التلفزيون بين اليقين والبهتان
توفيق شومان| مفكر وإعلامي لبناني
اختلطت على الإنسان تاريخيا ثقافة العين والأذن، وما بينهما من كلمة أو مشهد أو حدث أو صوت، وطغت الكلمة المنقولة سمعا، على المعرفة أو ما يعادلها لقرون وعصور، غير أن المشهد المرتكز على العلاقة بين العين والحدث، جعل المعرفة يقينا، ذلك أن ما تراه العين يغدو مسلما به ولا يقابله جدال أو نقاش، فحين يُقال رأيت، يعني تأكدت وأيقنت، ومع التوكيد واليقين يذهب كل شك وريبة، ولذلك اقترن التعبير اللغوي في لغات عدة إلى الربط بين فعل رأى وبين المعرفة واليقين .
ـ نقرأ قي القرآن الكريم التالي:”إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَٰجِدِينَ (يوسف – 4)“
لنلاحظ هنا كيف اختلط معنى الرؤية بالوحي، والرؤية من فعل رأى، والوحي هو اليقين.
ـ في الحديث النبوي جاء: ”قول النبي ﷺ: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين” ، ومرة ثانية دعونا نلاحظ العلاقة بين فعل رأى وبين المعرفة والتوكيد الواصلين إلى حد اليقين.
وفي التراث اللغوي بأفعاله واشتقاقاته نقرأ التالي عن ذاك الربط بين فعل رأى وبين المعرفة:
ـ يقال: لم أر منه إلا خيرا، يعني لم أعرف عنه إلا خيرا ، وهنا مرة جديدة نلمس العلاقة بين المعرفة وفعل رأى .
من فعل رأى تم اشتقاق التالي: رأي بمعنى مقولة أو عقيدة فيقال رأي فلان في واقعة معينة أو حدث معين .
وإلى جانب فعل رأى تبرز أفعال مترادفة فيقال: نظر ـ بصُر ـ شاهد .
من فعل نظر: تأتي الاشتقاقات التالي: وجهة نظر ـ نظرية ـ والإثنتان لهما علاقة تربط بين النظر والمعرفة والوعي والعقل .
كذلك هي الحال مع فعل بصُر: ومنه بصير وبصيرة، وكلاهما يرتبط بالمعرفة والحلم والحكمة والوعي والعقلانية، فحين يقال فلان بصير يعني أنه يرى الأمور بحكمة وعقلانية.
حتى في القضاء يقال شهود، شهود جمع شاهد ، والشاهد هو من شهد برأيه وشاهد الواقعة ، أي انه على معرفة بما حصل وما وقع.
كل هذه الأفعال لها علاقة بالعين، لماذا ؟ لأن العين لا تخدع نفسها .
في اللغات الأجنبية ايضا: نأخذ أمثلة من اللغة الفرنسية:ونتوقف عند فعل شاهد أو نظر أو رأى:
ـ البداية من فعل رأى (verbe voir ) ومنه Visionـ رؤية ، ومنه أيضا: Point de vue/ وجهة نظر يعني رأي .
ـ ومن الفعل ذاته نلاحظ التالي: ـ Vision stratégiqueـ رؤية استراتيجية/ او Vision socialeـ رؤية اجتماعية ـ أو vision en dieu رؤية في الله ـ أو رؤية مستقيمة Vision droite
أيضا : إذا أردت أن تطلع على وجهة نظر شخص من الناس أو على طريقة تفكيره ، وأرسلت شخصا إليه فتقول له: …. Allez voir
ـ ايضا: regarder/ شاهد أو نظر/ يمكن أن تقول ، بل تقول على سبيل المثال: Regardez bien,/ بمعنى Écoutez / والتي تعني حكما : انظروا جيدا / انتبهوا جيدا / اصغوا جيدا / استمعوا جيدا .
أكتفي بهذه الأمثلة اللغوية التي تربط أفعال المشاهدة والنظر بالحقيقة ، على اعتبار أن العين مصدر الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك، وأذهب مباشرة إلى علاقة العين والحقيقة وعالم التلفزيون .
ولذلك لن أعود في هذه اللقاء، إلى الإعلام كمادة علمية وتعليمية ولا إلى أجناسه وأصناف… سأحاول أن أنقل تجربة شخصية وانطباعات وهواجس تتعلق بثقافة الصورة والإعلام التلفزيوني .
الكل يعرف أنه: أُجْرِيَ العديد من تجارب البث التلفازي في أواخر العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وكانت هيئة الإذاعة البريطانية ، وشركة سي بي إس الأميركية هما الرائدتان في تجارب البث التلفزيوني. هيئة الإذاعة البريطانية قدمت أول خدمة تلفزيونية في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، من خلال بث أطلقته من قصر ألكسندرا، في لندن، وفي العام 1936، تعاونت الإذاعة الوطنية الأميركية مع شركة إن بي سي، فوضعتا أجهزة استقبال تلفزيونية في مدينة نيويورك لحوالي 190 مشتركا. وكانت ثمرة هذا التعاون، بث برامج للرسوم المتحركة. وبعد ثلاثة أعوام، بدأ البث التلفزيوني المنظم في الولايات المتحدة .
لنلاحظ هنا، أن البث التلفزيوني، اعتمد في بديته على المادة الترفيهية، رسوم متحركة، لا أكثر ولا أقل، ولا يمكن الحديث هنا عن أي خطورة في البث التلفزيوني، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الثقافي .
التطور الأساسي في البث التلفزيوني، بدأ مع الحرب العالمية الثانية، عانى العالم من النازية والفاشية آنذاك، وهنا اكتشف القائمون على البث التلفزيوني، خطورة الصورة، خطورة الإنفعال، وقيمة تشويه الخصم، وحتى تحريف الحقيقة، من خلال السيطرة على العين التي كانت مصدر الحقيقة، لعلاقة الأخيرة بالرؤية، فحين تقول رأيت ، فأنت أمام حقيقة ناصعة.
ومع انتشار الإعلام التلفزيوني، ذهب القائمون على هذا العمل إلى ضرب العلاقة العضوية بين العين والحقيقة… بين العين والعقل، واحتلت الصورة التلفزيونية عناصر المخيلة وعناصر الشك بالواقع وتحليلها، لتقدم هذه الصورة مشهدا عن واقعة هو جزء من الحدث او جزء من الواقعة، فحولت الجزء إلى الكل، خاصة ان الإجتزاء يكون عادة مترافقا مع تحريك الإنفعال، وهنا لا بد من التوقف مع أمثلة حية ، معظمنا شاهدها وعايشها:
1: في حرب الخليج الثانية عام 1991: كل الحرب تم اختصارها بمشهد وصورة تقبيل ضابط عراقي ليد جندي أميركي .
2: في حرب العام 2003 على العراق : كل الحرب تم اختصارها بمشهد وصورة إسقاط تمثال الرئيس صدام حسين .
3: في ثورة 25 كانون الثاني / يناير المصرية في العام 2011، تم اختصار نظام الرئيس السابق حسني مبارك بمشهد وصور واقعة الجمال والخيول في ميدان التحرير .
4: ليس بعيدا عن مصر: في ليبيا تم اختصار شخصية العقيد معمر القذافي بخطابه الأول (فئران وجرذان زنقة زنقة ودار دار وبيت بيت).
طبعا هذه الوقائع ، أستعرضها لإظهار مدى قدرة الصورة التلفزيونية على الترويج إلى حد احتلال اليقين، وفقا لأفكار ومشاريع الأشخاص المجهولين الذين يقفون خلف الأضواء وفي الغرف المغلقة .
أمام هذا العرض أو السرد بالإمكان القول:يجمع التلفزيون بين السمع والصوت والعين والحركة والإنفعال، ويقدم التلفزيون نفسه ، بإعتباره ناقلا للوقائع و الأحداث، ولا يعني هذا الأمر أن الصورة التلفزيونية هي كل الواقع او كل الحدث أو أن هذه الصورة صادقة ولا يمكن دحضها.
ينقل التلفزيون انفعال المشاركين وردود افعالهم، وهذه في غاية الخطورة خصوصا في مواسم الأزمات، بحيث أن كل محطة تلفزيونية تعمل على شيطنة خصومها .
ـ يسلب التلفزيون المشاهد لأنه يخاطب في وقت واحد حاستي السمع والبصر ويحتل الأحاسيس والمخيلة ، ويحرك الإنفعالات.
يورث التلفزيون قناعات سلبية للمشاهد، فالصورة هنا تتحول إلى حقيقة، في حين أن الصورة قد لا تكون إلا جزء من الحقيقة، أو، ليست من الحقيقة .
ـ أسهم انتشار القنوات التلفزيونية الى تقديم معلومات وأفكار سطحية وغير علمية وغير واقعية، فالمشاهد يصبح أسير ما ينقله التلفزيون، الذي يتحول إلى مصدر وحيد أو شبه وحيد للمعلومات المتدفقة .
ـ أخطر ما في التلفزيون ، قدرته في إثارة مشاعر وأحاسيس المتلقي والتوغل في أعماقه ، فيما الإدمان على مشاهدة قناة تلفزيونية واحدة ، يجعل المتلقي مبرمجا، محتلا، مسلوبا، مفتقد القدرة على الربط والتحليل .
وهنا لا بد من القول:
1: استطاع التلفزيون، أن يفصل بين العين والحقيقة، وإذا كان قديما ، تم الربط بين الحقيقة و ما تراه العيون، فإن ما تراه العيون، اليوم ، على الشاشات ، ليس بالضرورة أن يكون حقيقة .
2: للتلفزيون قدرة مهولة، على خلق وإنتاج نجوم سطحيين في مجالات الفن والثقافة والسياسة، وللتلفزيون القدرة أيضا على إزاحة نجوم ونخب حقيقية أو التقليل من شأنها ، فمن يظهر على الشاشة له قوة اعتبارية بصرف النظر من هو وما قيمته وبصرف النظر عما يقول.
3: يحتل التلفزيون مخيلة المتلقي ، ويحرمه من التحليل .
4: تشتد خطورة التلفزيون في اوقات الأزمات، فالمادة المبثوثة في هذه الأوقات تتخلى عن كونها ناقلة للخبر أو الواقع، ويتمحور هدفها حول تحريك الغرائز والإنفعالات .
5: من الخطورة بمكان ، أن يوافق المتلقي، طواعية،على أن يكون أسير قناة تلفزيونية واحدة، فهذا يعني قبوله بإحتلال عقله ، فالحقيقة موزعة بين قنوات عدة .
6: عربيا :العديد من البرامج التلفزيونية، لا تعتمد توثيق المعلومة والتحقق من المصدر، وكثير من معدي البرامج ومقدميها، قاعدة عملهم في القنوات التلفزيونية، الولاء وليست الكفاءة، وهذا بحد ذاته ، يجعل المادة التلفزيونية، أمام محنة كبيرة.
7: أيضا عربيا: تقلص الفارق كثيرا بين الإعلام والإعلان، فنشرات الأخبار، والأخبار بحد ذاتها، غادت مادة إعلانية، لهذا الإتجاه أو ذاك .
8: بحسب تجربتي، أن الآتين إلى الإعلام التلفزيوني من الصحافة المكتوبة، أكثر كفاءة وثقافة، من الذين انخرطوا مباشرة في الإعلام التلفزيوني، وقد لا أحيد عن جادة الصواب إذا قلت، إن من يريد العمل في التلفزيون او الإذاعة، عليه التدرج في الصحافة المكتوبة .
بهذه الخلاصة، أصل إلى نهاية قولي ، مع كلمة ختام لا بد منها : الحقيقة التلفزيونية موزعة بين كل قنوات التلفزة، ومن يسعى إلى معرفة حقيقة الحدث، لن يجدها في قناة تلفزيونية واحدة، وهنا بالضبط صفوة القول: التلفزيون ضرب العلاقة العضوية بين العين والحقيقة، ولذلك حين تقول: شاهدت على التلفزيون لا يعني أنك أدركت الحقيقة وعرفتها .