الشرطة الإسرائلية: “الشاباك” مسؤول، والعربي مشكلة أمنية والجريمة أداة لسيطرة الدولة!

نهاد أبو غوش | فلسطين

وأخيرا اعترف مسؤول في الشرطة الإسرائيلية بـ”السر” الذي يعرفه ملايين الناس: أقر بأن المسؤولين عن الجرائم الخطيرة في المجتمع العربي في الداخل هم في معظمهم متعاونون مع جهاز المخابرات “الشاباك”، ليخلص إلى أن وضعا كهذا يُكبّل أيدي الشرطة ويمنعها من المس بهؤلاء المتعاونين الذين يتمتعون بالحصانة…جاء هذا الاعتراف بحسب تقرير بثته القناة 12 الإسرائيلية مساء الأربعاء 30/6/2021، خلال اجتماع عقد في المقر الرئيس للشرطة، تحضيرا لاجتماع عقد لاحقا بين المفتش العام للشرطة يعقوب شبتاي ووزير الأمن الداخلي عومر بار- ليف.

جاءت هذه الاجتماعات في سياق تقييم الأحداث ومحاولات الخروج باستخلاصات من نتائج المواجهات العنيفة التي وقعت بين الفلسطينيين العرب وجماعات إسرائيلية يهودية متطرفة في عدد من المدن والبلدات العربية والمختلطة وبشكل خاص في مدن اللد ويافا وعكا، ارتباطا بالمواجهات التي عمّت الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ أواسط نيسان وخاصة في القدس والمسجد الأقصى، وتزامنت مع الحرب الإسرائيلية الرابعة على قطاع غزة في شهر أيار.

وشهدت الفترة مواجهات عنيفة، وإضرام الحرائق وإغلاق الطرق، ما دفع الجماعات اليمينية المتشددة للاستنفار، وجلب المئات من عناصرها من مستوطنات الضفة للمساهمة في المواجهات. تبعت ذلك حملات اعتقال واسعة، بالإضافة إلى حملات التحريض على القيادات العربية. وأشعلت هذه الأحداث أضواء الإنذار لدى الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية، التي بات بعضها يقرّ بفشل مشاريع دمج العرب وأسرلتهم وفصلهم عن بقية أبناء الشعب الفلسطيني. وأبدت الأوساط الأمنية قلقها من الخطر الذي يمثله العرب في إسرائيل، ووجود كميات كبيرة جدا من السلاح في أيديهم.

ومع أن السر لا يعود سرا إذا تجاوز اثنين، لكن في حالتنا هذه السر معروف للجميع، ومنشور في مختلف وسائل الإعلام، وشكّل مادة للدعاية الانتخابية، وورد مرارا في الوثائق الرسمية ومداولات الحكومة، وفي شكاوى واستئنافات للمحاكم والقضاء، لكن البوح به من قبل دولة إسرائيل جاء على شكل تسريبات غير رسمية، وكأنّ هدفها فقط هو إفهام الوزير العمالي بار- ليف أمرا التبس عليه، وليس وضع اليد على جوهر المشكلة، لأن مقاربة كهذه تستدعي حلولا وإجراءات، الأمر الذي يبدو أنه ما زال بعيدا عن تفكير مؤسسات الحكم في إسرائيل.

وقد سارع جهاز الشاباك لنفي الاتهامات التي أطلقها ضابط الشرطة، ووصف متحدث باسم الجهاز الادعاء بالكاذب، وليس له صلة له بالبيانات الواقعية للوائح الاتهام الأخيرة. ونقلت القناة 12 عن رد الجهاز أن “نشاط الشاباك في الأشهر الأخيرة أدى إلى اعتقال مئات المشتبه لارتكابهم جرائم إرهابية خطيرة بدوافع قومية”.

العرب مشكلة أمنية

لا ترتبط الاتهامات ونفيها بصراع بين أجهزة متنافسة تخضع لسلطة نفس الحكومة، لأن بحثا في الموضوع يوضح أن جهاز الشرطة يتابع مختلف القضايا المتصلة بإنفاذ القانون وعالم الجريمة في الوسط اليهودي، بينما جهاز “الشاباك” الذي يفترض به أن يركز اهتمامه على القضايا التي تمثل خطرا أمنيا ذا خلفية قومية، هو الذي يتولى متابعة شؤون المجتمع العربي، وهذا ما يؤكده النائب السابق عزمي بشارة في كتاب “من يهودية الدولة إلى شارون” والذي تقتبس عنه سهى عراف في سلسلة تقارير نشرها موقع “سيحا مكوميت” ونشرتها كذلك مجلة “قضايا إسرائيلية” الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) “أن العلاقــة الأساســية التــي تربــط الفلســطيني بالدولــة هــي علاقــة أمنيــة بحتــة، بحيــث يكــون الانشــغال الإسرائيلي بالعربـي داخـل إسرائيل وخارجهـا، انشـغالا أمنيـا تحكمـه عقيـدة أمنيـة تـرى في العربـي خطـرا دائمـا وتهديـدا محدقــا بالدولــة ووجودهــا”.

وسبق لمركز “عدالة” أن قدم التماسا للمحكمة العليا في شهر أيلول 2004 لإصدار أمر احترازي يمنع فيه جهاز “الشاباك” من التدخل في تعيين المعلمين والمديرين والمفتشين في جهاز التعليم في المجتمع العربي، وجاء رد الدولة في ذلك الوقت بأنها سوف تتوقف عن ذلك، وأوصت اللجنة المختصة التي شكلت لدراسة الأمر بعدم وجود دور مماثل في المستقبل. لكن الأمر ظل مبهما ومرتبطا بتحقيق ما أسمته اللجنة “أهداف الدولة” إذ أشارت إلى أن إدارة التعليم الإقليمية ووزارة التربية والتعليم مسؤولتان عن منع التعيينات أو فصل المعلمين ومديري المدارس والمسؤولين الذين “لا يحققون أهداف تعليم الدولة”.

قطعة سلاح لكل مواطن

بدوره أقر رئيس الحكومة الجديد نفتالي بينيت بأن آفة العنف في المجتمع العربي “تم إهمالها لسنوات عديدة”. وقال خلال إعلانه عن خطة وطنية لمكافحة الجريمة في المجتمع العربي وفي تصريحات نقلها موقع “تايمز أوف إسرائيل” في 27 حزيران الماضي: تحدثت هذا الصباح مع وزير الأمن العام واتفقنا على صياغة خطة وطنية لمحاربة الجريمة في المجتمع العربي بأسرع وقت ممكن. وكان بينيت يُعلّق على واقعة مقتل خمسة مواطنين عرب خلال أربعة أيام من بينهم رجل وزوجته وابنته قتلوا معا لدى إطلاق النار عليهم في الجليل.

وقد تصاعدت معدلات الجريمة في داخل المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل بشكل لافت ومقلق خلال العقدين الأخيرين، ما جعل من موضوع الجريمة والارتفاع الهائل لحالات القتل أمرا يتصدر اهتمامات السياسيين والعاملين في مختلف الميادين الإنسانية كالتربية والتعليم والشؤون الاجتماعية، فضلا عما تثيره الظاهرة من مخاوف وقلق العائلات على مستقبل أبنائها.

يرصد تقرير نشره موقع الجزيرة على الإنترنت مطلع هذا العام، من إعداد الصحافي محمد وتد، سقوط اكثر من 1700 قتيل منذ عام 2000 وحتى نهاية العام 2020، ومعدل جرائم القتل في الوسط العربي آخذ في الازدياد حيث سجل في العام الماضي بحسب التقرير عينه مقتل أكثر من مئة شخص. وبحسب المصدر يقدر عدد قطع السلاح المنتشرة في أوساط العرب بنصف مليون قطعة، ورقم قريب (400 ألف) حسب تقارير عراف التي خلصت إلى أن عصابات الإجرام انشأت “دولة داخل الدولة”، وفي الحالتين يقترب معدل انتشار السلاح من وجود قطعة واحدة لكل مواطن عربي بالغ.

وظل موضوع الجريمة في المجتمع العربي شاغلا للقوى والهيئات والتيارات السياسية جميعا، حتى أنه كان مادة للدعاية الانتخابية خلال جولات الانتخابات الاربع الأخيرة بشكل خاص، كما كان مادة للتنافر والاختلاف بين القائمة العربية الموحدة التي انشقت عن القائمة المشتركة، ويقول رئيس القائمة العربية منصور عباس في عرضه لواحد من أسباب الخلاف “نحن على استعداد لأن نتعامل مع رئيس الحكومة المنتخب بصفته الرسمية، ونعمل على تحصيل مطالب مجتمعنا بما فيها القضاء على الجريمة”. ويأخذ عباس على الأحزاب العربية الأخرى أنها “بقيت طوال الوقت في المعارضة، ولم تتعامل مع الحكومات، لذا لم تحقق شيئا”.

أما يوسف جبارين النائب السابق عن القائمة المشتركة فيقول جازما “قضايا العرب ليست على سلم أولويات الحكومة والشرطة الإسرائيلية، لديهم القدرة والمعرفة والأدوات للقضاء على الجريمة مثلما فعلوا في المجتمع اليهودي، لكنهم لا يعملون كفاية”. ويضيف “إذا تعرض يهودي لهجوم من عربي، تستغرق المسألة ساعات فقط قبل العثور على المهاجم، بينما حصلت 520 عملية إطلاق نار في أم الفحم في الأعوام 2016 و2017 و2018، ولم تقدم الشرطة سوى ست لوائح اتهام. أما حوادث إطلاق النار الأخرى فمرّت دون عقوبة”.

وجد بنيامين نتنياهو -الذي ركز جهوده خلال الأيام الأخيرة من حملته الانتخابية على محاولة انتزاع مقعد أو مقعدين من الوسط العربي للوصول إلى المقعد 61 – هو الآخر في الحديث عن مكافحة الجريمة مادة دعائية مناسبة فقام بعدة زيارات لبلدات عربية، ووعد الجمهور العربي بالقضاء على الجريمة مثلما تم القضاء عليها في الوسط اليهودي.

وتشير تقارير عرّاف إلى حقيقة غريبة وهي ارتفاع معدلات الإجرام في البلدات العربية التي أقيمت فيها محطات للشرطة، ولا تلبث الغرابة أن تتبدد حين يتبين أن الشرطة تبدي عجزا مطبقا ولا مبالاة، وإهمالا تجاه ما تسميه المصادر الرسمية ظاهرة أن “العرب يقتلون بعضهم بعضا” بل وتبدي الشرطة “قربا حميميا” إلى عائلات مصنفة بوصفها عائلات إجرام.

في مقالته عن الظاهرة في 7 حزيران الماضي وموقف الأوساط الرسمية بمن فيها مراقب الدولة، يصل هشام نفاع إلى خلاصة بأن دولة إسرائيل تعيد عمليا إنتاج الظاهرة وتكريسها من خلال التركيز على توصية رئيسة وهي افتتاح المزيد من محطات الشرطة في المجتمع العربي، وقد اختارت المؤسسة الحاكمة مواصلة العمل بنفس العقلية والمنطق الأمنيين فقررت استحداث وحدة “مستعربين” للعمل في المجتمع العربي وهو ما أثار رفضا واسعا من مختلف الهيئات والأطر العربية، وقد توجه مركز “عدالة” برسالة إلى المستشار القانوني للحكومة والمفتش العام للشرطة ووزير الأمن الداخلي، طالبهم من خلالها بالعدول عن إقامة وحدة “مستعربين” في البلدات العربية، لما فيها من خطورة على المواطنين العرب واستمرار نهج العداء ضدهم، موضحا أن “هذا القرار غير قانوني”.

وسبق للحكومة الإسرائيلية برئاسة أريئيل شارون أن نجحت العام 2005 في القضاء على بؤر الجريمة في المجتمع اليهودي، وأمكن ذلك من خلال زيادة الموازنات واتخاذ رزمة من الإجراءات الشرطية والاجتماعية والقانونية، ويبدو أن مراكز هذه العصابات المنظمة انتقل ببساطة من المراكز اليهودية للمراكز والبلدات العربية.

ويدحض تقرير عرّاف الادعاء الإسرائيلي الشائع بأن الجرائم وعمليات القتل هي ظواهر مألوفة وملازمة لثقافة المجتمع العربي، وتشير إلى وقوع 72 جريمة لدى الفلسطينيين في الداخل في العام 2017، و81 جريمة في العام 2018، و92 جريمة في العام 2019، مقابل وقوع 28 جريمة لدى عدد مماثل من السكان في الضفة الغربية، كما أن معدل الجرائم في المجتمع العربي أعلى بما لا يقاس بمجتمعات عربية قريبة مثل الأردن ولبنان.

شبكات اقتصادية للجريمة

يكشف التقرير حقائق مرعبة عن تغلغل عصابات الإجرام المنظم في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، حيث توجد لهذه العصابات، على غرار المافيا، شبكات واسعة من المصالح الاقتصادية القانونية مثل المطاعم ومحلات السوبرماركت وقاعات الأفراح، كما أنها تبذل جهودا مميزة للتدخل والتأثير في الانتخابات المحلية، وتوفر السلاح لمجموعات متنافسة في الانتخابات، ويظهر التقرير تعرض 15 رئيسا من رؤساء السلطات المحلية لعمليات إطلاق نار من أصل إجمالي رؤساء السلطات المحلية البالغ عددها 75 سلطة محلية.

وقد شهدت مدينة أم الفحم ثاني أكبر المدن العربية في الداخل في مطلع العام الحالي، محاولة لاغتيال رئيس بلديتها السابق الدكتور سليمان اغبارية الذي أصيب بجروح خطيرة جراء استهداف المركبة التي كان يستقلها بإطلاق نار، ولم يتردد نجله أنس اغبارية في اتهام “الشرطة والمخابرات الإسرائيلية” باستهداف والده لتصفيته لافتا في تصريحات للجزيرة إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي “شجعت الفتنة والاقتتال الداخلي واستباحة الدم العربي الفلسطيني بأيدي أبناء الشعب الواحد عبر آليات وأدوات إسرائيلية ضمن مشروع لتفكيك المجتمع الفلسطيني بالداخل”.

وورد الاتهام عينه في بيان لجنة المتابعة وهي أعلى هيئة تمثيلية مشتركة للعرب في الداخل إذ جاء في بيانها تعقيبا على محاولة اغتيال إغبارية بعد إدانتها لاستمرار انفلات الجريمة: “تؤكد اللجنة استمرار الشرطة، وبأوامر عليا، في التواطؤ مع الجريمة، والاعتداء على المتظاهرين الذين يحتجون على استمرار واستفحال الجريمة”. ولم توفّر لجنة المتابعة في بيانها اتهام الحكومة الإسرائيلية بالمسؤولية عن هذه الحال فقالت “لا بديل عن تصعيد الكفاح ضد الجريمة والمتواطئين معها، وضد انتشار السلاح، تحت بصر أجهزة تطبيق القانون ومعرفتها، إلى جانب توحيد الجهود الشعبية وصبها في مواجهة عصابات الإجرام وتجار السلاح ورعاتهم في شرطة وحكومة إسرائيل”.

الجريمة كأداة للسيطرة

كانت نسبة ارتكاب الجرائم في المجتمع العربي دائما أعلى منها لدى المجتمع اليهودي في إسرائيل، لكن اللافت أن هذه النسبة ارتفعت بشكل متسارع خلال العقد الأخير، من نحو الضعف إلى ثلاثة أضعاف ثم ما يزيد عن أربعة اضعاف النسبة بدءا من العام 2016 وحتى أيامنا هذه. وقد وردت إشارات متعددة وواضحة في تقرير مراقب الدولة يوسف شابيرا للعام 2016 عن تفاقم الجريمة في المجتمع العربي.

دفع ارتفاع معدلات الجريمة بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة السابق إلى تشكيل لجنة متخصصة في تشرين الأول 2019 برئاسة نائب مدير عام مكتبه وعضوية عدد من المدراء العامين في الوزارات والإدارات الحكومية المتخصصة لبحث قضية تفاقم الجريمة، ومع أن اللجنة درست الظاهرة وحللتها بناء على معايير موضوعية مثل نسب الفقر والبطالة، والازدحام السكاني، والتسرب من المدارس، إلا أن التقرير الرسمي الصادر عن اللجنة يتبنى عمليا ما يردده المسؤولون الإسرائيليون من أن ظاهرة العنف والجريمة هي ظاهرة مرتبطة بالثقافة العربية، ويقول في مقدمة التقرير على لسان رونين بيرتس، رئيس اللجنة: “هناك من يعزو أسباب الجريمة والعنف إلى العادات الثقافية للمجتمع العربي وإلى أعراف سلوكية متعددة السنوات، راسخة متمثلة في تفضيل السلوك بعيداً عن القانون”.

الاحتجاجات على استمرار الجريمة وتفشيها تطورت إلى تظاهرة سياسية شاملة كما جرى في الفعاليات العاصفة والمتواصلة التي شهدتها مدينة أم الفحم وشارك فيها عشرات الآلاف من فلسطينيي الداخل، وربطت هذه الاحتجاجات بين انتشار الجريمة ومظاهر التمييز الشاملة التي يتعرض لها العرب في إسرائيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى