أدب

تأملات في ديوان (تجاعيد الماء) للشاعر مهدي القريشي

تقسيم منفرد على مقام الماء

بقلم: ناظم ناصر القريشي

     الماءُ مطلقُ في ذاتهِ وحر يحمل سر الحياة، وهو يتوافق مع مفهوم الارتواء، و لغته هي لغة الحياة؛ والشعر يماثله في مطلقه، وفعله فعل الماء في الاشياء بعنفوانه وتمرده وحيويته التي لا تتقيد بزمنه، فهو لا يعبر عن الشعور بلحظة ما بل هو شعر مضارع مستمر وبامتدادات اخرى، فأول الحضور للكلمات، وحتى آخر الكلام بعد اكتمال المعنى، سنجد أن اهم محاور ديوان (تجاعيد الماء) للشاعر مهدي القريشي والصادر عن دار الروسم للصحافة والنشر والتوزيع، هو قلقه من الحياة، وهذا يشكل الصراع بين أحتجاج وتمرد الذات الشاعرة في بحثها الدائم عن الخلاص واستعادة الحياة يصاحبها رغبة حقيقية في تغيير الواقع نحو الافضل، مصحوبة بوعي هذا التغيير نفسه، فيكتب بدلاً من الإهداء:

لعنة…
على اللاهثين صوب إغواءات الفرجة
على مروجي (حكمة) نهاية سعادتنا: الموت
على جذورٍ تلبط في نفايات مقدسة
على الواقفين بظل حائط آيل على ظل الله
على خمر لا يسكر
على نساء متشحات بفتاوٍ تتكسر عطشاً
على أحلام تتشبث بصفاتها
اللعنة…
عليَّ لعدم إجادتي أبجدية هذا الزمن
فاندحاري كحماقاتي بليغ

التكعيبية وتوابعها خارج اللوحة
     من بداية الفكرة في قصيدة (القلق في محنته) إلى تجسيدها في قصيدة (جسد منشطر) إنموذجاً… من الممكن أن نُحيل القلق إلى لوحةٍ تكعيبيةٍ على اعتباره فكرة رجاجة بإحتمالاتٍ متعددة وأيضاً بتأويلاتٍ متعددةٍ، في إدراك لقيمته وجمالياته هذا التشكيل الشعري وتأثيره على المتلقي علينا أن نتتبع ما تسعى اليه الصورة في ان تكون مطابقة للفكرة وامتداداتها الكثيرة وفي ابتعادها واقترابها منها وتضادها معها ايضا, فسنجد أن الصورة فيه قد تجاوزت وظيفتها التعبيرية، لتتألق وتشكل عملاً فنياً، لتتحول الكلمة داخلها لمفردة شكلية تبدو أكثر حرية وهي تنزلق في المعنى وتتخذ تنويعات عدة لتصبح في النهاية جزءاً من التشكيل البصري للقصيدة، فالشاعر يسكنه هاجس في أن يحتوي ذاته ويرى أفكاره. وهي تتشكل في صور عبر أبعاد الزمن الثلاثة، فكل شيء حي ويتحرك ويتشكل ويتلون وتتعدد صوره الذهنية، التي سعت لضبط ايقاعها ضمن توليف متناغم وشاهق، وفتنتها تكمن في أنها تعبر عن الشيء، وما ينبغي أن يكون عليه فيقول في قصيدة (القلقُ في محنتهِ):
لطفاً أيها القلقُ
ماذا دهاكَ
تسيرُ في شوارعِنا
بخشوعِ ناسكٍ
وتشرب من ينبوعِ اللذة
وتشير إلى جثثِنا المعلقة
وهي تتصببُ خجلاً
لأن جماجمَنا لاتصلحُ أوعيةً للحساءِ.
  التكعيبية برأيي هي ليست انشطار الافكار وتأويلها بقدر ما هي تأسس لتلك الأفكار، هي وضدها وهما الأثنان معا، الشيء ونقيضه، أحدهما يعبر عن ذات الاخر بقدر ما يعبر عن ذاته هو، فيقول في قصيدة (جسد منشطر):

أخرج للشارع برجلٍ واحدةٍ
وعينٍ واحدةٍ
وأحتار أي اليدين أدخرهما
باليمنى أشطبُ على خياناتي
وباليسرى أمسحُ مؤخرتي..
اليمنى أعقلها بالمكوثِ في زيتونةِ الصواب
واستعطفُ اليسرى أن تمسدَ فخذيها
وتتشمّم وادياً غَير ذي زرع.
باليمنى أبني بيوتَ اليقين
وتتلقف اليسرى مايتساقطُ من الظنِّ.

الانطباعية في الشعر
عندما ابتكر الفنان الفرنسي كلود مونيه أسلوبه الانطباعي حاول أن ينقل الواقع إلى ما يشبه الحلم فحاول أن يضيف عليه كثيراً فرسم لوحاته بالضوء والألوان، وفي فن الشعر ليس من السهل ان تجعل من الكلمات لوحة ألوان (باليت) ترسم شعراً، الإن الشاعر مهدي القريشي حاول فعل التشكيل الشعري في قصيدة (تجاعيد الماء) ففي مفتتحها نجد أن الشاعر يرسم لوحة انطباعية بلغة شعرية لنهر الغراف، والانطباعية هي منطقه وسطى ما بين الواقع والحلم، وهي برأيي ابعد من فكرة لوحة (انطباع شروق الشمس)لمونيه فهي اقرب منها الى التأمل في اقاصيه البعيدة، لذا كانت (موتيفات) أو الفكرة الرئيسية لقصيدته (تجاعيد الماء) والتي عنون ديوانه بها, هو الواقع الذي ينتظم على شكل حلم، لذلك تتآلف الصور وتنتظم في تشكيل هذا النسق وهذا ما ابتكره الشاعر وأبدع فيه وجعل من زمنها زمن مطلق فليست هناك فواصل زمانيه أو مكانيه تحدد العلاقة بين الأشياء، فهي ما تزال تبدو وكأنها منبعثة لتوها من روح الشعر ،وتبدو أنها ستعيد تشكيل صور التكوين الشعري وعلاقته بشكل الحياة بأكملها في القصيدة وجعلها بقدر ما تشابه أسلوب النهر وجريانه وتكيفه مع الطبيعة، وهنا النهر يتجلى في الكلمات معبرا عن فكرة الحياة في تجلياتها الإنسانية، وسترافقنا ايضا موسيقى الماء على مقام الرست بامتداداته الطويلة التي تعبر عن الاشتياق، ثم ينتقل، وفي تناغم تام، إلى مقام الصبا بإيقاعاته التي تعبر عن لهفة الوصول لتقارب المسافات الزمنية بين النغمات وتلاحقها كأنما تتبع الموجات، وكأن الشاعر يجري حوار بين الماء والضوء والكلمات فيقول في قصيدة (نزهة فوق نهر الغراف): (نزهة فوق نهر الغراف).

أسماك البُني والشبوط تستمتع بدفء مياه الغراف. لا شباك تتنزه ولا سنارة تأكل جرف الشط، ولا لصوص! الكل فصوص ألماز.
الغراف يقسم المدينة كالفسطاط ويحضنها كفم يرضع ثدياً! سمّي غرافاً لأنه يغرف من بطنه ماء للعطشى لحظة يجف التين ويخرس البلبل وتميل المآذن نحو وصايا الأزمنة الجافة.
ذاك الصوب ممتلئ بالنخل والقرويات وهذا الصوب متخم بالشعر وأغصان الزيتون.
تقول أمي: الشمس، حين تعبر (ذاك الصوب)، وبعد أن تُلمع جدائلها، تتسلق جدران الرغبة لتحيي قبة الإمام والإمام يوصيها أن تشرق في الغد.. فهذا بلد إن لم تتخم فيه الشمس بشهوة الثلج تموت عصافير الحب وتتيبس أبواب الفقراء ويعطش حتى النهر…
ثم بعد ذلك يبدأ الشاعر في تدوين تاريخاً شعرياً لمدينته، فيجعل من الزمان والمكان شيء رائع يمكن قراءته على اعتباره فكرة، ثم يذهب إلى أبعد من ذلك في تدوين التاريخ شعرياً للشخوص الذين تأثر بهم, فهو لا يقدم سيرة سردية لحياتهم بقدر ما يستلهمها ويقدم روحها ورؤيته لها، لذا حاول انشاء اساطير يدونها على صفحة الماء وعلى ورق القصيدة ثم يبثها بعد ذلك نغمات من ماء وكلمات في الهواء
والناظر الى تجربة الشاعر مهدي القريشي في ديوانه (تجاعيد الماء) سيجد أنه اقترب من فعل التشكيل الشعري محاكاة واستجابات للقيم الفنية والجمالية والأسلوبية، وسنجد أنه كان يسعى إلى التمثل بقواعد التشكيل، وإلى توليد قيم مقابلة له في فن الشعر، فالشاعر جعلنا نستمع إلى نبرة الألوان وموسيقى الضوء والماء، فهو يرسم شعراً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى