مقال

ويطعمون الطعام (11)

الإطعام من شعائر الله وتمام المناسك

بقلم: إبراهيم محمد الهمداني

ورد الأمر الإلهي بالإطعام، في أكثر من موضع، وارتبط – بوصفه قيمة دينية وأخلاقية وإنسانية – بالعديد من الشعائر والمناسك والطقوس الدينية، كما هو الحال في الركن الخامس من أركان الإسلام، حيث جُعل الهدي من تمام مناسك الحج، تقربا إلى الله عز وجل، وإحسانا للضعفاء والمساكين والمحتاجين والفقراء، يقوم به القادرون من الحجاج، في ميدان الشكر العملي، المفتوح في موسم الحج، يقول الله تعالى:- “وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق (٢٧) لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ(٢٨). من سورة الحج.

جاءت الآية الثانية تعليلا لتلك الفريضة، وبيانا لما يجب أن تشتمل عليه الإجابة من الناس، والتلبية لله بالحج، “ليشهدوا منافع لهم”، ترغيبا وتشويقا، ويذكروا اسم الله ….”، تعظيما وإجلالا وحمدا وشكرا، “على ما رزقهم من بهيمة الأنعام”، خاصة، وغيرها من النعم العظيمة عامة، وخُصَّتْ “بهيمة الأنعام”، بالذكر في هذا المقام، لارتباطها الوثيق بمناسك الحج، ممثلة في “الهدي”، بوصفه شعيرة مقدسة من شعائر الله، أوجب الله لها الحرمة والقداسة، من أن تُنال أو تُعترض أو تُؤذى، “ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ”، (الحج:٣٢)، ومن مظاهر تعظيمها، التزام أمر الله فيها، وتحقيق الغاية من شعيرة نحرها لوجهه تعالى، وحده لا شريك له، وفي تفسيره تمام هذه الآية، يقول السيد المولى العلامة، بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه:- “﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ أي من الأنعام التي تذكرون اسم الله على نحرها وذبحها، وهي هدايا تهدى إلى البيت يهديها القارن وغيره فلا بأس أن يأكل منها من أهداها ﴿وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾: ﴿الْبَائِسَ﴾ صاحب البؤس أي شدة الحال من الإعدام و﴿الْفَقِيرَ﴾ المحتاج”.
جاء الترخيص للحُجاج بالأكل من تلك الأضاحي، و”مِنْ” هنا تفيد التبعيض، وأكل الشيئ اليسير منها، ليبقى القسم الأكبر، من نصيب البائس الفقير، الذي أُمروا بإطعامه، وإيصال تلك اللحوم إليه، وكما يقول بعض المفسرين، الأكل مستحب، والإطعام واجب، وكذلك الأكل من بعضها، والتصدق بالقسم الأكبر منها، وبذلك يكون الإطعام فرضا واجبا في شعيرة الهدي، التي جعلها الله تعالى من شعائره، ونسبها إليه، وأوجب تقديسها وحرمتها.

قدمت الآية السادسة والثلاثون، من سورة الحج، تفاصيل أكثر حول شعيرة الهدي/ البُدْنِ، والحكمة من مشروعيتها، وما تنطوي عليه من خيري الدنيا والآخرة، وما هو أكثر من ذلك، في قوله تعالى:- “وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ”. (الحج:٣٦).

يقول السيد المولى العلامة، العالم الرباني المجاهد، السيد بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه:- “﴿جَعَلْنَاهَا لَكُمْ﴾ أوجدناها لكم وسخرناها لكم وشرعنا لكم إهداءها فبذلك جعلناها لكم؛ […………] وقوله تعالى:- ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ قال الشرفي: ومعنى ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله وأضافها إلى اسمه تعظيماً لها. انتهى. ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ يحتمل خير الدنيا بإصلاح الضمير ومعاونة الفقير وبمعاونته يصلح المجتمع وخير الآخرة الثواب”؛ وفي بيانه للمقصود بالقانع والمعتر، في الآية الكريمة، يضيف السيد المولى رضوان الله عليه، قائلا:- “في (مجموع الإمام زيد بن علي): عن أبيه عن جده عن علي ؛.. إلى قوله: .. « ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ قال: ﴿الْقَانِعَ﴾ الذي يسأل ﴿وَالْمُعْتَرَّ﴾ الذي يتعرض ولا يسأل» انتهى. وفي تفسير الإمام زيد بن علي (عليهما السلام): فـ ﴿الْقَانِعَ﴾ السائل، وقال: الجالس في بيته ﴿وَالْمُعْتَرَّ﴾ الذي يأتيك ولا يسألك، وفي (أحكام الإمام الهادي) (عليه السلام): « ﴿الْقَانِعَ﴾ المتعفف لا يسأل مع الحاجة، ﴿وَالْمُعْتَرَّ﴾ السائل» ورواه فيها عن جده القاسم ومثله في (أمالي أحمد بن عيسى (عليهما السلام) عن القاسم (عليه السلام). وقد أفادت الآية الكريمة: الأمر بإطعامهما، سواء كان (القانع) السائل أم الذي يتعفف عن السؤال وهو محتاج، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل أم الذي يسأل، وقوله تعالى:- ﴿كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ﴾ كذلك التسخير للبدن المهداة سخرنا لكم الإبل ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي تشكرون نعمة الله عليكم”.
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن المبنى التركيبي، قد حمل مضمون دلالته، في الكريمة، فالتناظر التركيبي بين “فكلوا” و “اطعموا”، يفيد التناظر الدلالي بين الفعلين، غير أن متعلقات فعل “الأكل” كانت أضعف حضورا، من قرائن فعل “الإطعام”، حيث ارتبط الأول بالتبعيض والتقليل، بينما ارتبط الثاني بالنصيب الأكبر، في تخصيصه للبائس الفقير عامة، والقانع والمعتر خاصة، وارتباطه بفعل الأمر الإلهي، الموجه إلى جموع حجاج بيت الله الحرام، بقوله تعالى:- “واطعموا”، ما يدل أنه لا يكفي الذبح، وتقسيم لحم الهدي على مستحقيه، وإنما يجب إعداد المائدة لهم، وتجهيزها بصنوف الطعام، ودعوتهم إليها، والمبالغة في إكرامهم، دون إشعارهم بأدنى ما يوحي بالتمنن والتفضل عليهم، بوصف طقوس الإطعام هذه، إحدى مظاهر الشكر المطلوب، تجاه الخالق الرازق المسخر، على نعمه الوافر وفضله العظيم.
وإذا كان الحج قد تعذر في أيامنا، فما زالت بعض مناسك الخير متاحه، وشعائر الله واجبة الأداء والتقديس، في أوساط مجتمعنا، ومازالت شعيرة الإطعام للفقراء والمساكين – خاصة في الشهر الكريم – على حالها من الوجوب والمشروعية والثواب، كونها إطعاما في يوم ذي مسغبة، على حبه، ورغم شدة الحاجة إليه، والمبادرة بإطعام جائع، خير عند الله من بناء ألف جامع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى