أدب

 رحلتنا إلى سلطنة عمان

بقلم: هيثم نافل والي ونهاية اسماعيل بادي

(1)

ألمانيا

بدأت فكرة إبداع هذه الأجزاء التي سنرويها تباعاً نتيجة رسالة تظلم رفعناها بشكل رسمي إلى الديوان السلطاني ولحد اللحظة لم نستلم جواباً أو رداً عنها؛ مما حفزنا ذلك إلى كتابة سيرة رحلتنا وننشرها تباعاً ليعرف الناس أجمعين كل ما يتعلق بالسلطنة من جمالية، وصور أخرى تعكس إهمال المسئول أو جهله بعمله وكيف يسن قوانينه غير المدروسة مما تؤثر كل تلك الخربصات إلى الإساءة لمنظر السلطنة الجميل. 

كان صدر الرسالة كالتالي:

إلى من يهمه الأمر 

رسالة تظلم بقلم القاص الروائي العراقي الألماني هيثم نافل والي 

الغاية من الرسالة:

مصلحة مجتمع عُمان ليعمه الخير والاستقرار والرفاهية والتطور والتقدم، وما غايتنا في نهاية المطاف إلا الإنسان، كونه قبس من الله.  

لو أردنا لشعب سلطنة عمان أكثر عمقاً معرفياً، فلنجعله يقرأ..  

فالقراءة هي أساس التفتح الذهني، والبدء في عملية الازدهار الحياتي، وبالتالي تؤدي إلى رؤية واضحة لمعالم الإنسان من الداخل، وما يقوم به اتجاه كل تعاملاته مع الآخرين والأشياء المحيطة به، مما يجعله ينظر إلى الحياة بشكلها الحقيقي ولونها الطبيعي، وقتها يكون أكثر سعادة وراحة لأنه وقتها عرف نفسه وكل هذا يحدث بفعل القراءة؛ وكما قال الكاتب العالمي ديستوفسكي بهذا الشأن” باستثناء القراءة ما كان لي من مهرب آخر أستطيع اللجوء إليه”.. 

فبعد أن تعافيت لحدود مقبولة من مرض كرونا الذي مازلت أعاني من بعض مخلفاته خاصة السعال وحالات الاختناق المصاحبة للسعال قررت السفر بصحبة زوجتي التي لم أعتد بأن أسافر إلا معها إلى سلطنة عمان ولفترة جعلناها مفتوحة تحسباً لكل طارئ يحدث نتيجة كارثة كرونا المفتعل حسب قناعتنا.. 

لم تكن السلطنة جديدة علينا؛ فقد كنا قد زرناها قبل عام من هذا التوقيت الذي أصف فيه حروف مقالي وربما ذكرياتي الطازجة التي مازلت أعيش لحظاتها هنا في مسقط وأنا أدون حروفي التي أبثها للعالمين أجمع..  

كما قلت، فهذه هي الزيارة الثانية لها، وكان السبب الرئيسي لاختيارنا لها أشياء منطقية واقعية هي التي شجعتنا وجعلتنا نختارها دون سواها؛ من حيث طيبة شعبها، نظامها، نظافتها، وجمال طبيعتها.. وقررت اليوم أن أكتب عنها بجرأة لطالما آمنت بها وكما يقال” الجنون ليس في الكتابة، بل في ترك الكتابة”..    

مواقف غريبة عشناها كادت تكون أقرب إلى الخيال، لكنها كانت مواقف وأحداث رغم بساطتها سامية في معانيها الإنسانية والأخلاقية وكانت تلك المواقف غالبة على ما رأيناه من أمور قد لا نراها في مجتمعات أخرى إلا ما ندر وشذ، تلك التي زرناها أو عرفناها أو التي عشنا فيها.. 

فكلمات مثل الرحمن، وأحسنت، وطيب، وما شاء الله، ورعاك الخالق، وغيرها من الكلمات التي تجعلك تحس بالراحة والطمأنينة عندما تسمعها لا تنزل من لسان العمانيون مطلقاً..  

لكن هذا لم يمنع مع الأسف الشديد بأن يظهر لنا من ينغص علينا متعتنا، يسيء إلينا، ويعاملنا معاملة لا إنسانية دون وجه حق؛ خاصة وأن الأسباب التي وجهت لنا غير منطقية ولا تمت للحياة الحضرية بصلة، بل نجدها مجهولة الأبجدية لم نستطع قراءتها، ولا النظر إليها كونها لا تتصل بعالمنا الحاضر الذي نعيش تحت سقفه، في ظل خيمته، وتحت قبة الرحمن علام الغيوب، سبحانه..

هكذا بدأنا كتابة رسالتنا، ثم سيتطور الأمر بأن نكتب سيرة رحلتنا لنسرد من خلالها كل التفاصيل، حلوها ومرها، جميلها وما شوه جمالها بلغة بسيطة اقرب إلى الفهم، أبعد عن الإبهام وهذا ما تعودنا عليه في كتاباتنا السابقة التي نلنا بها إعجاب الناس لتواضعها في الأسلوب، وحالات التشويق التي لا تفارق بساطها ونسيجها الأدبي.. وإلى لقاء في الجزء الثاني قريباً بإذن الرب.     

(2)

الناس والطبيعة

ليست الحقيقة دائماً هي وراء اكتشافاتنا في الحياة!

ما أن تطأ أقدامك أرض السلطنة حتى تتفاجأ من أمرين أساسيين: طبيعة الناس وطبيعة الخالق!

وقبل أن ندخل بالتفاصيل علينا أن نفرق الناس إلى قسمين، الريف والمدينة. ولكل بيئة في السلطنة لها خصوصيتها وظروفها وحرفتها وتماسكها؛ وناسها يتفاخرون بتقاليدهم وأخلاقهم وأعرافهم كلٍ حسب البيئة التي يعيشون فيها.

فأهل الريف يعتبرون أهل المدينة أقل منهم تماسكاً عائلياً! ينتقدونهم على فقدانهم لتلك الروابط العائلية التي يعتبرونها قوامهم، وأساس حياتهم التي عليها يعتمدون. يسخرون ويتهكمون منهم، يتقولون، على أن أهل المدينة لا يعرفون جيرانهم، ولا يهتمون للقريب قبل البعيد! ومع كل ما تقدم لم نر نحن هذا؛ بل رأيناهم جميعهم على نفس الجودة، ذات الطبيعة، ولهم مواصفات راقية لم نرها من قبل في كل البلدان والمجتمعات التي زرناها في حياتنا!.. ولكم هنا أن تتصورا مقدار الحساسية، والجودة التي يتمتعون بها أهل السلطنة الذين ينتقدون بعضهم لتقصيرهم لغيرهم رغم عدم وجود هذا القصور!

هكذا هم أهل السلطنة، وما أشد عجبنا بأخلاقهم، نخوتهم، طيبتهم، ترحابهم، مساعدتهم، كرمهم ويمكنك أن تقول وتذكر ما شئت من مواصفات وسلوكيات إيجابية أخرى تعرفها في هذا المجال دون أن تكون قد وصلت إلى دواخل نفوسهم الراقية، المتسامحة، المحبة للسلام والآمان..

لنذكر لكم على سبيل المثال لا الحصر ما رأيناه وعشناه ولمسناه دون رتوش، أو طلاء:

سألنا أحدهم في قارعة الطريق عن أقرب مطعم يكون عائلياً، يمكننا أن نتناول فيه وجبة العشاء فيه على أن لا يبتعد كثيراً عن مكان فندقنا..

كان شاباً في منتصف الحلقة الثالثة تقريباً؛ رياضياً، رشيقاً، يرتدي كعامة رجال وشباب وأطفال السلطنة زيهم العُماني الجميل الذي لا يخرجون من بيوتهم إلا بزيهم المحلي الكامل وبدونه يعتبرون ذلك خروج على الأعراف والتقاليد وربما يصل حد الفضيحة! أخذ صفنة قصيرة، ثم أشار لنا بأن نركب معه في سيارته! قلنا إلى أين؟ قال، لا عليكم، ثم ردد ما نسمعه في كل لحظة، الأمور طيبة، هيا، صعدنا سيارته الألمانية” البورش ” وبعد لحظات توقف أمام مطعم، ترجلنا من السيارة، جلس بمحاذاتنا في المطعم يترقبنا، سألناه:

– لماذا تجلس بعيداً، وعلى طاولة بمفردك.. يمكنك أن تشاركنا الطاولة..

– لا أود مضايقتكما!

– دعوناه بلطف بأن يجالسنا ويشاركنا العشاء.. حصل ذلك بسهولة نادرة، تعارفنا، تحدثنا، تسامرنا واسترسلنا في حديثنا عن شتى المواضيع وفي نهاية جلستنا غافلنا خفيه، دفع حسابنا ثم أرجعنا إلى الفندق الذي نقيم فيه، وقبل أن نودعه، مسح على أيدينا من زجاجة عطر كانت مستقرة في سيارته وهو يردد: هذه عادتنا كي نبقي عطرنا مع من نحب بعد مغادرتنا.. ورحل.

وفي إحدى رحلاتنا ألتقينا بالصدفة بشخص طلبنا منه بأن يأخذنا برحلة في الجبل الأخضر المعروف في السلطنة، والذي لا يمكن الصعود إليه إلا بسيارة ذات الدفع الرباعي.. واتفقنا على رقم ندفعه له والرحلة لمدة ثلاث ساعات..

كان شاباً وسيماً، هادئاً، يقول الشعر ومسؤول عن أهله بسبب وفاة والده..

لم يقصر الرجل معنا، أخذنا إلى مناطق أخرى لم نتفق عليها، وعندما حلّ الظهر قال:

– تعالا معي إلى البيت لنتناول الغداء مع الأهل، ولتتعرفوا عليهم!

– استغربنا من طلبه الذي كان أقرب منه إلى الرجاء!.. وافقناه، تعرفنا على أسرته، تناولنا الغداء معهم، ثم شربنا القهوة وأكلنا التمر الذي نغمسه بالطحينة، وهذا عرف عندهم، ثم انتهت بعد ذلك رحلتنا بعد أن تنزهنا معاً في منطقتهم الجميلة جداً التي تتسم بالبساطة التراثية..

في يوم سألنا أحدهم وكنا في سوق عن مكان لتواجد فحم النارجيلة، تلك التي لا ندخنها ولا نقربها، ولا نفهم الكثير عن تفاصيلها.. أردنا شراء الفحم لشخص نعرفه طلب منا ذلك. فما أن سمع العماني طلبنا، حتى قال لنا بالحرف:

– تعالا معي

– إلى أين؟

بابتسامة وادعة وكأنها تعود إلى قديس، ردد:

– إلى سوق آخر، هناك أشتري منه فحم النارجيلة المعروف بجودته..

– لكنك تتسوق الآن، فكيف تترك عربتك وأشيائك؟

– الأمور طيبة، لا عليكم، هيا بنا..

فترك الرجل عربته، وأشيائه وغادرنا السوق إلى مكان آخر، وبعد ثلاث كيلومترات تقريباً أو أربعة، وصلنا إلى سوق آخر، منعنا من الترجل، أقسم بالله، بأن يذهب بمفرده، أشترى الفحم وعاد لنا وهو يموء:

– خذا.. هذا أجود أنواعه.. ورفض بإصرار أن يأخذ حقه!! ثم أرجعنا إلى حيث كنا، لتواجد سيارتنا المركونة هناك، ورحل.

في حين أردنا يوماً بأن نستأجر بيت نسكن فيه.. قدمت لنا صاحبة النزل القهوة والشاي والحلويات العمانية بسخاء نادر ثم بعد جولات من التعارف واللقاء وبعد أن ولد لأبننا طفلة وسمعوا بالخبر أهدوها حلية من ذهب! ولو سألت أحدهم عن مكان تود الذهاب إليه، وتكون أنت في سيارتك؛ يتقدمك بسيارته حتى لو كان المكان يبعد أكثر من عشرة كيلومتر! ولا يتركك إلا بعد أن يتأكد من أن المكان الذي تريده هو هذا بالتحديد!..

الأدهى من كل ذلك بأن يقوم أحدهم بدعوتك لزيارة أهله والتعرف عليهم، ثم يقوم بحجز غرفة في فندق لتقضي فيها ليلتك، بعدها وفي اليوم التالي يأخذك لتتعرف على أهله! ومن هذه الأمثلة التي صادفتنا الكثير الذي يعجز قلمنا التعبير عنها بدقة..

خلاصة القول:

الرجل العماني الذي يعمل في المدينة لا يجلب زوجته وأولاده معه ليعيشوا معه! بل يتركهم في بيت أهله أو بيت خاص بهم لكنهم يكونون قريبين من الأب والأم.. يرجع لزيارتهم في كل عطلة نهاية الأسبوع والمناسبات الأخرى، وعندما سألنا عن السبب توضح لنا التالي:

من أجل تماسك الأسرة وبقاء الزوجة والأولاد مع الجد والجدة! وكيلا تتفكك الأواصر الأسرية بزواج الابن. وهكذا يضحي الرجل العماني بجزء من راحته وسعادته من أجل بقاء الأسرة متماسكة!

نكتفي بإيجابيات أهل السلطنة العامة اليوم، وسيكون لنا جزء ثالث قادم نتناول فيه السلبيات التي عثرنا عليها وسط كل هذا الكم الهائل من الجمال.. وكما يقال، داخل النقطة السوداء تجد نقطة بيضاء، وداخل البيضاء تجد السوداء، هذه هي طبيعة الناس والأشياء أينما تكون.

(3)

طبيعة الخالق

تقول الروائية التركية اليف شافاق: الكتب هي التي تنقذ الإنسان، وتجعله أكثر فهماً لواقعه!

سنواصل في هذا الجزء ما انتهينا عنده في الثاني، وذلك، شعوراً منا بأن ما قدمناه لم يفِ حق العمانيون من ثناء وإطراء! فهم بالنسبة لنا من ملة لم نلتق بمثلهم من قبل في كل المجتمعات التي عايشناها، ويذكرونا ربما بناس العراق في سبعينيات القرن المنصرم! حيث البساطة، الكرم، المحبة، الإخاء وعدم التفرقة ثم ينكرون الجدل حول الدين. فلن تجد في السلطنة مطلقاً من يتحدث عن الدين إلا ما ندر، وإن وجد يعتبر حالة فردية تعبر عن حلاوة الروح، كما حدث يوماً معي من موقف، سأذكره بكل تأكيد في الأجزاء القادمة!!

سأرجئ الحديث عن السلبيات التي أبغي من وراءها إصلاح المجتمع. من نظرة الشخص المعجون بالثقافة، بالفن، بالإبداع وهو خليط بين شخصية الشرق والغرب منتهياً بعبرة، أو حكمة، أو نصيحة ربما يقف عندها المسؤول العماني ويحاول أن يصلح من نظرته لتلك الأمور التي تقف عقبة أمام تطور مجتمعه مثل مرساة ثقيلة تربط عجلة تقدمه، فهي تحاول أن تغرقه، أو على أقل تقدير تجعله يقف في مكانه، وهذا ما لا نرغبه لمجتمع رائع كالمجتمع العماني الذي يستاهل كل الخير.

عندما أتصلنا بالشاعر الذي كان قد عملنا رحلة معه إلى الجبل الأخضر قبل عام، وأبدينا رغبتنا بأن ينقلنا في سفرتنا هذه مرة أخرى إلى مناطق أخرى جميلة في السلطنة، وافق الرجل الهادئ الوسيم بكل أريحية واتفقنا على يوم..

وبعد أن جدد دعوتنا بعد انتهاءنا من الرحلة للغداء عندهم في البيت الذي أعتاد العمانيون على الأكل على الأرض، ناكرين الطاولات التي تبعدهم عن بساطتهم وتقاليدهم التي يحافظون عليها مثلما يحافظون على بؤبؤ عيونهم، وفي ختام الرحلة لذلك اليوم أعطيناها ما قسمه الله حق تعبه، وهذا هو عمله الذي يعتاش منه، فرفض بإصرار كإصرار البحر، لا مثيل له، قائلاً:

– لن آخذ منكما قرشاً واحداً.. فأنتم ضيوفنا

كم حاولنا، وبكل الطرق المتاحة التي يعرفها الشرقي دون فائدة تذكر..

بل أكثر من ذلك، ففي يوم اتصل بنا وهو يرغب في رؤيتنا في مسقط وهو الساكن في الريف.. وعندما ألتقيناها حسب رغبته، سلمنا صرة مليئة بالتمر والطحينة والحلوى العمانية المحلية المعروفة بطعمها اللذيذ وأنواعها الكثيرة، ثم غادرنا وهو يتمنى لنا أجمل وأسعد الأوقات في السلطنة! ناهيك عن الطفلة العمانية الجميلة ابنة أحد الأوفياء الذين تعرفنا عليهم هناك، قام بخطفنا وضيافتنا عند أهله في الريف بعد أن حجز لنا غرفة في فندق وعند تعارفنا اكتشفنا كم جميلة ابنته التي تدعى” جنة ” وما أروع اسمها الذي يشبه شكلها تلك التي اتصلت بنا بعد رجوعنا بأسبوعين لتطمئن علينا وتبلغنا من السلام أحلاه ومن الكلام أحسنه وأرقاه وتقول بلهجتها العمانية بأنها مشتاقة لرؤيتنا وهي التي لم تتجاوز بعد الثلاث أعوام ونصف! كتبت اسمها وهي الوحيدة التي أنعمت عليها بفضيلتي تلك لأنها عندما تكبر ستقرأ ما ذكرته عنها لتفتخر وهذا حقها الشرعي!

قلنا بأن ما أن تطأ قدم المرء أرض السلطنة حتى يتفاجأ من أمرين، الناس والطبيعة.. وها نحن اليوم سنتحدث عن الطبيعة التي صورها الله بأجمل صورة يمكن للمرء أن يصادفها في حياته..

يحد البحر السلطنة على مسافة تبلغ حوالي 1200 كيلومتر! ولكم أن تتصورا طول الشاطئ.. ففي الفترة البسيطة التي لم تتعد أربعة عقود تغيرت معالم السلطنة بشكل كبير جداً.. فقد كان الفقر هو السائد وحتى بداية الثمانينات من القرن الماضي. ولكن، ومع تربع السلطان قابوس الابن على العرش حتى انتعشت السلطنة وفي كل الميادين والمجالات الحيوية. لم يكونوا قد عرفوا الطاقة الكهربائية في سبعينيات القرن المنصرم، لم يدخل التلفزيون إلى بيوتهم إلا في زمن الابن الذي عمل بكل جد واجتهاد من أجل رفع مستوى الفرد العماني وبالتالي تطوير المجتمع بشكل ملفت للنظر..

ما رأيناه في أحيان، لم نجده في أجمل وأغنى مناطق ومدن العالم المتحضر! فالشواطئ المعدة بشكل رائع، نظافتها وتنظيمها، ووجود وسائل الراحة فيها يدعونا للإعجاب والتأمل بقدرات السلطان الذي غير معالم السلطنة من الصحراء إلى الخضراء! تجد الإنارة الضوئية على طول الخطوط الداخلية والسريعة على حدٍ سواء! كاميرات المراقبة تجدها في كل مكان. تسجل كل حركة يقوم بها الفرد من أجل سلامته.

الأودية التي خلقها سبحانه من أجمل ما تراه في الكون.. مناظر طبيعية خلابة، مياه نقية، أشجار باسقة، وطرق معبدة حتى في أقصى مكان يمكن أن تصله سيارتك..

الغريب في الأمر بأن تخطيط الشوارع بحكم طبيعة أرض السلطنة غير المستوية لن تجد شارع على استقامة واحدة دون صعود أو نزول! فالجبال والتلال هي السمة الغالبة على طبيعة السلطنة. هذا يؤدي بأن الطرق السريعة تدخل في الأحياء السكنية وتمتد وتخرج منها. تستغرب من ذلك، لكن، ومع الوقت تعتاد عليها، فإن رغبت أن تذهب إلى الدكتور أو الصيدلية أو المخبز أو البنك أو أي مكان قريب من سكنك لابد وأن تصعد الخط السريع ليؤدي بك بالتالي إلى هدفك المنشود! فالدراجة الهوائية نادرة الوجود بحكم ما تقدم. السير على الأقدام نادر كندرة سقوط الثلوج! ليس هناك شارع طويل تتمشى فيه! وأطوله سيكون أربعمائة متر على استقامة واحدة لا أكثر.. ولا يوجد شيء اسمه مركز المدينة! فلك أن تقول مراكز المدينة، لكثرتها، تنوعها، واختلاف نضجها، جمالها، حداثتها، قدمها، وبعد الواحدة عن الأخرى! فهناك مراكز تشم فيها عطر التأريخ، وأخرى معاصرة تبتهج فيها النجوم وتهتز في مكانها بنعومة مغرية فتأسرك بروعتها وتشتاق لوصالها ما أن تغادرها حتى تعود إليها ساجيا، وثالثة تشعر وكأنك في ميناء أوربي راقٍ كميناء بورتو البرتغالي.. هكذا هي مراكز مدينة مسقط العاصمة التي تخلو جميعها- وبشكل عام السلطنة – من وسائل النقل الحديدية لعدم توفرها. فالتنقل إما بالسيارة أو الطائرة.

قد تستغرب عزيزي القارئ مما تسمعه، لكن الأمر حقيقي وحق ما نعبد! فمدينة مثل ميونخ التي أقطنها نسبياً، لها مركز معروف، فيها محطة قطارات رئيسية، ينزل فيها الداني والقاصي، تجتمع فيها المحال التجارية كعرس عربي، ولها شارع يتوسطها، يقسم بدنها، لا تمر فيه السيارات ويكون متخصصاً فقط للمشاة.. مثل هذا لن تجده قطعاً في العاصمة.. وإن رأيته فهو يعتبر مركز واحد من مجموع عدة مراكز كما ذكرنا مع عدم توافر الشروط التي ذكرناها للتو من حيث حركة المشاة واستقلاليتهم في الحركة والسير وما شابه، فتمر الساعات على الناس من فوقهم مثل غيوم مبحرة بطيئة والكل راضٍ بقسمته، سعيد بإنجازاته وكأنهم لا يطلبون غير رحمة الله دون سواها! وإلى لقاء جديد مع الجزء الرابع بإذن الرب.

(4)

الحياة المعيشية

تدرجنا في انطباعاتنا حول مشاهداتنا للسلطنة حتى وصلنا اليوم للجزء الذي يتطرق إلى الحياة المعيشية التي يحياها الفرد داخل عُمان.. فالحرية هي قوة الإرادة على العمل والصمود والتحدي، وهذا ما لمسناه بشكل واضح وجلي في المجتمع العُماني.. الكل يحاول أن يبني حجر لبلده، وهنا تكمن العبرة.. الحرص على مجتمعهم.

كما معروف، الحياة لا تقوم إلا على أساس الاقتصاد؛ ولا يخال لنا بأننا نبالغ إذا قلنا بأن الاقتصاد هو عماد الحياة.. فهو السياسة، والاجتماع، والفن، والأدب، والقانون، والحياة برمتها. الاقتصاد هو الذي يوجه أي أمة في خط سيرها، ويحدد لها حتى نسبة الجريمة داخلها، بالزيادة أو بالنقصان؛ فالدول الفقيرة تتنازل عن مقومات الحياة الأساسية من أجل الحياة ذاتها! هكذا هو الاقتصاد، وكما يقال، إذا فشلت الثورة في مجتمع ما لن ينتكس إذا كان الأخير يملك كيس المال!

تعودنا أثناء رحلاتنا لدول مختلفة بأن تكون عملتنا الأوربية عالية القيمة، نستطيع أن نشتري ونتسوق ما نشاء في البلد الذي نزوره بحكم قوة العملة التي بحوزتنا، لكن الأمر يختلف عندما تطأ أقدامك أرض السلطنة! أي والله، فالريال الواحد يساوي تقريباً اثنان وربع اليورو، وفي أوقات يعمل اثنان ونصف اليورو، وعليه فنحن كأوربيين نعتبر فقراء عندما نصل إلى السلطنة وذلك لقوة قيمة الريال العُماني مقارنةً ببقية العملات العالمية كالدولار واليورو.. لكن للأمر زاوية أخرى للنظر، فما هو الغالي، وما هو الرخيص لو قارنا أسعار تلك السلع مع الدول التي أتينا منها؟ هذا هو السؤال المهم..

قبل أن نستدرج في التفاصيل نود أن نشير إلى بساطة المسؤول العُماني وتواضعه الشديد الذي يجعلك تخجل لأنه يتسم بهذا التواضع الذي لم نجده إلا في أرقى بلدان العالم المتحضر الذي فيه يعتبر المسؤول الحكومي نفسه موظفاً فقط لا غير.. ففي يوم كنا في جلسة في أحد المطاعم بصحبة صديق عُماني وفي لحظة قدم لنا أحد أقربائه لنتعرف عليه وهو يقول: وزير البيئة السابق.. استغربنا الموقف، فليس هناك حماية ولا ضجة حوله، ورحب بنا الرجل بكل أريحية وبساطة ثم أشار لنا بصديقه القادم معه، فعرفنا بأن الأخير كان عضو مجلس الشورى العُماني، وما هي إلا لحظات حتى تبادلنا أرقام الهواتف وبدأت فيما بعد مراسلاتنا التي كانت وما تزال تعبر عن فرحة جميع الأطراف بهذا التعارف الصادق المعبر الجميل..  

يا الله، لا نستطيع أن نتحدث عن أمور السلطنة إلا إذا وردنا بعض الأمثلة الحية التي تتعلق بطيبة ناسها: ففي يوم اتصل بنا أحدهم وهو يقول: هذه هي ابنتي التي اسمها ” ود ” تحب أن تلقي عليكم شعراً.. استغربنا ذلك، فود لا تتجاوز الخامسة من العمر، رفيعة، رقيقة، ودمها محبوب ويقال بالعراقي، دمها يلعب! تهادى صوتها عبر الهاتف كنغم خارج من ثقوب ناي! استمعنا لها ونحن نزداد إعجاباً بموهبتها الربانية. في حين تعرفنا على أحدهم في بداية زيارتنا الأولى، ثم وبعد أن جلسنا في الفندق بسبب الحجر الصحي للقادمين الجدد طلبنا منه بأن يجلب لنا بعض الفاكهة والخضار، ولم يقصر معنا، احضر لنا أكثر مما طلبنا ورفض بإصرار رهيب أن يأخذ حق مشترياتنا، ولم يأخذ منا إلا بعد طلوع الروح! وعندما ذهبنا في رحلة إلى مدينة صلالة رائعة الجمال، خلابة الطبيعة وفي آخر يوم من سفرنا بغية رجوعنا إلى مسقط بالطائرة طلبنا برجاء من صاحب مكتب تأجير السيارات أن يوصلنا إلى المطار ومن هناك يأخذ سيارته التي كنا قد استأجرناها، رحب الرجل بطلبنا وأقلنا إلى المطار بكل ممنونية، وهناك رفض رفضاً قاطعاً بأن يأخذ حق توصيله لنا، وهو يردد كالمسحور: أنتما ضيوفنا، وهذا واجبنا تجاهكما، ثم غادرنا وكأنه لم يفعل شيء البته!..

لنرجع إلى النقطة التي توقفنا عندها؛ فأسعار الفاكهة والخضار تختلف عن أسعار بقية السلع والمواد الأخرى عندما نقارنها بما موجود في البلدان التي نقيم فيها.. فتعتبر تلك الأسعار زهيدة جداً، في حين أغلب المواد المستوردة باهظة الثمن. الأكل في المطاعم بشكل عام رخيص، لكن القهوة غالية، والمعجنات كذلك. الوقود سعره لا يذكر، والحلاقة أجمل من قيمتها لا يوجد.. الغرامات المرورية عالية نسبياً. الخطأ لا يتم التسامح معه. هكذا هو فكر البلدان الراقية، مع العلم بأن متوسط راتب الشخص الأوربي يقدر بثلاث أضعاف معدل الراتب العُماني، هذا يدل على قوة قيمة العملة من جانب، وإلى الصعوبات التي يواجهها الفرد من جانب آخر.. فالمشاريع في السلطنة على قدم وساق، الغالبية العظمى تدور حول رحى المشاريع التجارية: قروض، أيدي عاملة، بناء، تطوير ، ناهيك عن أمر أساسي في كل هذه العملية، فنسبة الأيدي العاملة الأجنبية تصل تقريباً إلى نفس عدد سكان السلطنة! هذا يدل على شيئين أساسيين، كثرة الأجانب، وقلة العمالة المحلية التي تدير المشاريع بنفسها اعتمادً على الأجنبي الذي يقيم في السلطنة وفق شروط عمل محددة.

أكثر شيء وقفنا عنده أثناء رحلتنا في السلطنة هو اكتشافنا الوضع العام لإقامة الأجنبي على أرض عُمان، فقد رأيناهم قسمان: الأول غني جداً كصاحب أكبر محلات التسوق في السلطنة من أصول هندية، وأما فقير معدم يعمل لخدمة صاحب المشروع لقاء الأكل والشرب والسكن وقيمة رمزية تعادل مئة ريال عُماني كراتب شهري مع ضمان إقامته للخدمة.

من جانب آخر الذي لفت انتباهنا هو قوة شخصية المرأة العُمانية.

يا سلام عليها..

كنا نقول بأن المرأة الألمانية قوية، ولها من الحرية التي تتجاوز في أحيان على حرية الرجل، واهتماماتها متنوعة لا حدود لطاقتها، لكننا اكتشفنا بأن السيدة العُمانية تتمتع بصفات لم نرها من قبل في شخصيات نسائية أخرى ألتقينا بهن..

فهي بالعادة حازمة، حاسمة، حريصة، واعية، مفكرة، عاملة، مربية، مسؤولة عن تصرفاتها، وحركاتها، وميولها، ومواهبها. تعرف متى تتحدث، ومتى تسكت. تجيد لغة الكلام، متعلمة، من ذوي أصحاب الشهادات الجامعية العليا، ولها دور بارز في الأسرة قبل أن يكون لها دور في المجتمع.. وهذا أفضل ما أعجبنا في نظام السلطنة. فالأرض التي تمنح للرجل العُماني مجاناً من قبل الدولة تمنح للمرأة تماماً. فحقها محفوظ بسلطة القانون، لذلك، نراها تمارس دورها الريادي دون خوف، أو تردد، أو وجل، بل على العكس، نراها في كل مكان، بشكلها، وزيها، وشخصيتها الجميلة المتميزة، وتدخل في نقاشات متنوعة، ولا تخجل من قول رأيها. الحرية في عرفنا، إرادة وتفكير، والمرأة العُمانية جسدت ذلك بحرفية ومهرة عالية الجودة! وأقرب مثال على ما ذكرناه، عندما زرنا متحفاً تراثياً شيدته سيدة عُمانية وفاءً لأبيها، فجمعت مقتنياته وأشيائه، وكتبه وعمرت بيته القديم وجعلته قبلة للزائرين من كل أنحاء العالم وتديره بنفسها، وتقدم فيه القهوة والتمر مجاناً وكل هذا وفاء لذكرى أبيها التي تعتبره قدوة تسير على خطاه، سعيدة بإنجازها، متفائلة بعملها، ولا تطلب غير رضا الله سبحانه وتعالى.. وإلى لقاء جديد مع انطباعات واقعية لزائر عراقي مغترب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى