارات تتضاعف والشوارع على حالها ضيقة، تفتقر للتنظيم والترتيب، والناس لا يلتزمون بالإجراءات الجديدة التي تحاول إيجاد الحلول لأزمة السير التي لم تعد تطاق وتؤدي الى كثير من المشاكل، وبدل أن يقوم الجيران بتوحيد الجهود لحل الأزمة، تراهم يتنازعون فيما بينهم على مكان الوقوف كلّ لسيارته، لا يريدون التنازل للبلدية لتوسيع الشارع ويريدون مكان وقوف لسياراتهم، فيعلو الصراخ بينهم ويصل حد الضرب والتشابك بالأيادي الى أن يأتي سائر الجيران ويفضون الاشتباك. وأحمد الله أن الحال لم يصل بنا الى ما حدث في بلدات أخرى من قتل، نعم.. قتل على موقف سيارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى