يمين صهيوني فاشٍ في الحُكم، هل نُضيّع هذه الفُرصة؟
محمد عقل هلسة | فلسطين
منسوب القلق الذي يعتري الكُتاب والمختصين ومراكز الأبحاث الإسرائيلية من إمكانية استغلال “أعداء إسرائيل” ما يجري فيها لمصلحة المقاومة ومحورها، يدفع إلى التساؤل عن طبيعة هذا “الاستغلال” وملامحه.
منذ أن وصلت حكومة نتنياهو اليمينية الحالية إلى الحكم في “إسرائيل” ونحن نرصد آثارها السلبية في الجوانب الاقتصادية والسياسية والقانونية داخل المجتمع الإسرائيلي وخارجه، بل ونتابع كذلك انعكاس تشريعاتها وما صاحبها من اضطرابات، على الحالة الداخلية في “إسرائيل” وعلى صورتها في الخارج. لكن، هل حاولنا أن نتساءل كيف لنا أن نُوظف هذه الحالة الإسرائيلية المتشظية لخدمة نضالنا التحرري كشعب يقارع سلطة استعمار إحلالي في مختلف الساحات وعلى مختلف الصُعد والجبهات.
لقد كشف هذا الائتلاف الفاشي وسلوكه العنصري، داخلياً وخارجياً، عن الوجه السافر لهذا المجتمع اليميني المتطرف في غالبيته، والذي ظل يلتبس على البعض، وربما ما زال، فيَغرَق ويُغرِق معه العرب في السعي خلف سراب تقبّل “إسرائيل” وإمكانية التعايش معها.
يدفعنا منسوب القلق الذي يعتري الكُتاب والمختصين ومراكز الأبحاث الإسرائيلية من إمكانية استغلال “أعداء إسرائيل” ما يجري فيها لمصلحة المقاومة ومحورها، إلى التساؤل عن طبيعة هذا “الاستغلال” وملامحه، وهل يمكن للعرب الانتقال من حالة “التفرّج” إلى حالة “التأثير الفاعل” فيما يجري في “إسرائيل” لمصلحة بناء استراتيجية عربية، وسلوك عربي يساهم في تسريع تأكّل “إسرائيل” ومعاقبتها وعزلها على مختلف الصُعد والجبهات.
ركزت “إسرائيل” على تأجيج نار الفتن والفوضى الداخلية في العالم العربي، ولعبت على وتر التناقضات الطائفية والحزبية وغذّتها واستفادت منها، فلماذا لا تُعامَلُ بالمثل في ظروفٍ هي الأمثل لتفعيل “السلاح” الذي طالما استخدمته ضد العرب، بدءاً من تأجيج التخريب والتحريض وانتهاءً بافتعال صراعاتٍ داخلية ساهمت في استمرار تفتت وتشرذم الحالة الداخلية العربية؟
ولماذا لا يجري تغيير أنماط العمل تجاه “إسرائيل” وهي ترفع من وتيرة خطابها العنصري الاستعلائي ضد العرب، وتكشف عن شهوتها الفاشية المُنفلتة في التوسع والتمدد؟ ولماذا تبقى الساحة الداخلية الإسرائيلية بمعزل عن “التأجيج” تحت ستار “الموضوعية” و”المهنية”، وهي التي لم تَكُفّ يوماً عن إمطارنا بأكاذيبها وتحريضها، ألسنا الأولى بهذه الأدوات ونحن الطرف المُعتدى عليه؟
في العالم العربي بات الكل، تقريباً، يعرف نقاط الضعف التكتيكية والاستراتيجية لـ”إسرائيل”، ويعرفون كذلك أن المجتمع الإسرائيلي ضعيف، فلماذا إذاً لا “نضغط أكثر” ولماذا يمتنع العرب عن التشديد على “الطبيعة المؤقتة للكيان الصهيوني” من خلال توجيه رسائل للقراء الإسرائيليين تُقَدّمُ فيها “دولتهم” على أنها ضعيفة داخلياً وغير متجانسة، برغم قوتها العسكرية والاقتصادية.
ألا يحق للقوى “المعادية لإسرائيل” وهي في حالة حرب معها، أن تُقدّمها لمستوطنيها ومناصريها كـ”دولة” ضعيفة وممزقة وغير متجانسة، وهي كذلك، بسبب تناقضاتها وخلافاتها الداخلية، وأن تؤكد لهم بأنها آخذةٌ في التلاشي. ألم يتسبب هذا التوظيف “الجزئي” للحالة الإسرائيلية الداخلية، من قبل بعض قوى محور المقاومة ووسائل إعلامها، في حالةٍ من الذعر والقلق بين مستوطنيها ما دفع إلى تسارع الهجرة المعاكسة بين قطاعات واسعة منهم؟
ثم، يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن هذا المجتمع هو استيطاني متنافر، روسي، أوكراني، إثيوبي، مغربي، لتواني، غربي، شرقي، ديني، علماني… لم تتبلور هويته النهائية بعد، رغم مرور أكثر من 75 عاماً على نشأته.
ما الذي يمنع من أن تُرصد الموازنات، وأن يُستثمر المال العربي في خلخلة “بيت العنكبوت” وفكفكة خيوطه التي نسجها في غفلتنا، ليس في ساحة المواجهة العسكرية، بل عَبر مُنازلته في ساحة بيته الداخلية، خاصرته الرخوة. هل نَنسى أن “إسرائيل” بذلت أموالاً طائلة في شراء الذمم وتأليب العرب بعضهم على بعض، أم نظُنُ أن الإسرائيلي “معصوم” لا سبيل لتحريضه أو إغوائه.
إن الإسرائيليين أنفسهم يدركون أن القوى المعادية لهم في المنطقة تسعى إلى الاستفادة قدر الإمكان من حالة الاحتراب بينهم، وهذا حقها، لأن توسيع الانقسامات السياسية والمجتمعية في “إسرائيل” سيعيق حتماً مواجهتها للتهديدات الخارجية الكبرى التي تتطلب حالة إجماع داخلها.
وبالتأكيد، فإن الضرر الذي لحق بصورة “إسرائيل” في عيون الساحتين الإقليمية والدولية يُعرّض جهودها لبناء تحالف إقليمي لاحتواء إيران ومحور المقاومة للخطر. فمنذ توليه رئاسة الحكومة الحالية، أبدى نتنياهو تصميمه على مواجهة التهديد الذي تشكله إيران، من بين أمور أخرى، من خلال تعميق علاقات “إسرائيل” مع الدول العربية المجاورة لها.
إن حكومة اليمين المتطرف وسلوك أعضائها الاستفزازي المتعجرف يجعل من الصعب تحقيق هذا الهدف، فلماذا لا يجري العمل على إطاحة أحد إنجازات السياسة الخارجية الإسرائيلية، وهي “اتفاقات أبراهام” التطبيعية وسعيها للتقارب مع السعودية، خاصة بعد المصالحة التاريخية بين السعودية وإيران. هل يُعقل أنَّ تحالفاً يعتمد على دعم عناصر يمينية متطرفة تقول صراحةً إن الشعب الفلسطيني بِدعة مُستحدثة، وأن حدود “إسرائيل” تصل إلى الأردن بما يمسّ بسيادته وكينونته، يمكن أن يكون شريكاً مؤتمناً للعرب.
ورغم أن نتنياهو مع كل تصريحٍ “جنوني مُستفز” لهؤلاء يحاول طمأنة الأميركيين وحلفائه العرب أنه قادرٌ على كبح جماح المتطرفين ومنعهم من إحداث ضرر، فإننا لا نرى إلا شخصية ضعيفة مبتزة تفقد السيطرة لمصلحة اليمين الفاشي.
وإذا كانت الولايات المتحدة نفسها قد ضاقت ذرعاً بسلوك نتنياهو وحكومته، وأعلن رئيسها بايدن أحد أكبر أصدقاء وحلفاء “إسرائيل” صراحةً، أنه لن يستقبل نتنياهو في البيت الأبيض قريباً، فهل أفضل من هذا مؤشر على حجم الضرر الذي يتسبب به هذا اليمين المتطرف لـ”إسرائيل” ولعلاقاتها الخارجية حتى مع حليفتها “الأم” أميركا. الأمر ذاته عبّر عنه مسؤولون من دول خليجية، إذ أعربوا لـ”إسرائيل” عن قلقهم بشأن انتخاب مشرّعين متطرفين يُطلقون صراحةً مواقف معادية للعرب والمسلمين يومياً.
إذا كان الإسرائيليون أنفسهم مقتنعين بأن نتنياهو وحكومته يحبطون كل فرصة للخروج من عُزلتهم التي تضيق حلقتها عليهم يومياً بفعل سلوكهم اليميني الاستعلائي ويزداد نفور المجتمع الدولي منهم، فما الذي يمنع الدول العربية التي اعترفت بـ “إسرائيل” كجزء من “اتفاقات أبراهام” التطبيعية أن تتراجع، وقد أيقنت الآن أن هذا مجتمعٌ عنصري فاش لديه مآرب وأطماع تتجاوز حدود الجغرافيا الفلسطينية.
ومرة أخرى، تتركز أنظار الجميع على تصريحاتٍ صادرةٍ عن أعضاءٍ في برلمان الاحتلال وحكومته لم تَخلُ من الفاشية والدعوة إلى الكراهية على أساسٍ ديني وقومي، وهو ما اعتادت “إسرائيل” على تسميته بـ “معاداة السامية” حينما يتعلق الأمر بانتقادها. فلماذا لا تُحرّك دعاوى قضائية ضد هؤلاء في المحاكم الخارجية والدولية، وليس أقلّها فرض عقوبات على “إسرائيل” ومقاطعتها، إن لم يكن من الأنظمة الرسمية العربية فمن قبل منظمات المجتمع المدني وحملة مقاطعة “إسرائيل” BDS على وجه الخصوص.
ألا تُشكل الدعوة إلى محو بلدة “حوارة” الفلسطينية أساساً متيناً لمقاضاة سموتريتش وأمثاله، أليس من الأولى بنا وهم يُقوّضون نظامهم القضائي الذي طالما استظلوا بزيف “موثوقيته واستقلاليته ومهنيته” للتملص من الملاحقة الجنائية الدولية، أن نلاحقهم وهم يُسقِطون هذه الحجة بأيديهم. هل يُعقل أن تستمر “إسرائيل” في التصرف كـ”دولة” ديمقراطية أو كـ”دولة” قانون، بينما تستعر فيها الفاشية وتنفث سمومها قتلاً وتدميراً.
من جهة أخرى، فإن ما يجري على الساحة الإسرائيلية يوفّر فُرصة جديدة مواتيةً للعرب وللفلسطينيين، على وجه الخصوص، لاستنهاض الجهود والارتقاء إلى مستوى تحدّيات الحدث الجاري، وما قد يتبعه من تداعيات على قضيتنا ومصيرنا. لا بدّ من مواصلة الحث على الوحدة والشراكة والاصطفاف من أجل تشكيل جبهة فلسطينية عربية واسعة للتصدي لهجمة اليمين الفاشي غير المسبوقة على الوجود الفلسطيني، بل والعربي.
يجب مواجهة هذا التحدي متعدد الأوجه بطريقة مسؤولة وخلّاقة مع أقصى قدر من التنسيق مع الأطراف الفاعلة ذات العلاقة في محاولةٍ للاستفادة من الحالة الداخلية “الفاشية المتناحرة” في “إسرائيل”، وهي مهمة ليست معقدة أو مستحيلة، خاصةً حين تحكم “إسرائيل” زُمرة فاشية تقوّض بذاتها استقرار “دولتها” وتهدد وحدتها وكفاءة “جيشها”، وتزيد من تأكل حصانتها القومية.
يدرك جميع اللاعبين في الشرق الأوسط أن نتائج الصدع الداخلي في “إسرائيل” قد لا تظهر بشكل واضح في الأيام القريبة، لكنها بالتأكيد ستتبدى للعيان في غضون أشهرٍ قليلة. إن التقديرات والآمال بأن “إسرائيل” ستواجه صعوبة في إدارة معارك عسكرية في المستقبل آخذة في الازدياد، كما أنها ستفتقد بالتأكيد إلى القوة الاقتصادية والدعم الدولي الذي كانت تتمتع به في الماضي وهي تغرق في يمينيتها وتنزلق إلى صراعات داخلية عنيفة.
وحتى إن افترضنا جدلاً أن موجة الاحتجاجات التي تعصف بـ “إسرائيل” الآن قد انتهت، ولو مؤقتاً، فإن العودة إلى واقع ما قبل الأزمة هو أبعد ما يكون عن التناغم أو الاستقرار. لذلك، لا بد أن ينتقل العرب بسرعة وبعزم إلى بناء محور عربي واعٍ قادرٍ على اتخاذ القرارات التي كان يجب اتخاذها منذ سنوات: “التدخل أينما أتيح” وعدم الاكتفاء بتوصيف الحالة ووصف المشهد بل “التأثير فيهما ما أمكن وحيثما أمكن”، فهذا اليمين الفاشي يُقدّم للعرب فرصةً سانحةً للتصرف بفعالية لاستغلال ما يجري لمصلحة شعبنا وقضيتنا، ومن المؤسف أن نُضيّعها.