فكر

إشكالية سرد الحدث الديني أدبياً

علي جبار عطية| رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية

    تابعتُ في نحو خمس وستين دقيقة برنامجاً قديماً من أرشيف التلفزيون المصري يعود تاريخه إلى مطلع الستينيات يسمى بـ(نجمك المفضل) بُث على قناة (ماسبيرو زمان)، وهو برنامج تلفزيوني أسبوعي أعده الصحفي مفيد فوزي، وأخرجه سعيد عيادة وقدمته الإعلامية ليلى رستم وقد انطلق سنة 1963 وكان من أنجح البرامج التلفزيونية، وقد ضيَّف أبرز الأعلام على مدى ثلاث سنوات من عمره بمئة وخمسين حلقة منهم: إحسان عبد القدوس، ومصطفى أمين، وعلي أمين، وعبد الوارث عسر، ومحمد عبد الوهاب، وفاتن حمامة، وعمر الشريف،وأحمد رمزي، والملاكم محمد علي كلاي، وغيرهم.
    اللافت حقاً هو أنَّ كوكبة من رموز الثقافة العربية كانوا مشاركين في الحلقة المخصصة لطه حسين (1889م ـ 1973م)التي أعدها الكاتب أنيس منصور، وهم بحق أعلام الحقبة التنويرية الذهبية: الشاعر عبد الرحمن صدقي، وأستاذ الفلسفة الدكتور عبد الرحمن بدوي، والروائي يوسف السباعي، والكاتب والروائي ثروت أباظة، والأديب والصحفي أمين يوسف غراب، والشاعر والكاتب عبد الرحمن الشرقاوي، والكاتب نجيب محفوظ، والمفكر الدكتور محمود أمين العالم، والكاتب أنيس منصور، ونقيب الصحفيين المصريين ورئيس اتحاد الصحفيين العرب كامل زهير.. ترى كل هؤلاء أحياء يتكلمون!
   تقوم فكرة البرنامج على تضيّيف خمسة من الأعلام ليوجهوا لنجم الليلة أسئلة وتبث الحلقة على الهواء مباشرة لكنَّ حلقة طه حسين شارك فيها عشرة من الأدباء والمفكرين والصحفيين، وقد صورت وبثت من بيت المحتفى به في حي الهرم بمحافظة الجيزة، وليس من ستوديو مبنى الإذاعة والتلفزيون بمنطقة ماسبيرو بالقاهرة ! أكد طه حسين في هذه الحلقة النادرة التزامه بالمنهج الديكارتي، وتحدث عن أهمية اللغة العربية الفصحى التي يفهمها العرب من المحيط إلى الخليج مع جواز استخدام شيءٍ من العامية عند الاحتياج إليها حسب رأي الجاحظ، وأنَّ أبا العلاء المعري كتب شعراً فلسفياً؛ لأنَّه كان يفلسف الحياة في شعره، ولا يقول حِكَماً. كان من ضمن الآراء المثيرة التي طرحها طه حسين تتعلق بتناوله للحدث الديني إذ ذكر رأياً مفاده أنَّه حين يكتب يبدأ من الخيال وينتهي إلى التاريخ، وضرب مثلاً بكتابه (الوعد الحق)/1949 وقصة (بلال مؤذن الرسول) فقد تخيل أنَّ أم بلال (حمامة) كانت أميرةً حبشيةً جاءت مع جيش إبرهة الحبشي إلى مكة ثمَّ وقعت في الأسر، وقد أعجب بها شخص يُدعى (رباح) فتزوجها وأنجبت بلالاً! وهي قصة افتراضية ملفقة من عنده لا أصل لها! بهذا الصدد عدتُ إلى رأي للناقد الدكتور محمد عناني (1939م ـ 2023م) في كتاب (الوعد الحق) الذي يقول: إنَّ عميد الأدب العربي طه حسين عمد إلى تقديم طرف من تاريخ الإسلام في القرن الأول للهجرة، من منظور إنساني رحيب،مشيراً إلى أنَّ (الوعد الحق) ليس عملاً روائياً، وإنّما هو صياغة لقطاع من التاريخ بأسلوب قصصي ينحو نحو الدرامية حيناً، وذلك حين يصور الصراع في نفس الفرد بين المعتقدات القديمة والدين الجديد، أو المحاورات بين المشركين والمؤمنين، أو أحداثاً تاريخية مثل محاولة أبرهة الحبشي ملك الحبشة هدم الكعبة المشرفة وإحباط محاولته، وقدم هذه المواقف كلها بقلم الأديب الفنان، والباحث التاريخي المدقق.
المثير للدهشة أنَّ الفرضية التي اعتمدها طه حسين في تناوله لقصة بلال مؤذن الرسول بكون أمه أميرة حبشية أسيرة عُدت من المسلمات، وقد جُسدت في فلم سينمائي بعنوانين هو [ظهور الإسلام (الوعد الحق)]/1951 للمخرج إبراهيم عز الدين، وقام ببطولة الفلم: كوكا، وعماد حمدي، وعباس فارس، وسراج منير.
الفرضية المطروحة في القصة التي اعتمدها الفلم، وحاول أن يقنع بها المشاهد تدل على التأثير الكبير للسينما لكنها تشير إلى مسألة غايةً في الأهمية ألا وهي إشكالية تناول الحدث الديني من وجهة نظر أدبية، وهل يملك الكاتب هامش حرية يمكنه من التصرف بالحدث الديني باجتهاد شخصي، أو بذريعة الضرورة الدرامية، وما حدود هذا التصرف، وما الذي يتبقى له من مصداقية إذا كانت غايته من توظيف الخيال هي أن يكون متقناً في نصه الأدبي على حساب الحدث الحقيقي الذي جرى؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى