فكر

خصوصية الثقافة العربية وتمايزها عن الثقافة العولمية

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين
     لا يمكننا التغاضي عن ربط الماضي المنظور للثقافة العربية بحاضرها الصعب والبائس، لما تعانيه من تشتت وتمزّق، تمارسه الخصوصيات الثقافية الضيقة، وتهدّده الهويات الفرعية القاتلة. وذلك لأنَّ المفهوم الرسمي العربي حول الظاهرة الثقافية ما زال غامضاً ومبهماً حتى يومنا هذا، كونه تتحكّم فيه ظروف خاصة ومعطيات لحظية وظرفية، وعوامل داخلية وخارجية ضاغطة بشكلٍ كبير، لذا فالخطاب الرسمي العربي الخاص بالثقافة العربية يشكو من التناقض وعدم التماسك، معلناً عن فشله في أنّ العولمة الاقتصادية والسوق العالمي الحر، وانتشار الثقافات عبر القارات والقوميات، هو قضاءٌ وقَدَر لايمكننا الفكاك منه. بشرط أن نحافظ قدر الإمكان على هويتنا العربية وخصوصياتها الحضارية الغنية. هذا التشتّت وعدم التماسك، يدفعنا إلى الحديث بشفافية عن المكونات العربية للثقافة من خلال موقع وطننا العربي الجغرافي، وما يملكه من موارد طبيعية هائلة وثروات مالية ضخمة، وما يسير عليه وفق نظم سياسية خاصة به، والبحث المعمّق في أوضاعه التنموية والسكانية، وطبيعة علاقاته البينية، وعلاقاته مع بقية دول العالم. من هنا نرى أنّ العولمة بما تملك من فضاءٍ واسع لا تعني بالضرورة نفس القضايا التي يعانيها وطننا العربي. ولا تنطوي أيضاً على التحديات نفسها، أو على الأقل بالنسبة لكل مجموعة عربية من مجتمعاتنا. كما أنَّ التعدّد الثقافي الواسع في ظل الافتراق وفي إطار التباين الكبير موجود، الأمر الذي يميِّز ثقافتنا العربية بخصوصيات ومميزات لا تنفي مفهوم ومدلول الثقافة العربية، بقدر ما تزيده غنىً وثراءً وخصوبة. ويبقى المشترك العام باسم الخصوصية هو الأهم.
المؤلم والمزعج بالأمر أن يتم إسقاط التشتت والضياع السياسي العربي على القضايا الثقافية العربية، وأن يتم محاكمة الثقافة وحمولاتها، وتقييمها طبقاً لمعايير وموازين السياسة المتبعة، غير غافلين عن التعبير بصراحة عن الخصوصيات الثقافية للهويات الضيقة بدعوى الوحدة العربية والقومية العربية، متنبهين إلى قضية غاية في الأهمية، وهو عدم الانخراط في تضخيم الخصوصيات الفرعية، ونفي المشترك العام باسم الخصوصية، وأداً لأي حركةٍ طائفيةٍ أو مذهبيةٍ أو إثنية. والتأكيد على أنَّ الثقافة العربية تضم بين جنباتها العديد من التيارات والخصوصيات التي تصب في مجرى واحد منسجم دون أي استقصاء أو تهميش، أو اسبعاد لأي جهةٍ كانت داخل المجتمع.
في هذا السياق وفي إطار معاناتنا نحن العرب من العجز والحديث عن الحواجز والمعيقات، لا يجدر بنا تحميل كامل مسؤولية عجزنا وتخلفنا على الآخر الغربي أو على ثقافته الخاصة به، وذلك لوجود الكثيرين الذين ينسبون كل ما نعانيه من ظلمٍ قومي وإجحاف إلى الآخرين، وهذا لن يمكِّننا من القيام بأيِّ مهمام تدفع بنا إلى الأمام، وسنبقى أسرى لأفكار مغلقة لا تفسح لنا مجالاً للإنطلاق لتحقيق ما نصبوا إليه، والمطلوب أن نتخلص بأقصى سرعة من تلك النزعة، وأن نجري التغييرات البنيوية الجوهرية في الثقافة التي يجب أن تتضمن الاعتراف بمسؤوليتنا المباشرة عن قضايانا الراهنة وما نعيشه من مآزق، وأن نبحث بجديّة عن مصائرنا. ومستقبلنا ووجودنا العالمي. وأن نبحث عن حقيقة هويتنا ونحافظ عليها، بخاصة وأننا نقف أمام تيار العولمة الجارف. لكن في المقابل نجد العديد من التيارات العربية الأساسية والهامة التي بحثت في ظاهرة الثقافة ابتداءاً بالتيار القومي الذي يشعر بعدم الاستقرار وعدم تمكنه من تحقيق الحلم العربي، والأهداف العربية الكبرى، وكان هذا التيار قد سعى إلى دمج الظاهرة الثقافية بالهموم العربية، وما تعانيه من ضياع وعدم تماسك. كذلك التيار الليبرالي الذي يبحث في مجال التوفيقية معتبرين أنّ العولمة ظاهرة غير قابلة للتراجع، وهي الأسلوب الأقوى والأجدى للبقاء عالمياً. والتيار الماركسي الذي يسعى إلى محاولة الكشف عن أنساق الثقافة العولمية وعن نتائجها من خلال الإلتقاء مع اليسار الغربي الأمريكي ـ الأوروبي، فأتباعه ملتصقون دائماً بالنظم السياسية والاجتماعية، خلافاً لمنهج الليبراليون الجدد. أما التيار الإسلامي فقد دمج بين عالمية الإسلام والعولمة.
لقد ساهم النظام الثقافي العربي في إبعادنا نحن العرب عن دائرة المشاركة العملية في النظام الثقافي العالمي، وجعلنا أسرى الثقافة الإستهلاكية، حيث تم تحويل الثقافة التراثية العربية الغنية إلى قلاع حصينة كي لا تطالها عمليات التغيير العالمي، فبقيت محصَّنة ضمن أسوار التقليد والماضي السحيق. ومما لا شك فيه أنَّ أزمة الثقافة العربية بكل حمولاتها هي جزء لا يتجزأ من أزمة الدولة العربية. وهي مندرجةٌ بشكلٍ أو بآخر بالبنية الاجتماعية ـ الاقتصادية، فهي أزمة وعي، وأزمة فكر، فأزمة الفكر العربي هي ذاتها أزمة انعدام الفعل، مع أنَّ أزمة الثقافة العربية المعاصرة تتمثل بالخلل البنيوي الكبير الذي يربط العلاقة بين الوعي والفعل، وبين الوعي الغير مكتمل والفعل العاجز. بين التلفيقية والتوفيقية، وهي عملية متشابكة، تؤكِّد بالنهاية على عدم القدرة عن اتخاذ موقف حاسم. مع علمنا المسبق أنَّ أزمة الثقافة العربية هي جزءٌ لا يتجزأ من أزمة الحامل الاجتماعي لتلك الثقافة. بدءاً من أزمة تصدّع الطبقة الاجتماعية الوسطى التي حملت على عاتقها تجسيد فكرة النهضة العربية، تلتها مرحلة (البترودولار) التي ساهمت بتشكيل مجتمع غير منتج ، ولا يعرف سوى الاستهلاك المفرط. ومرحلة تشكّل الدولة الأمنية العربية الفاسدة والتي أفسدت المجتمع بكامله.
إنَّ المحاولات الساعية لإنقاذ ثقافتنا العربية والمحافظة بكل ما يمكننا فعله للحفاظ على هويتنا وخصوصيتنا، يتعلّق بالتنمية الشاملة وتوسيع مجالات الديمقراطية. وتفعيل قيم الحوار مع الآخر، والتعددية، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني الغير خاضعة لسيطرة الدولة، وإنشاء برامج ونظم تعليمية مفيدة دافعة للتقدم ورافضة لكل أشكال التخلف، وإطلاق العنان للطاقات المبدعة والخلّاقة كي تتمكن من التفكير والإبداع وتأخذ مكانها المناسب في المجتمع. ورفض الأمية والتخلص منها والعمل الجاد على المشاركة الشعبية الفاعلة، ورفض شمولية السياسات الثقافية المتبعة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى