“الذي أطعمهم من جوع”.. شواهد تربوية في مقام الاحتجاج الإلهي (5)
إبراهيم محمد الهمداني | اليمن
مما لا شك فيه أن الله تعالى عندما استخلف الإنسان، لم يتركه لتدبير نفسه، بل قدم له الرعاية الشاملة، ووفر له الأسباب والوسائل المساعدة، ومكَّنه فيما سخر له، ليستفيد من جميع تلك المسخرات تمام الاستفادة، وبمختلف الطرق والوسائل والأشكال والصور، ابتداء من العمل على توفير ضروريات متطلبات حياته، وصولا إلى تحقيق الرفاهية ورغد العيش، والتقدم والتطور الحضاري، وفقا لمحددات المنهج الإلهي، الذي يربط الإنسان بخالقه، ويرشده إلى أقوم السبل، ويضمن له سعادة الدارين، ونجاح مهمة الاستخلاف على الوجه الذي يريده الله تعالى.
غير أن اتصال الإنسان بمكونات عالمه المادي، على نحو واسع، حجب عنه سبل الاتصال الروحي، بإلهه وخالقه ومالك أمره ومدبر شئونه، وأغرته الوفرة الاقتصادية ورغد العيش، وملذات الحياة ومتاعها، بالانفصال عن مستخلفه الله جل وعلا، ليصل به الأمر من الطغيان، إلى ادعاء أو ممارسة التسلط والربوبية، صراحة أو ضمنا، متناسيا أن ما هو عليه من الرفاهية والحياة الرغيدة والسعة في الرزق، إنما هو بفضل الله وحوله وقوته، وليس للإنسان أي فضل أو حول أو قوة في ذلك النعيم المتحصل، وبذلك يصبح الإنسان كافرا بأنعم ربه، مستحقا لغضبه وعقابه، “وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ”، ومقابل جحود نعمتي الرزق الرغد والأمان والاطمئنان، حل لباس الجوع ولباس الخوف، جزاء وفاقا.
في الجانب الآخر، نجد الله تعالى يمتدح الشاكرين من عباده، ويعيد بهم ويعلي مقامهم، ويجعل الشكر سببا لدوام النعم، وشكر أنعم الله يكون بأداء حقها في عباده، وطالما ارتبطت نعمة سعة العيش، بنعمة تحقيق الأمن ودفع المخاطر والأضرار، بهدف تمكين الإنسان من الاستخلاف، وعبادة الله تعالى وأداء حق نعمه وشكر أفضاله، وفي سورة قريش يتجلى “الإطعام”، كصفة إلهية محمودة، ابتدأ بها الله – الذي يُطعِم ولا يُطعَم – خلقه جميعا، ثم جعلها صفة لازمة في أنبيائه وأوليائه خاصة، وكافة عبادة عامة، وفي تفسير سورة قريش، عند السيد المولى العلامة، بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه، قوله:- “﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ﴾ كان قريش آلفين مألوفين، يألفهم الناس ويألفون الناس، في حال أن الخوف كان شائعاً في بلاد العرب، والتآلف ضد التنافر والتقاطع، وذلك لأجل بيت الله الكعبة الحرام، فكان الناس يسافرون للتجارة إلى مكة فيأمنون في مكة، وكان قريش يسافرون آمنين، لحرمة البيت الذي هم جيرانه، ولحاجة الناس إلى بلاد قريش، الَّتِي يلتقي فيها أهل البلدان المتباعدة، وأصل ذلك كله نعمة الله بهذا البيت، الذي جعله للناس مثابة وأمناً.
(2) ﴿إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ لإيلافهم في رحلة ﴿الشِّتَاءِ﴾ إلى الحبشة ﴿وَ﴾ رحلة ﴿الصَّيْفِ﴾ إلى الشام لا يعاديهم أحد ولا ينفر منهم.
(3) ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾ الذي هو الكعبة، وربها الله الذي جعلها نعمة لقريش، وقريش قبيلة من ذرية إسماعيل بن إبراهيم (عليهم السلام)، وفيهم من الحديث الشريف عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم» أخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي، وغيرهم. وقال ابن تيمية: «هو حديث ثابت» وفسره في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) والاصطفاء: يدل على نعمة يجب شكرها، وعبادة رب هذا البيت: إخلاص العبادة له ورفض شركائهم.
(4) ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾: ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ﴾ أطعمهم وغيرهم من العرب جائعون ﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ آمنهم وغيرهم خائفون، كأنه ضمن ﴿أَطْعَمَهُمْ﴾. ﴿وَآمَنَهُمْ﴾ نجاهم، وذلك الإطعام بسبب دعوة أبيهم إبراهيم صلى الله عليه: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ..﴾ إلى قوله: ﴿..وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم:37] وفي (سورة البقرة): ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ..﴾ الآية [126]”.
ونستخلص مما سبق، أن قريش كانت تحظى بمكانة كبيرة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودينيا، في أوساط القبائل العربية، وكان أساس ذلك التكريم والإجلال ديني، سواء من حيث التموضع المكاني، جوار الكعبة البيت الحرام، أو من حيث الرعاية الإلهية الخاصة، وهو ما يوضحه السيد القائد يحفظه الله بقوله:- “في مكة كان هناك الكعبة (البيت الحرام المقدس) والحج إليه، استمر الحج في أوساط العرب آنذاك، وكانت قريش في مكة تحظى بمكانة اجتماعية كبيرة في الوسط العربي؛ بطبيعة مسؤوليتهم في إدارة شؤون الحج والكعبة، وبطبيعة أنهم لا يزالوا هم الصفوة من ذرية إبراهيم وإسماعيل “عليهما السلام”، من نسل إسماعيل بن إبراهيم، فكان لهم حضورهم في الوسط العربي، واحترامهم في الوسط العربي، ولا ينالهم أي استهداف من جانب القبائل العربية الأخرى التي تعرف أنها ستحج، وهي تريد أن تحج ولا يكون لها مشكلة مع قريش”.
وإلى جانب المكانة الاجتماعية الرفيعة، وما نتج عنها من حصول الأمن والسلام، حظيت قريش أيضا بمكانة اقتصادية كبيرة، جلبت لها الرخاء والرفاهية وسعة العيش، في حين كان غيرهم من القبائل يموتون جوعا، يقول السيد القائد يحفظه الله:- “قريش – أيضًا – كان لهم رحلات تجارية، ونشاط تجاري إلى اليمن، وإلى الحبشة في الصيف، ولهم – أيضًا – إلى الشام {رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ}[قريش: من الآية2]، يعني: رحلةٌ منها إلى الشام، ورحلةٌ منها إلى اليمن أو إلى الحبشة، كانت واحدةٌ منها في الصيف والأخرى في الشتاء، رحلات تجارية تعود لهم بوفرة اقتصادية وثروة اقتصادية ضخمة، والإقبال إليهم من الحجيج يساعد عل هذه الثروة، وتنامي هذه الثروة، ولهذا قال الله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش: 1-3]، يعني: البيت الحرام في مكة {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}[قريش: الآية4]، فحظوا بنعمة الأمن والاستقرار، وحظوا- أيضًا- بنعمة الوفرة الاقتصادية والغناء والثروة، ولكن لم يشكروا الله على هذه الثروة وهذه النعمة، وكانوا هم – أيضًا – ضائعين كحال غيرهم في حالة الشرك، حالة الكفر، المفاسد الأخلاقية… إلى غير ذلك”.
ربما كان ذلك الإلف لنعمتي الشبع والأمن، الذي عاشته قريش جيلا بعد جيل، قد أفقدها متعة الشعور بهما، والإحساس بضرورة الحفاظ عليهما، من خلال أداء شكرهما، بل عمدت قريش إلى استغلال تلك النعم العظيمة، في سبيل الكفر بالله، والشرك به وإضلال عباده، خلافا لما أراد الله أن تكون عليه مكة، كما يقول السيد القائد يحفظه الله:- “أن يكون فيها الخير ورغد العيش وسعة المعيشة، حتى يساعد ذلك على استقرار هناك لصالح الحجاج، الذين يؤمون البيت الحرام، وعمارة هذا البيت الحرام، بالطاعة والعبادة والذكر لله سبحانه وتعالى، في أجواء آمنة ومستقرة، على المستوى الأمني والمستوى الاقتصادي والمعيشي.
إن الله تعالى قد أحسن إلى مجتمع قريش، فأكرمهم بالشبع وصان ماء وجوههم، من ابتذال السؤال وذل الحاجة، ثم حفظ أرواحهم وأموالهم، بمطلق الأمن والأمان، وبمقدار ما وفر لهم من سبل إبعاد شبح الجوع والمجاعة عنهم، فقد هيأ لهم من أسباب الأمن ما يجعلهم قوة مرهوبة الجانب، وكل ذلك كان من الله تعالى، ببركة هذا البيت الحرام، وما يحمل من دلالات الإيمان بالله، وإشارته إلى أوليائه الحقيقيين، وفي هذا فوائد تربوية أخلاقية وإيمانية كبيرة، يجب التحلي بها، في سياق القيم الاعتقادية والممارسات السلوكية، على السواء، وفي مقدمتها ضرورة ربط القلوب بالإحسان الكبير العظيم، الذي غمر الله تعالى به كل تفاصيل حياتنا، واستشعار عظمة نعمه وفضله وكرمه، والتذكر الدائم بأنه صاحب الفضل والمنة، في كل نعمة نصيبها وخير نتقلب فيه، وأن نؤدي حق نعم الله علينا، بما يليق بها من الشكر الفعلي في عباده، وتحقيق استخلافه الذي يرضيه عنا.
ونحن نعيش أجواء هذا الشهر المبارك، شهر الخير والإحسان، والبر والإطعام، يجب علينا تعظيم شعيرة الصيام، وتحقيق مقتضاها من التقوى، الذي أراده الله منا، وأن نسارع في أعمال الخير والبر والإحسان، وأن نشكر نعم الله في عباده، بجلب المنافع لهم، وصيانة قيمتهم الإنسانية، وأن نكون من الذين “يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ”، وأن نستشعر ضعفنا وحاجتنا وفقرنا الدائم إلى عطف الله ورحمته وفضله وكرمه، وأن نتذلل ونحن نشارك في إطعام أخواننا الفقراء والمحتاجين، لأن المطعِم والرازق والمعطي، هو الله الكريم العظيم القادر المدبر، والمال مال الله، والملك له وحده، وما نحن إلا أدوات، يجب علينا شكر فضله، فيما انتدبنا وأوكل إلينا، من أداء حق عباده، وصون أعراضهم وكرامتهم، ولا نجعل فعل الخير بابا للظهور، وطريقا للشهرة والرياء، وأن نبذل ما في وسعنا، من أجل تعزيز التكافل والتراحم والتعاون.