فكر

هل سيتحقق حلم إقامة الولايات العربية المتحدة؟

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

عملية البحث عن مستقبل وطننا العربي وأجيالنا القادمة المثقفة، تتطلب جرأة في الكفاح والعمل الجاد والمنهجي في سبيل بناء ما يمكن تسميته بالولايات العربية المتحدة ، وذلك بعد أن تأطّرت حالة القطرية وتجسَّدت بعد العديد من قرارات التقسيم التي خصّت بلداننا العربية ، وعلى رأسها اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 م . هذا المشروع كان يندرج تحت عنوان القومية العربية ، ووحدة الوطن العربي السياسية والجغرافية ، والقومية والوطنية ، والثقافية والدينية . فقد عشقت أجيال تلك المرحلةِ في غمارِ خوضِها لِهذا المشروع ، الفكر الفلسفي الذي أكّدت الأمم الحيّة أنّه من أقوى الأسلحة وأمضاها في تجديد العزيمة والإيمان الكبيرين بقدرة الذات العربية الفردية والثقافية والتاريخية والحضارية على الإقبال على تحقيق هذا المصير ، ولهذا اعتبرته جيل القدر ، إنّ أهم الأحداث الاستقلالية الحقيقية في وطننا العربي كانت إبّان الوحدة السورية ـ المصرية، وهو الحدث الذي صنعته إرادة الشعبين بمعزلٍ عن الأجنبي الذي كان يفرض كلّ إملاءاتِهِ على العرب. مثلما كانَ في وضع الاستقلالات القطرية في السابق .ففي هذا الإطار من تداخل المخاضات الفكرية والسياسية والثقافية والمعرفية التي اعتبرت آنذاك إرهاصات ومقدمات بإمكان نجاح النهضة العربية الثانية. عبر النقاش والجدل بين النزعة القومية كمذهب فكري والنزعة القومية والسياسية، والفلسفة الوجودية، مؤمنين بوجوب العمل على إحياء الذات الحضارية العربية والتاريخية والوجودية كموقف فلسفي وفكري وثقافي يلزم بتحمل أعباء الحرية.

في تلك المرحلة كان الدافع الأوَّل هو التطلّع إلى الفلسفة من أجل حب المعرفة. وذلك لأنَّ معظم القراءات كانت كل ما أنتجه الفلاسفة الفاعلين والملتزمين بقضايا شعوبهم ومجتمعاتهم ودولهم وأممهم . كان ذلك متساوقاً مع وجود التيار الوجودي الكامل والشامل زمن الفيلسوف العالمي جان بول سارتر Jean-Paul Sartre) ) (21 حزيران 1950 ـ 15 نيسان 1980) الذي قاد حركة تحرير العقل الفرنسي بشكلٍ خاص ، ثم العقل الغربي بشكلٍ عام . وهكذا أصبح الفيلسوف جان بول سارتر لنا نحن العرب محرِّضاً حقيقياً على أن نتبيَّن ما هو واقعنا الذي نعيشه ونحن نلتزم بإيجاد حلول لمعظم قضاياه ، فقد قامت فلسفة سارتر التي ترتكز على تحقيق الوجود ، أي تحقيق وجودي عربي . وهذا الوجود لديه الإمكانيات والقدرات الكبيرة لذلك ، لذا كان لا بدّ لجيل ذلك الزمن من أن يعمل شيئاً يلتزم من خلاله بمبدأ الحرية الملزم لنا ، بمعنى آخر أنّ الحرية هنا ليست اختيار ، بل أنت مجبرٌ أن تكون حرّاً كي تتمكن من إثبات وجودك . فإذا لم تكن حرّاً لن تكون موجوداً ، لأنَّ مفهوم الحريِّة هنا يعني الالتزام . وهنا يبرز السؤال الهام : الإلتزام بماذا ؟ والجواب الالتزام بإمكانياتنا نحن العرب وقدراتنا . أي إنّ إمكانياتنا وقدراتنا تفهم كإمكانيات المجتمع الذي تعيش فيه بشكلٍ عام ، من خلال تلك الإمكانيات يتحقق وجودنا الصحيح والسليم . في ذلك الوقت كانت المرحلة تنقلنا من مرحلة الاستعمار والاحتلال البغيض المباشر إلى مرحلة بناء الدولة الوطنية الجديدة التي حصلت على استقلالها . فكان الشعور آنذاك أنّ مجتمعنا العربي يكتنز القدرات الهائلة والإمكانيات التي كانت ممنوعة على الشعب . وكان لا بدَّ من تفجير تلك الإمكانيات وتلك الطاقات الخلّاقة . لذا كان لا بدَّ من إعطاء الفرصة وإفساح المجال أمام شعبنا العربي لكي يبني وجوده الحقيقي مجدَّداً بأساليب عصريةٍ متطورة ، وبمفاهيم حديثة وعصرية جديدة . هذا هو المنطلق الأوَّل لاندفاعة جيل الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، لكن كانت هناك العديد من العقبات والحواجز والتحوّلات السياسية الفارقة ، فقد كانت الطموحات والأحلام والتفكير شيئ ، والعمل السياسي اليومي شيئ آخر ، لذا لم يتم بلوغ الحريّة كما كانت الطموحات ولم تتحقق عملياً.

في حقيقة الأمر اتبع الكثيرون آنذاك المذهب الوجودي الذي أرسى قواعده الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر وهو مذهب فردي لكنه يدعو إلى العمل الجماعي . لكن الوضع العربي في تلك المرحلة وحتى في مرحلة الأربعينيات من القرن الماضي شهدت العديد من الدول حالة بناء الدولة الوطنية ، أي دولة الاستقلال ، وهذا البناء اشترك فيه المواطنون على أنه عمل جماعي ، وساروا معاً باتجاه القومية العربية ، بمعنى آخر كانت هناك موائمة بين الوجودية السارترية والقومية .مع العلم أنّ الوجودية لا تطبَّق تطبيقاً منهجياً لأنها ليست منهج ، وهي في الأساس تطالب الإنسان بأن يكون هو نفسه لا أكثر . وعندما تم طرح تلك المسألة على مستوى اجتماعي ، فإنّ ذلك يدلّ على الأمة التي يجب أن تقدِّم ذاتها لا أكثر ، لأنها بحاجة لأن تتحرَّر مما هي عليه من عقابيل الاستعمار الكولونيالي المحصور في قضيتين إثنتين . وهذا يعني أن تتحرَّر من كل أشكال الطغيان . وأهمها نوعين : الأوّل طغيان استعماري تم التخلّص منه لكن تم مواجهة النوع الثاني وهو طغيان آخر هو التخلّف ، وهكذا وجد الشعب العربي نفسه متخلِّفاً عن العصر الذي يعيش في معظم شؤون الحياة اليومية للمواطن اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعمرانياً إلى آخره. من هنا كان من الضروري أن تبدأ رحلة البناء من الصفر . ومن أجل اتمام عملية البناء بأكمل وجه لا بدَّ من إتمام الحرّية السياسية ، لكنَّ خروج الإستعمار الأوروبي الكولينيالي فسح المجال سريعاً لدخول الاستعمار الصهيوني والأمريكي . واختلطت الأوراق ، وبدأ التلاعب بأنظمة الحكم والسلطة القائمة وجعلتها تابعة لها تسير وفق إرادتها في الخفاء ، وهكذا صار المفكر والمثقف النهضوي العربي في واد وأنظمة الحكم والسلطة في وادٍ آخر .

من هنا بدأت تبرز حالات من التناقض الذي تعمّق مع الزمن بين الفكر والثقافة والمعرفة، وبين الواقع السياسي الذي كان يخرج عن إرادة الأشخاص ، عن إرادة ما كان يطلق عليه آنذاك الطلائع التي قدّمت نفسها على إنها طلائع التقدّم والتطور والتحديث ، وأصبحنا نحن العرب نقع تحت طغيان الأنظمة واستبدادها بدلاً من طغيان الاستعمار الكولونيالي المباشر ، وطبعاً كانت الأنظمة عبارة عن إدارة تشتغل نيابة عن المستعِمر الذي خرج عسكرياً وإدارياً من البلاد تحت مسمى الاستقلال . لكنه يحاول أن يقنِّن تطور هذا المجتمع ويؤخِّر مسيرة نموِّه وتطوره . وذلك لأَّنَّ الأمة المتحرِّرة المستقلة كانت تخيف المستعمر وتعمل على التخلّص من عقابيله، فقد كانت الرؤى في تلك المرحلة تؤكّد على أنَّ هذه الأمة إذا ما اتحدت على جملة المبادئ ، وإذا ما توحّدت بهذه الكتلة البشرية الهائلة التي تعيش على مساحةٍ جغرافيةٍ واسعة بهذا المركز والثقل الجيو استراتيجي الذي تطلّ فيهِ على أهم البحار والمحيطات في العالم، وفيهِ أهم المعابر والممرَّات المائية مثل : مضيق جبل طارق ، وقناة السويس ، ومضيق باب المندب ، ومضيق هرمز، تلك البحار والمحيطات العالمية هي همزة الوصل ما بين أهم ثلاث قارات في العالم ، الآسيوية والأوروبية والإفريقية ويملك وطننا العربي إمكانيات وثروات باطنية هائلة من حديدٍ ونحاسٍ وفوسفات وغيرها من المعادن الثمينة، إضافةً إلى أننا نعيش فوق بحارٍ من النفط والغاز والثروات الهائلة . فإذا ما أتيح لهذه الأمة أن تستقل وأن تتضامن فيما بينها ليس فقط أن تتحد وتتوافق على عملٍ مشترك .. فإن ذلك سيعني أنّ الوحدة ستكون محققة من خلال التكامل الاقتصادي والحفاظ على الأمن المائي والأمن الاقتصادي والأمن العسكري والسياسي الاستراتيجي والاجتماعي والثقافي . وهذا يتطلّب إرادة جماعية . فقد كانت تلك القضايا صعبة التحقّق لكن تبقى حالة التضامن متواجدة أن كان يحكمها نظام وطني سليم وصحيح وحريص على البلاد وشعوبها وخيراتها ، لكن ما أن استقلت بلادنا حتى نشأت دولة الكيان الصهيوني في فلسطين كرأس حربة للرأسمالية العالمية هذا الكيان الغريب بدأ يؤدي دوراً وظيفياً كان الغرب الأوروبي ـ الأمريكي قد رسمه لهذا الكيان ، الهادف إلى عرقلة ومنع أي تنمنية أو تطور أو تحديث في بلداننا العربية . فعمل وما يزال يعمل على تكريس التباعد بين المشرق العربي والمغرب العربي . وبدأ يتوسّع على حساب الأرض العربية الفلسطينية وشعبها وخيراتها ونهب ثرواتها . فاحتلَّ الضفة الغربية وقطاع غزة ، والجولان وسيناء وجزء من الأردن في وادي عربة مستخدماً العديد من الأدوات التي في مقدمتها الاحتلال والاستيلاء على مزيد من أراضي الشعب الفلسطيني وقيامه بـ (التطبيع) مع العديد من الدول العربية بشكلٍ علني وإقامة علاقات اقتصادية وأمنية وعسكرية سرّية مع بعضها الآخر .

في هذا السياق نتساءل في ما إذا أرادت الأجيال العربية التفكير بالوحدة العربية ، هل هذا سيبقى تحقيق تلك الإرادة حلماً أم أنه سيتحقق يوماً ما ؟ .

لقد ساعد الفكر الفلسفي في مرحلةٍ ما على تجديد الايمان بقدرة الذات على اقتحام الصعاب ، والذات في هذا المقام يمكن تفسيرها سياسياً على أنّها المجتمع ذاته . ليست فقط الذات الواحدية الفردية ، بل هي ذات المجتمع ، بمعنى آخر هي ذات الأمة المستندة إلى تاريخها العريق المشترك ، ولغتها العربية الواحدة المشتركة ، وأرضها التي انبسطت عليها ارقى الحضارات الإنسانية ، وشهدت مهبط الرسالات السماوية ، والتي لها تاريخ وآمال وطموحات مستقبلية مشتركة.

فهل نشهد تجدداً لكل ذلك ؟ الجواب يكمن الأجيال القادمة وما يجول في عقلها ووجدانها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى