سياسة

لم يعد الفلسطيني مطالباً بحسن النوايا!

سهيل كيوان | فلسطين

أخطر ما حدث للفلسطينيين في نكبتهم، هو نجاح الحركة الصهيونية، ثم دولة إسرائيل بعد تشكّلها، في ارتداء جلد الضحية، في مواجهة بحر من الظلام يرفض يدها الممدودة بلطف ومحبة إلى السّلام والبناء المشترك والخير للجميع، وقد عبّر محمود درويش عن ذلك بإيجاز شديد بعد مجازر صبرا وشاتيلا، «سَرقت دموعنا يا ذئب، تقتلني وتسرق جثتي وتبيعها، اخرج قليلا من دمي، كي يراك الليل أكثر حلكة، وكي نمشي لمائدة التفاوض واضحين كما الحقيقة، قاتلاً يدلي بسكين وقتلى يدلون بالأسماء».
نجحت الحركة الصهيونية في تحميل الفلسطينيين وِزر نكبتهم، بزعم رفضهم السلام بدءاً من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 حول تقسيم فلسطين، الذي صدر عام 1947، وكان هذا لسان حال الدول الاستعمارية، لأن مشروع التقسيم هو أصلا بريطاني – أمريكي. هذا الالتباس انطلى أيضا على قلّة من العرب، ولكن الجمهور العربي الذي تبنّى هذه الفكرة ازداد مع طول أمد الصراع، بل إنّ هناك فلسطينيين ما زالوا يردّدون هذا الهراء بأنّه لو قبلنا بقرار التقسيم، لما حدثت النكبة! ولكانت إسرائيل الآن محصورة على الساحل بين حيفا وتل أبيب ومعها مرج ابن عامر ومنطقة صفد في الجليل فقط، وننعم نحن بدولتنا المستقلة.
بمناسبة ذكرى قيام دولة إسرائيل ونكبة الفلسطينيين تُنشر مقالات في الصحافة العبرية، معظمها تتحدّث عن رفض العرب ليد السّلام الممدودة.
لكن الواقع أن الفلسطينيين ومعهم العرب رضوا بدولة على مساحة 21% فقط من فلسطين التاريخية، أي في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية وبقيادة المرحوم ياسر عرفات، وبدعم عربي وفلسطيني واسع. في كل يوم وساعة يثبت قادة إسرائيل بمختلف أطيافهم، بعضهم بوضوح والبعض بمناورات إعلامية وتكتيكية، بأن السّلام الذي يتباكون عليه لا يعني سوى حرمان الفلسطينيين من حق تقرير مصيرهم، وأن ضمان الحياة لإسرائيل وشعبها بسلام وأمان ليس هو شاغلهم، بل ضمان مواصلة توسّعها وفق المشروع الأصلي، وهو أن دولة إسرائيل يجب أن تكون على «أرض إسرائيل الكاملة»، مع تعديلات طفيفة لدى بعضهم، هذا يؤكّد للمرة الألف أن قبول قرار 1947 من قبل الحركة الصهيونية كان البداية في تنفيذ المشروع، وليس نهايته، ورفض العرب للقرار كان ذريعة لاجتياح الجزء المخصص للدولة الفلسطينية، ولو قبِل الفلسطينيون به، لوجدوا ألف ذريعة لشن العدوان واحتلال الأرض، والدليل القاطع هو مسلسل العدوان الذي تواصل في ما بعد النكبة حتى يومنا هذا.
الواقع يثبت أن العرب كانوا وما زالوا مستعدين للسّلام في مختلف المراحل من عمر الصراع، خصوصاً بعد حرب حزيران/يونيو، إذ تمسكوا بقرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر بعد حرب يونيو ، وقرار مجلس الأمن 338 بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر الذي يستند إلى ما سبقه، ثم إعلانهم التمسّك بقرارات الشرعية الدولية في مؤتمر قمة القاهرة «غير العادي» عام 1996، ثم إعلانهم من مؤتمر مدريد عام 1991 مقولة «الأرض مقابل السلام»، ثم توقيع اتفاقات أوسلو 1993، ثم إطلاق مبادرة السلام العربية عام 2002 من قمة بيروت، التي تعاملت معها قيادات إسرائيل بتسريع عمليات الاستيطان ونهب الأرض. ارتداء جلد الضحية أصبح مبتذلاً جداً، ولا يصدّقه سوى من هم أشد عداءً للعرب من الحركة الصهيونية ذاتها، وبعض الجهلة من العرب الذين يقرأون التاريخ من آلة الدعاية الصهيونية، ويتأثّرون بها، بعضهم بالفعل بحسن نية وجهل وسذاجة، والبعض بسوء نية، وهم أولئك المستفيدون من هذا التهريج المُريح، الذي يحمّل العرب والفلسطينيين مسؤولية النكبة المستمرة حتى يومنا.
لقد تنازل الفلسطينيون بتشجيع عربي، حتى صاروا يتوسّلون العودة إلى مائدة التفاوض، «لإثبات حسن النوايا»، بينما تعلن الأحزاب الحاكمة في إسرائيل نيّتها بوضوح بدرجات مختلفة من الحدّة، بـأنَّها لن تسمح بإقامة كيان فلسطيني مستقل بين البحر والنهر. هناك مواد تعليمية تقرّها وزارة المعارف الإسرائيلية إلى مناهج المدارس الدينية، بأنّه «لا حقّ لغير اليهود في أرض إسرائيل التاريخية كلها، بل إنه بالإمكان طرد غير اليهود من أرض إسرائيل». لم يعد الفلسطيني مطالباً بإثبات حسن النوايا كما كان سائداً منذ بداية الصراع، بل صار مطالباً بالهجرة الاختيارية، أو تحمّل العواقب الخطيرة في خيار تمسُّكه بالبقاء في وطنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى