أدب

ندف الثلج الأسود

بقلم: حنان بدران
ما زلت أكتب جنوني وصدقي وبكل هياج وزوابعي.. ورغم الصمت المطبق وأنا أسير في الطرقات لم أتهاوى في فخ الغربة، كان جسدي يركض بجنون الشهية إلى الاكتشاف في بلاد العم سام لم يكن يداوي جوعي المسعور للمسة حنان ورائحة “رغيف الطابون” وأنا أمشي بشوارع ومدن غريبة باردة يلف عنقها شال الضباب.
فقدت فيها مع الأيام أعضائي الروحية عضوا تلو عضو، في كل المدن التي مشيت فيها اترك جزء من طاقة…
رغم انقطاع الحبل السري حين غادرت رحم أمي إلا أنني أشعر بذلك الوريد من الحبل السري يمتد بي ويتمدد يزداد ثخنا وسماكة وكلما أمعنت بالاغتراب كان ذلك الحبل ما زال يشدني إلى وطني وفيه ينبض ويخفق في الانتظار قلبي.
ما زال طعم زيتك وزيتونتك، ورماد خبزك في فمي نزفي الوحيد فوق أرصفة الحلم في ليلك لكنني ما زلت أحبك ، ففيك سقطت ولم يرفعني أحد ، وتعلمت أبجدية الحب كما يتعلم الطفل المشي لأول مرة ، وبك وعيت كيف يصبح الانكسار لمن نحب عكازا ؟
وعيت عرس الدم والسماء تمطر نارا وحديدا متطايرا وأجسادا ممزقة لم نهرب إلى الملاجئ ركض الجميع ليرى ما يحدث وكان الجيران يركضون وركضت معهم
– جارنا أبو محمود يقف وهو يضرب كفا بكف ويضحك ساخرا من الغارة التي أثارت الفضول في الشوارع أكثر مما أثارت الفزع !
نظر إلي وقال: كأي صحفية تنتظر حدثا ما، وقد جاءك الحدث بين يديك… اكتبي عن حالة الفزع التي باتت تتملكنا جميعا حالة فزعنا من الاستسلام لحالة “اللاحرب – واللاسلم” التي نعيشها مع المحتل .
اكتبي عن الإنسان صاحب الحق الذي عليه أن يدفع ليموت بصمت حتى يكون عادلا وهو يمارس عليه أقصى أنواع الظلم ، وهم يمارسون انحيازهم الإجرامي نحو الفاشية والنازية نحو وهمهم المزعوم ومساعد السلم المزعوم…
اكتبي عن وسائد السلم مع الوهم المزعوم دون أن يدركوا أن وسائد السلم غير العادل محشوة أبدا بالقنابل والمتفجرات التي لا بد من أن تفجرها الشعوب، وبكل من يحاول أن يغفو فوقها…
اكتبي يا بنتي عن الخدر عن جوهر القضية العادلة الذي بات تتردد أصداؤه في كل عالمنا العربي وا… وا…،
وقبل أن ينهي الجملة… مر صاروخا يمشط المنطقة فوق رؤوسنا مباشرة، ارتمينا بسرعة البرق أرضا وأيدينا فوق رؤوسنا وما وصلنا الأرض حتى أطبق دوي انفجار الصاروخ على السيارة ، وما أن هدأ الدوي حتى ثار دخان كثيف ونارا مشتعلة وأغصان الأشجار في الشوارع حملت بثمار الحرب والأشلاء البشرية الدامية الممزقة المعمدة بقربان الدم تترامى من حولنا يمنى ويسرى .
ثم سكون لف الكون لثواني أخذت آخر نفس لي قبل أن أرفع رأسي قليلا وأنهار الدماء تتدفق برفق بين سحب الدخان وتعانق التراب لحظات مرت حتى عاد الهرج والمرج للمكان تحسست جسدي وإذا بي ما زلت حية رفعت ما بقي من جسدي وأنا أجول ببصري عن أبو محمود وإذا ببركة دماء تحيطه ناديت أبو محمود وعاودت القرفصاء ومددت يدي المرتجفة إلى جانب عنقه وإذا بآخر نفس يشخره ويستكين الجسد للأبد… صرخت ساعدوني ساعدوني…
– أبو محمود استيقظ لم تكمل لي الحكاية…
– استيقظ أعدك أن أكتب كل شيء عن العدالة الشعرية التي علينا دفعها وعن العدالة المطلقة سأكتب عن كل المرار الذي ذقناه والذي لم تذقه الإنسانية على مر التاريخ…
فقط قم قم لتكمل الحكاية معي…
وقبل أن أكمل الجملة التفت إلى نافورة الدماء المتدفقة الحارة في خاصرتي نزيف الدم يتآمر على وعي وأنا أترنح لأسقط أرضا…
لأستيقظ على حلم الواقع يرتجف وصوت هادئ بدا لي كأنه بعيد يقول لي : الحمد لله على سلامتك نجوت بأعجوبة…!!!
دققت كصنم أصم وأبكم وأنا أهذي أريد الهروب من هنا، أياما مريرة وطويلة مرت رغم محاولة عناق المادة والرأسمالية وانغماس الجسد في معمدان الملذات ما زالت تلك الأحداث تتربع في معابر الذاكرة وأنا احملها معي كفجر يشرق في ملحمة الدم وأنا أشيخ ببحر وصقيع الغربة لدرجة كبرت في عام مئة عام وأحرقني صقيعها وجرفني نهر الأحزان حتى أدركت الرسالة التي تشدني إلى المكسورين أمثالي الجائعين لرغيف الحنان.
أحمل ذاكرتي السجينة بالخيبات، كرصاصة محكمة التصويب إلى جبهتي، لا أنكر أني حاقدة على كل من أكل السكر على كتفي وطعن ظهري بخناجر الخيبات وهو يتحد مع عدوى ويدعي إنه صديقي، ما زلت أمسك بأطراف أصابع قرصتني في قلبي ورمت بقنابلها اليدوية الصنع بداخلي.
بعد الحادث حملت حقيبة سفري المسفوحة والمقتولة والمذبوحة على مر التاريخ ومضيت مسافرة…
حتى وصلنا إلى الحاجز الأمني عند الحدود ، جاء رجل الحدود أوقفني متجهما وهو يرسل نظراته إلي وهي تقدح شررا ويتوجه بنظراته إلي كأنه ينظر إلى قنبلة موقوتة مزروعة في حقيبتي وأنا أتتبع نظراته بادرني بالقول: ما الذي تخفينه في حقيبتك؟!!
عاجلته بالجواب: احمل يا سيدي كل الوصايا الجاهزة لطبخ وجبة من الاستقرار راكضة في الغربة باحثة عن حقيقته وحقيقتي بلا ضحكات خجولة، هنا ستجد يا سيدي كتاب أحلامي من زمن الحب الآخر حين يصبح جسد الحبيب حقيبة سفر ويختم على القلب بعده بالشمع الأحمر ، حين لملمت من على الطاولات المستديرة خريطة وطني المستباح ، المحتل من الذاكرة الماضية إلى ذاكرته الحاضرة وإذا بحثت في جيب حقيبتي ستجد سابحة ماهرة تسبح عكس التيار في حب لا منسي يتوارثه قلبي المجنون مسرورا كأنه قطار سريع في مدن نائية وباردة ، وهنا يا سيدي بين طياتها ستجد ترانيم حبلى بالوجع فوق خشب الترانزيت في المطارات واللحظات اللامنسية ، أما هنا تحت كوفيتي ستبلل أطراف أصابعك فيض دموعي والكثير الكثير من الآهات المرتعشة على شفة السؤال وملايين الأزهار الذابلة ، وملايين من الأحياء الأموات بصور شاهدة قبورهم ، في جيب قلب الحقيبة الصغيرة ستجد المفتاح الذي لم يصدأ في حقول الثلج رغم الزمان الذي بات يطوي الزمان ورغم أربطة الشاش البيضاء التي تلف جرحي ، في هذه الثنايا حملت قلب طفلي الرضيع وأنا أدفنه تحت شجرة الزيتون قبل أن رحلت ماضية (مرشوقة) بالسهام السامة برأسي وظهري وقلبي ملايين المرات والمرات…!!!
حدق بي الموظف وهو يرمقني بنظرة ازدراء ولمسة مصفرة يمتقع وجهه وهو يحدق في سمرة وجهي التي تشي بنسبي وهو يغلق الحقيبة ليقول لي:
أيتها الضائعة ما بين الحماس والشهية إلى المعرفة، أيتها الضالة المشردة وأنت تسقطين في فخ الغربة كباحثة تقبع تحت فجر رمادي، وأنت تجلدين السجينة التي فيك في أرض البرد كسجين “كافكا” المحكومة بلا جرم ارتكبته كأنك فأرة صغيرة تطبق أسنان الفخ على عنقها كيف تركت بيتك ورحم أمك وتبعت الذئب…؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى