كسوة الكعبة المشرفة بين بلدة تنيس ودار الكسوة بالقاهرة
بقلم: الروائي خليل الجيزاوي
كانت بلدة تنيس بجزيرة تنيس في بحيرة المنزلة تقوم بصناعة كسوة الكعبة منذ مئات السنين، وكانت الكعبة المشرفة منذ عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تكتسي بالقباطي المصرية، إلى جانب أقمشة من بلاد مختلفة، واستمر ذلك طوال عهد الخلفاء الراشدين، وهناك وثائق تاريخية وتقارير رسمية تظهر الكسوة المصرية ككسوة رسمية للكعبة المشرفة، وفي مصر يقام احتفال رسميٌّ كل عام وكانت تنقل على ظهر الجمال، وتسير الجمال وسط الزغاريد والطبول، ويسمي هذا الموكب: محفل كسوة الكعبة المشرفة، وكان يخرج والي مصر، أو الخليفة، أوالسلطان، أو الخديوي، أوالملك، أوالرئيس، بحسم لقب الحاكم خلال فترة الحكم مصر، وهناك صورة شهيرة للرئيس محمد نجيب وهو يقبّل كسوة الكعبة قبل خروج الموكب من مصر، الذي يتقدم المحفل حامية كبيرة من الفرسان تركب الخيول لحمياتها، ويتجمع الموكب المهيب أمام مقر الحكم، أسفل القلعة، وتصطف الصفوف في ساحة القلعة، حتى يخرج حاكم مصر ليعطي الإذن بتحرك موكب المحفل يحمل كسوة الكعبة المشرفة حتى أرض الجزيرة العربية محمولة فوق ظهر الجمال.
وفي عهد الدولة الفاطمية كان القباطي قماشاً من الكتان والقطن المصري اشتهرت به منذ عهود الفراعنة، واندثر حالياً في الغالب، في حين كانت الكسوة السعودية غالباً من الحرير.
استمرت بلدة تنيس في صناعة كسوة الكعبة المشرفة حتى عصر الدولة الأيوبية، وخشي السلطان الأيوبي من هجوم الفرنسيين على مصر ووقوع أهل تنيس التجارية كأسرى بعد هجوم الحملة الصليبية على مصر، حيث هي تعد قرية صغيرة وسك جزيرة بحيرة المنزلة بدمياط، فتم إجلاء كافة أهل بلدة تنيس وتخريب الجزيرة خوفاً من هجوم الصليبين البحري على الجزيرة، وطبعا لم يحدث هجوم الفرنسيين على بلدة تنيس حيث توجهت الحملة الصليبية مباشرة إلى دمياط ومنها إلى المنصورة، وتم هزيمة الملك لويس ملك فرنسا وأسره في دار ابن لقمان، ولم يفرج عنه إلا بعد أن افتدته زوجته بصندوق من الذهب، وهو ما يعادل وزن الملك، ورجع إلى فرنسا يجر أذيال الهزيمة والخزى والعار بعدها انتقلت خدمة كسوة الكعبة إلى دار الكسوة بالقاهرة، التي تميزت لاحقاً بخروج موكب قافلة الكسوة مع الحجيج.
تولت دار كسوة الكعبة بالقاهرة صناعة كسوة الكعبة من عام 1816 حتى عام 1964، وتقع دار كسوة الكعبة في حي الجمالية بالقاهرة في. مصر، وفي2 سبتمبر 2013 أعلتها اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية التابعة لوزارة الآثار المصرية، أثراً، وذلك للقيمة التاريخية والروحانية للدار التي ارتبطت بالكعبة المشرفة، ومع بداية الدولة الفاطمية اهتم الحكام الفاطميون بإرسال كسوة الكعبة كل عام من مصر، وكانت الكسوة بيضاء اللون (قباطي) من الكتان والقطن المصري.
وفي عهد الدولة المملوكية وحكم السلطان الظاهر بيبرس أصبحت كسوة الكعبة المشرفة ترسل من مصر، حيث كان المماليك يرون أن هذا شرف لا يجب أن ينازعهم فيه أحد حتى ولو وصل الأمر إلى القتال، فقد أراد ملك اليمن “المجاهد” في عام 751هـ أن ينزع كسوة الكعبة المصرية ليكسوها كسوة من اليمن، فلما علم بذلك أمير مكة أخبر المصريين فقبضوا عليه، وأرسل مصفداً في الأغلال إلى القاهرة. كما كانت هناك أيضاً محاولات لنيل شرف كسوة الكعبة من قبل الفرس والعراق ولكن سلاطين المماليك لم يسمحوا لأي أحد أن ينازعهم في هذا، وللمحافظة على هذا الشرف أوقف الملك الصالح إسماعيل بن عبد الملك الناصر محمد بن قلاوون ملك مصر في عام 751هـ وقفاً خاصاً لكسوة الكعبة الخارجية السوداء مرة كل سنة، وهذا الوقف كان عبارة عن قريتين من قرى القليوبية هما بيسوس وأبو الغيث، وكان يتحصل من هذا الوقف على 8900 درهم سنوياً، وظلّ هذا هو النظام القائم إلى عهد السلطان العثماني سليمان القانوني.
واستمرت مصر في نيل شرف كسوة الكعبة بعد سقوط دولة المماليك وخضوعها للدولة العثمانية، فقد اهتم السلطان سليم الأول بتصنيع كسوة الكعبة وزركشتها وكذلك كسوة الحجرة النبوية، وكسوة مقام إبراهيم الخليل.
وفي عهد السلطان سليمان القانوني أضاف إلى الوقف المخصص لكسوة الكعبة سبع قرى أخرى لتصبح عدد القرى الموقوفة لكسوة الكعبة تسعة قرى وذلك للوفاء بالتزامات الكسوة، وظلت كسوة الكعبة ترسل بانتظام من مصر بصورة سنوية يحملها أمير الحج معه في قافلة الحج المصري.
وفى عهد محمد علي باشا توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد الصدام الذي حدث بين أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الأراضي الحجازية وقافلة الحج المصرية في عام 1222هـ الموافق عام 1807م، ولكن أعادت مصر إرسال الكسوة في عام 1228هـ.
وقد تأسست دار لصناعة كسوة الكعبة المشرفة عام 1233هـ، الموافق عام 1816 في شارع الخرنفش بحي الجمالية القاهرة، وكان يقام حفل رسمي كبير في حي الجمالية وهو حي عريق يقع عند التقاء شارع (بين السورين) و(ميدان باب الشعرية)، أمام مسجد القاضي عبد الباسط، والذي كان يشغل منصب قاضي قضاة مصر، ووزير الخزانة العامة والمشرف على صناعة الكسوة الشريفة، وكانت تخرج الكسوة في احتفال بهيج وتخرج وراءها الجموع إلى (ميدان الرملية) قرب القلعة.
ولا تزال دار كسوة الكعبة قائمة موجودة حتى الآن وتحتفظ بآخر كسوة صنعت للكعبة داخلها، واستمر العمل في دار تاكسوة بشارع الخرنفش حتى عام 1962، ولا تزال دار الكسوة موجودة وقائمة وتحتفظ بآخر كسوة.
ويتألف مبنى دار الكسوة من طابقين، بطول الشارع الذي لا يتعدى طوله أربعة أمتار فقط، تحول لون المبني للون الرمادي بسبب الأتربة وعوامل الزمن والتعرية، وتآكلت نوافذه الأثرية بسبب الصدأ الذي حولها للون الأسود، وانتشرت علي جدرانه الضخمة لافتات إعلانية، في حين غابت عن المبني أي لافتة تدل عليه.
وتتوسط الدار بوابة حديدية باللون الأخضر، تفتح بين الحين والآخر على يد موظفي وزارة الأوقاف، وتستخدم الدار كمخزن، بحسب شهادات أهالي الحي العتيق، الذين يتوارثون الحكايات عن الآباء والأجداد، عن الدار والاحتفالات التي كانت تقيمها الدولة المصرية، احتفالًا بكسوة الكعبة التي كانت تحملها الجمال علي المحمل سنوياً للأراضي المقدسة.
واستمر العمل بدار كسوة الكعبة حتى عام 1962 ميلادي حين رفض السعوديون استلام الكسوة نتيجة للخلافات السياسية بين الرئيس جمال عبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
واليوم وبعد أن توقفت مصر عن إرسال الكسوة، تحول هذا المبني الأثري لمكان مهجور، تنتشر أمامه بعض المحال التجارية، بعد أن تحول المحيط الذي تقع فيه دار الكسوة لمنطقة تجارية، وبالرغم من ذلك إلا أن سكان الحي، يعرفون جيدا تاريخ الدار والاحتفالات التي كانت سنوياً، احتفالات بإرسال الكسوة للأراضي المقدسة. ولماذا لا يتم تعمير (جزيرة تنيس)مرة أخرى ويستفاد بها كمنطقة جذب سياحي؟!