أدب

تأملات في ديوان (أصابع المطر) للشاعر حبيب السامر

عندما ترتدي الكلمات وجه المطر

بقلم: ناظم ناصر القريشي

حين تلامسك أصابع المطر وأنت تتجول في القصيدة وصولا الى غيمات الديون التي تنث مطر تنفتح الأسئلة على فضاء رحب كيف لنثار الحبر أن يحتوي هذا الفضاء ويرتقي ليتحول الى قطرات مطر ثم أصابع تدون القصيدة التي تشبه المطر ففي قصيدة عصا الخرنوب يحيلنا الشاعر الى فن الرسم بالكلمات نجد أن الزمن متحرك عبر اللوحة في الكلمات والمطر الذي سيأتي بعد حين ليشكل الألوان والفرشاة وربما الأصابع التي سترسم على سياجِ مقبرة الانكليز تتعانق أَغصان الخرنوب و في الطرِيقِِِ إلى مدرسة الرباط يحشر التلاميذ أَجسادهم بين القبور التلميذ الهارب من الدرس الأول يسرق زهرته الأولى من المقبرة الحارس يقظ يطلق صيحة، الخرنوب العالق بقمصانهم البيض يرسم آثَار فَوضاهم خطوطا على أَجسادهم الغضة يسرقهم النهار وهم يتلذذون بقَطف الأَزهار سيأتي المطر ليترك ملامحه ليس على الوجوه و أنما على بياض الورقة وسنلمس تلك الملامح ونحن ننظر اليها لنرى أن شبح فان كوخ قد مر من هنا تارك أفكاره في قلب القصيدة فنلمح اثر الخرنوب على الملابس والزهور الجميلة تتشبث بالحضور رغم أن شواهد القبور تعلن غياب الأحلام وتتجمل بالنسيان وفي نهاية اللوحة قبل أن تذوب في ضباب الذاكرة نعرف كيف رسم الشاعر الكلمات والموسيقى والزمن في إيقاعات روحية تعادل شعور الخرنوب بالحسرة التي تركتها الأزهار الذابلة قبل أن تجد أصابع غضة تقطفها في صباحات جديدة حين كبرنا في كل صباح نمر لا ورد في المقبرة لا حارس في المقبرة حتى الموتى لا ورد يؤنس وحشتهم لا حارس يسقي صبارات نمت على قبورهم التلاميذ لا يحشرون أجسادهم هناك تلاشى السياج، تهدمت القبور وظل الخرنوب وحده يعانق ظلال المقبرة. وهكذا نجد أنفسنا كنا في القصيدة ذات المكان فنحن كنا التلاميذ الصغار في المقبرة -المكان -والحارس –الزمان- وقطف الأزهار اللحظات السعيدة ونرى اللوحة كل اللوحة التي رسمها الشاعر أصبحت ذكرى إلا الكلمات وفي قصيدة بوح في لجة الكلام يكتب الشاعر سيمفونية الصمت وللصمت أكثر من أبجدية أولها التأمل وثانيها السؤال لتنفتح اللحظة على زمن مطلق زمن آخر ابعد مما تعنيه الكلمات ذاتها كالنظر خلف المرآة هنا الموسيقى تأخذ شكل اللحظة في اللوحة وشكل الكلمات كما أراد لها فنرها هادئة بالذهاب نحو الذات تتغلغل في أعماقنا الشاعر يعرف هذا في لحظة تأمله وهيامه مفتونا بما يبدع لكنها تثور وتنفعل وهي تتأجج في الفكرة قريبة من شواطئ القصيدة تترك ملامحها على رمل الشاطئ لتمحو فيها أثار الريح وأثار الندم التي قد نخطوها خارج اللحظة محاولين ان نكسر الانتظار لحلم أو امرأة تخرج من هذا الحلم في زمن خامل عانق السراب طويلا وفي قصيدة أصابع المطر نجد الكلمات طفلا يعدو في البراري يبحث عن زهرة تتفتح وتنطق بالدهشة تحت المطر تلغي كل الغياب حتى الصمت الذي يفصل بين الحلم واللحظة لذا تطل علينا الشرفات بإيقاعات الحروف كتساقط قطرات المطر فتعلن اللهفة موسيقى الاشتياق فيتحد الشاعر مع كلماته فيصيح الصوت والصدى والحنين فيتسامى مع المعاني في هذيان كالتأمل في قضاء شاسع كم أَحتاج إليك الليلة لأدون خسارات مواسمي الأَبدية من غير أَجنحة خجلة في جموح المرايا. الشاعر حبيب السامر يرى نفسه في القصيدة يرسم ملامح وجه بالكلمات.

وحينما ينثر ذاته فوق بياض الورقة يجعل الصمت يلهث خلف الكلمات فيحاور الشاعر روحه كأنه يتكلم مع الأخر ويحاور المطر كأنه يتكلم مع نفسه ثم يلملم نثار روحه والمطر في قصيدة فلا اشتراطات لديه في الشعر لأنه أوسع من الحلم فهو يشير الى جميع الاتجاهات في آن واحد من مساماتي تخرج أَبخرة سأغرق سفائن لجتك صوت يخترق زحمةَ اللحظة إرتعاشة الجسد ـ لا اخلع قناعك !! ديوان أصابع المطر بما احتواه من قصائد تعبر عن معنى الشعر الحقيقي وتشير الى ينابيع الكلمات الصافي مزج فيه الشاعر ببراعة بين الرسم والموسيقى كأنما أصابع المطر ترسم الوجدان وتعزف بروحانية الطبيعة أن الشاعر حبيب السامر في ديوانه أصابع المطر جمع بين وضوح الرؤية من خلال وحدة الموضوع في القصيدة والسعي الدؤوب إلى ابتكار حلول جمالية تتجسد فيها رؤيته بخلق صور شعرية وتحميلها بمعاني دلالية وتعبيرية تتناسب مع فكره الخلاق وخياله الابداعي الذي انبثق من بيئته وعبر عنها أحسن تعبير وأضاف أليها الشيء الكثير فقد استخدام في ذلك أساليب عديدة منها توظيف تقنيات المسرح كالحوار في قصيدة (بوح في لجة الكلام) وتعدد الأصوات في قصيدة (غربال) قدرته الفائقة على مزج الصوت والصورة وجعل الصورة في حيان كثيرة تعمل عمل الإيقاعات الروحية وهذه ميزة يمتاز بها السامر واعتقد هو متفرد بهذا الأسلوب الذي ترافقه الدهشة في كل ثنايا الديوان وتظل قدرته الآسرة على الإمساك بلحظته الشعرية وتحويل ما هو مألوف الى لغة شعرية وهذا ينبع من كونه شاعرا ملهماً وقادر على إدراك المنطق الشعري للعلاقات بين الأشياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى