أدب

الهرب من منفى الواقع إلى جنون المتخيَّل

قراءة في مجموعة أيها الوطن الشاعري للشاعر صاحب الشاهر

بقلم: د. عمار المسعودي

الشعر فن التهجدات والتأملات والمناجاة الخالصة لوجه الشعر، وهو فن الجزئيات التي تغدو كليات بجهد الذات وهي تتسامى وهي ترتفع أو تترفع عما هو قابل للفناء أو عما يقع خارج منظومات الخلود .
ولهذا وسواه تم الانتباه من قبل الفلسفة النفعية التي تبرر فيها الغاية الوسيلة ما أوقع الفنون ومنها الشعر في حبائلها وأشراكها حتى استحال في أكثر ممكناته وسيلة من وسائل السلطة البيانية وصولا إلى السلطة المتجبرة التي تتبنى تسويقا لوجودها المعتمد على القشور الخارجية للغة كونها تخضع إلى سياق المناسبة أو أسباب النزول التي يعرف المتلقي معظم أسرارها مما يمحو الابتكار ويبعد الإبداع تحت مسميات الأغراض الشعرية التي تعد منتجات سياسية سلطوية في معظم نماذجها ودليلنا على ذلك أن المخاطب يكون وبنسب عالية هو الخليفة أو الوالي أو القاضي أو السيد المطاع ما ترك للشاعر حيزا مكررا يبتدئ به لينتمي إلى عمودية العرب بما تبتدئ به من طللية لا وجود للذات الشاعرة فيها إلا بذات ممحوة مكررة كون الضمائر فيها تعود بجلها للمخاطب/ السلطة، الأمر الذي أفقد هذا الفن الذاتي الشخصي التهجدي المناجاتي أغصانه الخضر ماجعله متيبسا بعيدا عن شجرته الأولى.


ولم يكن حال الشعر في عصرنا الراهن بأقل انتهاكا من حاله في عصور السلطة على امتدادها كونه النسق الثقافي المتحكم بآليات اشتغال الشعري في ثقافة أمة لم تتمكن من القفز على وجود انتهبته اليوتوبيات والرمزيات الكبرى ما كرر الشعري على نفس تلك المواويل والمناويل فشاركته أخبار العلوم ومنظومات الفلسفة والأفكار السياسية والتاريخ حتى غدا مستباحا لايمثل سوى مايعرف الجميع كما يقول أدونيس مما أخسره أن يكون فاتحا لكوات جديدة لم يدرك فجواتها التلقي كي نفتح أملا من جراء توظيف اللغة توظيفا مضادا تقف صدا مانعا أمام تكرارنا الذي صار تلا من أوجه الشبه التي افقدتنا قيمة التواجد فاتحين في اللغة مجربين في الوجود .
وصولا إلى ما يتعلق بالشاعر صاحب الشاهر/ الزهرة البرية التي حان قطافها مبكرا هذا الصوت الذي أنبأ وقت ذاك عن كثير من الهديل والهدير الشعري إذ كان متقدما على مجايليه رغم كونه من أصحاب الواحدة وأعني ،، المجموعة الشعرية ،، وذلك لأنه كان يعيش حياته شعرا ولا فاصل يمنعه من مواصلة حلمه الإبداعي حتى ولو كان نوما و بغفلة ، فالشاهر من هذه المجموعة القلقة التي ورثت كمَّا شعريا وفنيا من آباء شعريين ينتمون إلى الصخب الأيديلوجي ماجعل الإقتراب منهم يعني الدخول في مصيدة تكرر الوقوع في أفخاخ الخطاب النفعي الذي يأكل من جرف الجمالي حد الفناء .
هو ينتمي إلى جيل اجتياز السرديات الكبرى وجيل الركون إلى توظيف الأساطير والتغريب والغموض الذي أبداه الجيل الخمسيني وحتى الستيني لغرض ملء الفراغات التي تركتها القصيدة العمودية أثناء عمليات التحول الكبرى في منظوماتها الثابتة نحو بعض الحرية التي قدمتها بضرب القافية والتوجه في محاولة اقتراب من مدنية شعرية تحاول أن تكون كينونة أو ضدا نوعيا للفحولة التي ملأت تاريخا شعريا لأمة طال اعتمادها عليه حتى عدته ركنا أساسا من أركان وجودها.
صاحب الشاهر هذا الكائن القلق المسكون والمهووس بوجود مختلف في زمن يتكرر ويتشابه في معظم نماذجه، راح يواري ويماري للنجاة بنفسه قالبا المعادلات التي تُكتب فيها القصيدة من سردية الذهاب إلى الوطن الأيديلوجي المحتل بأفكار تبرر وجوده إلى جذب كل ذلك إلى مخيلته وبدلا من أن يكون مملوكا صار مالكا، هذا ما تشي به عنونة المجموعة ،، أيها الوطن الشاعري ،، فالشاعر ينادي الوطن باستعارة مكنية فُيقبل عليه جوهرا كونيا يلمع في منظوماته الشعرية التي أراد لها أن تكون مختلفة في أزمان ايدلوجية تكرر إنتاج خطاباتها الواقعة خارج الذات الشاعرة التي ترفض التغريب منتمية إلى الفطرة وبراءة الانتماء.
إن الشاهر يسحب الأشياء / الوطن العالم / الوجود إلى غابة شعره محدثا صدمة في منظومات التلقي التقليدية, كون الشعري عندها هو الذي يستجيب ملغيا جوهره وذاته بناء على أسرار الموجهات في خطاب هذه المنظومات التي تسخر كل شيء نصرة لتيجانها الزائلة والزائفة.
ولو عدنا إلى إثبات حدسية عنونة هذه القراءة لوجدنا تمثلاتها مبثوثة على طيلة مدونته الوحيدة المقدر لها أن تخرق ما يناهز أربعين عاما وصولا إلى إعادة طباعتها منقحة بماء الشعر الحقيقي العصي على الفناء بمصاديق قصيدة جاءت تحت عنوان ،، سعادة ،، :
هلا رغبتَ بهذا الانحناء المهذب؟
إني لأمسح عن وجنتي العناء
وأمسح عني الكآبة يا موجعا رئتي لماذا تنام وحيدا
تكون المتاعب قابلة للوضوح وقابلة للتعرف أكثر من أي وقت مضى
وأكون أمام الزجاج خفيضا أمام أمام الزجاج…ومنكسرا
كالضباب المفاجئ) نم يا حبيب يا صديق الحصى والمياه(
من تفحص تشكلات الشعري نجد أن ثيمة الانكسار الوجودي هي الغالبة وبذلك يدفع فحولة الشعري والحماسي والأيدلوجي عن تمثلاتها الشعرية ورؤاه ما شكل غوصا صوفيا في الذات بدلا من الانتماء إلى خارج معبأ بكل ما هو زائل وزائف من خطابات تحاول السلطة/ خارج الشاعر الانوجاد بها دعما لزمنيتها ودورة حياتها القصيرة , الأمر الذي جعل الشاعر ينأى بذاته القلقة صوب أعماقه مكانا أبديا جميلا , ماجعله يوظف ألفاظا تذهب إلى جواهر الأشياء أو تسقط راغبة في الخلاص إلى أعماقها في مواجهة تعاكس وتشاكس الوجود الخارجي الخالي من الفحوى والجدوى يتمثل ذلك بجمل وكلمات من مثل ،، الانحناء المهذب ، العناء ، أمسح عني الكآبة ، تكون المتاعب قابلة للوضوح ، أكون أمام الزجاج خفيضا ، كالضباب المفاجئ . وبهذا تكون معظم تمثلاتها “وأعني القصيدة” متجهة برحلة صوفية إلى داخل عرفاني ينمي الذات ضدا نوعيا لخارج بياني ينمي بتمعن فقه السلطة .
ولتتبع مسار نمو الشعري الهارب في الأنساق العميقة نجد الشاعر يشفر في زمن محاكمة الكلمة وترقب دلالاتها حد مخبر معنوي يحصي أنفاس الشعري لتصنيفه مستقطبا إذ يقول:
خلفي يتكئ الوطن الهودج مشدودا للحبل السري وأمامي… لا شيء سوى جسد يسَّاقط شفافا في منتصف الشارع حيث الاسفلت يهاجر نحو الشمس دوارا قزحيا.
في نصوص الشاهر تبدأ مهمة الشعري في تسجيل الوطن شخصا هاربا في سجلات نفوس الشاعر الحائلة مثل وجنتين لوحتهما الشمس بقرينة ،، هودج ،، وهي تستحضر مفازة وصحراء وكثبانا ورحلة في المجهول مع ما يرافق كل ذلك من جسد الشاعر الذي يسّاقط منهارا في استشراف راء يطلق شفراته الغامضة.
ولكي يستكمل استشرافاته بمحن قادمة وبموت أثيل وأصيل قادم نجده مثلما صوفي يلوذ بكهف الكلمات البعيدة يقول:
بين مقاهي الليل وبين الفصل الأول من مأساة……..الموت وقوفا
أنسى وأكابر لكن يدي تبقى مشلولة من جراء العشق..
فألقاك معي…أسكن في عينيك قليلا
أتوحَّد فيك… ونغدو وطنا.
يسكن الشاعر الأمكنة بنية الجزئيات التي يرغب بالوصول بها إلى الكليات لذا نجده متسللا ،، مقاهي الليل ،، مصحوبا بفصوله الأولى من المأساة التي يحاول جاهدا فيها أن ينسى وأن يكابر لكي يقرر الموت وقوفا مشابها لأشجاره التي ما برح تحت ظلالها متفيئا سعادة لا تدوم ولا تقوم حقيقة حتى يلوذ بيوتوبيا حبيبة يأتي بها من الخذلان وطنا بديلا ،، أسكن في عينيك قليلا أتوحد فيك..ونغدو وطنا ،، صاحب الشاهر هنا يبحث عن وطن مشفر بعناية صوفيين عاشقين.
يسكن الشاعر أمكنة جنونه الشعري فهو لا يهدأ في محاولة تأثيث ذاته والوصول بكامل أناقته ما جعله في نحو المعنى يتبختبر مترنحا منتشيا بفكرة وجود باهظة تسكنه مابين جملة خبرية لا تخبر عن مكنونانته وجملة انشائية لا تشي بقوته وقدرته ما جعله يقول:
ألفت الدروب التي أوصلتني إليك
صُلِبتُ أمامك طفلا من الألم المستطاب
صرخت…أعرني يديك
أعرني خصوصية الحب
إن المواعيد حافية القدمين تنام وتسهر عندي
وحافية القدمين.. تدور.. تراقص ساحات بغداد واحدة بعد أخرى
تكون المدينة ساقية للتسكع
منها يجيء النعاس لذيذا
ومنها نجيء
نغادر مثل الحدائق أسوارنا يكون المدى سلما للبكاء.
الشعري يتأثث هنا برقة الكلمة وشفافيتها وبرونق العبارة وانزياحها صوب ما ترغب الروح الشاعرة من تقصيه وهي تبحث مثل سائح خصب أروقة بغداد بحثا ولوذا وانتهاء وانتماء كون بغداد ساقية تهرف بهناءة هؤلاء الدراويش وبحزن الباحثين عن حائط يحتمل لوحات نعاسهم ونومهم ويقظتهم.
لم يتّبع الشاهر منظومة المعاني أو منظومات القيم بل كان لها موعدا ومكانا وزمانا وهذا ما تقول به الشعرية الحديثة بحياة الشاعر لا بموته تابعا للمعنى الثابت والمقيد بغرض شعري أو مناسبة خاملة من شدة تكرارها صاحب الشاهر يسحب الكون إلى ذاته ثم يقوم بإطلاقه جديدا ونميرا باسمه هذا ما تقف مصاديقه الشعرية شاهدة عليه إذ يقول :
أيها الأسمر الشاعري
لماذا توهجت في الدفتر المدرسي.
لماذا توهجت فيَّ أنا المبتلى
ما سقتني عيونك غير الصدى الأسمر الشاعريَّ
فيا للطفولة من طعنة تتغنى
تعال…نسائل ورود الكآبة :
كيف استطاب السرير لمن أشعل الدفء فيه
وما كان غير زميل
لتلك الحجارة والماء والياسمين
تعال…
نكن غابة
أو سماء تغرد دون مقابل
( نريد سماء تغرد دون دون مقابل )
هناك وطن ملأته الايدلوجيات حد التخمة معبئة حتى الهواء فما بالك بالقول و ما بالك بالشاعر في حقبة ملتهبة تتصارعها قوى فكرية أشغلت ذاكرة البلاد طويلا بصراعها حول مواطن البيان عن أحقية من يصلح وعن شرعنة من يحكم ,من كل هذا تسلل صاحب الشاهر جالبا الوطن صوبه متملّكا خريطته وسماه وهواه يأتي به ليسكن مقتنياته السهلة والبسيطة كأحلام قروية في حب أخضر ما جعله متوهجا في دفتره المدرسي ويستمع لصداه ولصوته حينما جسمه /الوطن عاشقا يُنادى فُيقبل طائعا فالوطن الشاعري لم يكن سوى زميل الليالي والشوارع والحجارة والياسمين برحلة تخلص صوفية من ثقله وسطوته.
الوطن عند الشاهر شريك وجود يماهيهه ويعاذله ويجاذبه أطراف الحديث يريده عاشقا يمنح من دون مقابل يمنح مثلما قديس بلا ثمن أو خسارة تنال الذات الشاعرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى