مقال

قراءة في كتاب (تقنيات السرد في روايات عبد الزهرة عمارة)لـ د. مصطفى لطيف عارف

بقلم: عقيل هاشم

    تأخذني الكتابة عن ما يقدمه الدكتور مصطفى العارف بالإعجاب والمثابرة الدؤوبة, من كتب ومقالات أدبية ونقدية يراد منها التوسل بالمعرفة والإبداع , وان الإبداع إلى الكتابة عن الكتابة، وبالطبع الإبداع الأدبي هو العنوان الأبرز للكتابة, كون الكتابة هي الإقامة في الكتابة..
    إذن الكتابة عن الدكتور مصطفى العارف وما يقدمه هو خيار إبداعي، ومصير، وسلوك، والكتابة هي الشعور بالامتلاء والثقة، واستعمال القلب والعقل معاً في معادلة إنسانية حضارية تحيل إلى الإشباع والجرأة والنبل وشكل من أشكال الرقي، بل، الكتابة سفر في الأمكنة وفي البشر وفي الحضارات بعيداً من التقوقع في ذات نرجسية فحسب.


إذن الكتابة عند الدكتور العارف هي فعل عن كاتب وباحث مبدع كما أشرت من قبل، وموهبة أخذها على محمل الجد، فالحروف أرواح لها طاقاتها الخاصة بها، ومن غير المعقول، تحويلها إلى مخلوقات مشوهة. وكذلك على من يمتهن الكتابة وجب عليه أن يضيف شيئاً من الجمال والنور لهذا العالم كونها تخرج من الأعماق، وتمتلأ بالمعارف، لذا يحرص الكاتب الدكتور العارف على أن يقدم شيئا جديدا ومغايرا للسائد، وهكذا، عندما يقال «كاتب وأكاديمي مبدع» بمعنى انه في اختصاصه متفوق وحاصل على التميز من اقرانه ومن الوسط الذي يعمل فيه ولا يشغله عنهما شاغل، هاجسه الكتابة أولا وأخر.
الدكتور مصطفى أستاذ أكاديمي متخصص في السرديات الحديثة ، له عدد غير قليل من الكتب ، طوّف فيها المكتبات والصحف والمواقع الإلكترونية، ترجم ما تعلمه إلى معارف النقد ومناهجه الحداثوية , حاول ومن خلالها ان يبث معارفه في مناهج شتى، وكل هذه الأفكار قد ضمّنها صراحة في فصول كتبه ، واللافت أن الدكتور مصطفى ، على قدر واسع من العلمية نتلمس ذلك الاهتمام والذي أبداه واضحاً في كتاباته ومقالاته في أجناس متنوعة من السرد والشعر والمسرح والتشكيل ، وقد رأيناه قد مارس الكتابة الأدبية في مؤلفاته القصصية وقد اصدر العديد من تلك المجاميع وكانت على قدر كبير من التقبل والاستحسان والدراسة..
    هكذا بدا لنا عالم الدكتور مصطفى ناقدا وساردا, فقد شهدنا قدرة كاتبها على رسم باقات أدبية مبهجة، قلما تجتمع عند أديب بنفس الجودة والأهمية,فما أسعدنا أن نقدم ونستعرض انجازاته الأدبية كونه علماً من أعلام الكتابة الأدبية والنقدية.
في كتابه قيد العرض والدراسة: (تقنيات السرد في روايات عبد الزهرة عمارة) تكلم الدكتور مصطفى العارف بإسهاب عن الأديب عبد الزهرة عمارة- حياته واشتغالاته السردية وتتبع أثاره الفنية والجمالية ,وفي مقدمة الكتاب قال: مع التطور الذي شملَ مختلف أشكال الأدب والفنون، دخلت إلى السرد الروائي الكثير من التقنيات الحديثة التي تتوافق مع المجتمعات الحديثة والتطورات السريعة التي تعيشها البشرية، كالخروج على كل ما هو مألوف وتقليدي كما حدث في الشعر، وقد فرَّق بين السرد التقليدي والحديث من خلال التفريق بين رواية القراءة ورواية الكتابة، إذ اعتبر أنَّ رواية القراءة التي كانت سهلة لا تحتاج لجهد كبير من القارئ وهي تصاعدية في أحداثها، أما رواية الكتابة فهي رواية السرد الحديث وهي التي يقوم فيها الكاتب ببذل جهد عظيم لبناء هندستها وتعقيدها، وبالتالي فهي تتطلب جهدًا كبيرًا من القارئ كذلك لأنه يصبح شريكًا في تحديد ملامح الرواية وجمع ما تناثر منها وفيما يأتي سيتمُّ إدراج بعض من أهم تقنيات السرد الحديثة:
العمل على توظيف مختلف أنواع الفنون الحديثة في السرد كالفنون التشكيلية والسيَر الذاتية. الخروج على ملامح السرد التقليدي فيما يخصُ هدوءه وإتباع أسلوب التساؤلات فيما يتعلق بالنسق والمتن في الخطاب واللغة. الابتعاد عن طريقة السرد النمطية التي تتركز حول أحادية الصوت وتحويل الأمكنة والأزمنة إلى مجالات يتداخل بعضها مع بعض، والعمل على تعدد في الأصوات المتكلمة في الرواية والقصة ما أدى إلى تعدد لغوي في النص. الاعتماد على أشكال جديدة في السرد مختلفة عن السابق، مثل انتحال شخصيات تاريخية أو حيوانات. استلهام كثير من الأحداث من الحكايات والقصص الشعبية والأساطير والحكايات الخرافية والواقع أيضًا، وإعادة صياغة ذلك الموروث بطريقة فريدة حديثة ولغة فصيحة في أطر سردية مختلفة. العمل على إيجاد أماكن وملامح واضحة لأبعاد الفلسفة والمعرفة داخل النص. الخروج على التسلسل المنطقي للأحداث وعلى هندسة وتخطيط الرواية التقليدية باتجاه التشعب والعشوائية، ما يؤدي إلى تدمير الحبكة بمنطقها، وهذا ما يؤدي أيضًا إلى إثارة عواصف التساؤلات في ذهن القارئ .
يتضمن الكتاب دراسة المنهج السيميائي تاريخيا والتطرق إلى مفهوم سيميائية العتبات النصية وسيميائية العتبات النصية والوسائط المتعددة والتحليل النقدي للخطاب اللغوي متعدد الوسائط كل هذا في سيميائية العتبات النصية.
محتويات الكتاب :
الإهداء- المقدمة –التمهيد- تقنية الاستهلال في رواية “في انتظار القمر”-تقنية التصدير في رواية”أعشقك حتى أخر العمر”-تقنية الرؤية السردية في رواية “بغداد لا تنام”- السير ذاتي /غيري في رواية “شقراء البصرة- أهم النتائج-
عن العتبات النصية
بعد الإهداء والمقدمة تحدث الدكتور العارف:
تشکل العتبات النصية مفاتيح إجرائية فاعلة للولوج في فضاء النص، والتأثير في متلقيه، ويقصد بالعتبات النصية النصوص المصاحبة للنص الأدبي، مثل: العنوان، والتصدير والإهداء، والتقديم، وغيرها، ويشمل ذلك أيضاً الإخراج الفني للنص الأدبي مثل صورة الغلاف وطريقة كتابة اسم المؤلف وعنوان العمل الأدبي، وغير ذلك، مما هو خارج النص الأدبي.
ويعد الاهتمام بدراسة العتبات النصية المصاحبة للنص الأصلي حديثا نسبياً، ويعد جيرار جينيت أشهر من اهتم بدراسة العتبات من المناصات، النص الموازي، محيط النص الخارجي، الملحقات النصية، الموازية النصية، الموازي النصي.
وان العتبات هي أكثر شهرة بالنقد الأدبي التطبيقي الحديث ، ولما له من دلالة على عتبة الباب التي يُدخل منها إلى فنائه، وكذلك هذه النصوص المصاحبة للنص يمكن من خلالها الدخول إلى عوالم النص.
وان دراسة عتبات النص في روايات الكاتب عبد الزهرة عمارة قد حفزت الدكتور لدراسة النصوص حسب المنهج السيميائي، للوقوف على طبيعة استثمار الكاتب للعتبات النصية في التعبير عن تجاربه، ويهدف الكتاب أيضاً للإجابة عن جملة من الأسئلة التمهيدية، وما الدور الذي تضطلع به العتبات في الرواية؟ وهل تمتلك جميع المفاتيح الممکنة لقراءة النصوص وفهمها,فان منهج التحليل السيميائي، هو المنهج الذي اعتمده الدكتور العارف منهجاً لدراسة رواياته، من خلال الحديث عن مفهوم العتبات، وأنواعها المتمثلة في العنوان، الغلاف، والإهداء ، والمقدمة، وصورة الغلاف .ويتصل مصطلح العتبات بمصطلحات بنية النصّ الأدبي، وهو ينتمي إلى زمرة المصطلحات التي نشأت عن سياق البحث في نظرية التناص والسيميائية.
ولقد حفز هذا الهدف دراسات الخطاب متعدد الوسائط والنقدي في التقليد السيميائي الاجتماعي فضلا عن الجهود الحديثة للجمع بين الاثنين واستكشاف الدور الذي تلعبه الموارد السيميائية غير اللفظية وتفاعلها مع اللغة ومع بعضها البعض في إنشاء وإدامة أو تحدي التقسيمات الاجتماعية والأعراف والصور النمطية.

تقنية الاستهلال في رواية “في انتظار القمر”
وفي الفصل الأول تحدث الدكتور العارف عن مفهوم الاستهلال:
العمل الأدبي والفائدة والغاية منه وقال: الاستهلال هو أول وحدة لغوية مكتملة المعني تحتوي على فكرة كاملة تقابل القارئ في متن العمل السردي، سواءً كان رواية أو قصة قصيرة.وقد اكتسح الاستهلال الرواية الجديدة باعتبارها شكلاً من أشكال البحث، تعمل على خلخلة أفق المتلقي وخاصة حينما كسرت القواعد الكلاسيكية، ومن بين التقنيات المستعملة في تجاوز الرواية التقليدية. تقنية الاستهلال التي أصبح يعتمدها الكتاب الجدد لتساعد المتلقي منذ البداية على الأقل للقبض على خيط السرد داخل الرواية، أو أنه ينير الطريق أمام القارئ، كما أنه قد يخلخل رؤية القارئ. ومن المعروف كذلك أن الكاتب يضع سِرّ كتابه في هذه الاستهلالات مع النصوص اللاحقة، إذ يعتبر الاستهلال بمثابة مستوى من مستويات القراءة والولوج إلى عالم الرواية، ومنه فإن »البحث الجاد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين كل المستويات لأن النص وحدة متلاحمة، وفي مرحلة تالية يجب الإجابة عن السؤال كيف يحقق الراوي الانتقال من مستوى إلى مستوى آخر.
كما أن المتلقي مطالب بالوقوف على هذه الاستهلالات وتأملها واستقراء دلالاتها، وهذا نظراً لتنوعها، إذ »الجاري به العمل في الاستهلال أن يكون من طرف الكاتب الواقعي أو الافتراضي للنص وهذا هو الأصل، وإما أن يكون من طرف شخص واقعي أو متخيّل يوكل لهما الكاتب هذه المهمة ومنه نجد أن هناك “الاستهلال الواقعي”، الذي يكون فيه المستهل شخصاً واقعياً، مثل الكاتب أو من طرف أصدقائه. كما أن هناك “الاستهلال التخييلي” والذي تقوم به شخصية تخييلية يسند لها الكاتب هذه المهمة، وهناك كذلك “الاستهلال المزيف” الذي ينسب بالخطأ إلى شخص واقعي.
وأن “العنوان” قد أنجز مهمته الأولى في “إغواء” القارئ وحفزه للولوج في عوالم العمل السردي. وهو بذلك يوكل مهمة “الإغواء” بالقراءة، التي هي أهم سمات “الإبداع” الناجح، إلى “الاستهلال”. من بعد “العنوان”، فإن الاستهلال السردي هو الذي يحدد قرار الاستمرار في القراءة أو إعادة “الرواية” إلى الرف.
في استهلال الرواية ساد عنصر “الاسترجاع ” ، فإن محتوى الاستهلال نفسه يشكل محاولة تجريبية جريئة” لتقديم البطل الذي عبر من خلال حواراته فيها عن موقف من “عالمه” الخاص،. وهو بذلك يكتسب واحدة من خواص نمط استهلالي آخر هو النمط التدرجي مما يؤكد طبيعته التجريبية بخروجه عن المألوف.
يطرح الكاتب في استهلال روايته أزمة ومشكلة وعقدة الرواية أي جدل العلاقة بين الشخصيات. لكن الاستهلال في الرواية لا يخلو أيضًا من ملامح الاستهلال التدرجي. فما قاله الراوي للراوية يقربنا من فهم الشخوص الرئيسة في الرواية.
وقد أشار الدكتور العارف إلى تقنية الاستهلال حين قال: (تعد عتبة الاستهلال احد الخطابات التقديمية ذات الأهمية البارزة إلى جانب العناصر المناصية الأخرى فتشكل نصا موازيا قادرا على أحداث الأثر والفاعلية في إي نص تتقدمه وقد كانت هذه العتبة واحدة من العتبات التي زين بها الكاتب سرده لغرض تو جيهه الوجه القصدية المبتغاة وليتولى من خلالها إيضاح بعض الأمور التي تلتبس على المتلقي تارة ا ليحقق من خلاله استفتاحا يختزل من خلاله مفهوم مبسط عن التن تارة أخرى …الخ)
تقنية التصدير في رواية “أعشقك حتى أخر العمر”
يعرف جينيت تصدير الكتاب بأنه “اقتباس بإمكانه أن يكون فكرة أو حكمة تتموضع في أعلى الكتاب، ملخصا معناه فهو وظيفة تلخيصية” ، وعادة ما يكون في أول صفحة بعد الإهداء وقبل الاستهلال . ويتكون التصدير من ثلاثة عناصر، هي التصدير، وهو الاقتباس، وعلى الكاتب أن يضعه بين قوسين وأن يكتبه بخط مغاير للخط العمل، والمُصدِّر، وهو من يضع التصدير، وقد يكون الكاتب أو شخص آخر من محيطه أو الناشر، والمُصدَّر له، وهو قارئ يتخيله الكاتب بأنه سينخرط في فعل قراءة العمل.
إن التصدير لحظة صامتة، يخضعها التأويل للقراءة لينطق صمتها. وقد حدد جينيت أربع وظائف للتصدير؛ اثنتان منها مباشرتان وهما: وظيفة التعليق على العنوان ووظيفة التعليق على النص، واثنتان غير مباشرتين وهما: وظيفة الكفالة/الضمان غير المباشر، ووظيفة الحضور والغياب للتصدير وهي وظيفة تعليقية تكون مرة قطعية ومرة أخرى توضيحية ومن هنا فهي لا لتبرر النص ولكن تبرر عنوانه.
وهي الوظيفة الأكثر نظامية بحيث تقدم تعليقا على النص تحدد من خلاله دلالته المباشرة ليكون أكثر وضوحاً وجلاء بقراءة العلاقة الموجودة بين التصدير والنص.
و الكاتب يأتي بهذا التصدير المقتبس ليس لما يقوله هذا الاقتباس ولكن من أجل من قال هذا الاقتباس لتنزلق شهرته إلى عملههذه الوظيفة هي الأكثر انحرافا لارتباطها بالحضور البسيط للتصدير كيفما اتفق لأن الواقع الذي يحدثه التصدير أو غيابه يدل على جنسه أو عصره أو مذهبه الكتابي، فحضوره لوحده علامة على الثقافة وكلمة جواز تثاقفي ينقشها الكاتب على صدر كتابه..
مثل: العنوان، والتصدير والإهداء، والتقديم، وغيرها، ويشمل ذلك أيضاً الإخراج الفني للنص الأدبي مثل صورة الغلاف وطريقة كتابة اسم المؤلف وعنوان العمل الأدبي، وغير ذلك، مما هو خارج النص الأدبي.
وهنا يشير الدكتور العارف إلى مفهوم التصدير في نص روائي آخر فيقول :
(يلجا الأديب أحيانا إلى رفد عمله الأدبي سواء أكان قصصيا أم روائيا أو أي جنس أدبي آخر بتعبير نثري او شعري يحمل مضمون يتصل بالعمل يكون بمثابة الحكمة التي توجهه وتحيل عليه فيتهيآ المتلقي حال الانتهاء من قراءة العتبة التصديرية لاستقبال السرد كونها العتبة الحامل لعدة تأويلات سيميائية نحو المتن ودرى الاحتكام الى هذه التقنية لدى كاتبنا عبد الزهرة في روايته تلك ….الخ)
تقنية الرؤية السردية في رواية (بغداد لا تنام)
الرؤية السردية هي أحد أعمدة العمل الروائي، حيث يعتمد عليها الخطاب الأساسي والحديث، كما تعكس الطبيعة التي يريد الراوي أن يوضحها، فقد تؤثر بشكل محوري وأساسي على الشكل النهائي للعمل، وقد تأخذ العمل في مسار خاص ومختلف عن طبيعة الرواية، ولا سيما أن الرؤية السردية تعتمد بشكل أساسي على الأسلوب الأدبي ، لا يستطيع الراوي أن يشت عن الأساليب الأدبية، حتى لا يجد نفسه عازف عن الصيغة السردية الأساسية، كما يجب أن يكون الراوي على علم كافي بسمات وخصائص الأسلوب السردي، حتى يخرج عمل مميز يجمع بين العلم والمعرفة، وبين خصوبة مخيلة الراوي ومهارته.
وتقنيات السرد كما نعرف هي الاشكاليات الفنية والجمالية المتصورة التي تنشأ عليها الكتابة السردية عموما، والرواية سيدة السرد تحديدا، بما تمتلكه الرواية من عجائبية وسحرية، وفي التفريق بين الرواية وبين أجناس أدبية أخرى كالملحمة، والشعر، والمسرحية، ليتوصل من مقارناته هذه الى ان الرواية خطاب منفرد بذاته، وفي الوقت نفسه جنس أدبي له ارتباطات وثيقة بعامة الأجناس الأدبية الأخرى، لتبدو الرواية وكأنها عالم شديد التعقيد، متناهي التركيب، متداخل الأصول، لها علاقة قوية بالتاريخ، والمجتمع، حاملة في بنيتها رؤية العالم, وهنا تصير الكتابة النقدية في ماهية الرواية وكأنها كتابة إبداعية يتغزل فيها شاعر ما بسطوة حبيبته التي تملك كل الجماليات.
إما في هذا الفصل يشير الدكتور العارف إلى ان:
(الخطاب السردي الروائي يقوم على جملة من أساليب وعناصر ومكونات بنائية وتشكيلية تؤلف طبيعة النص الروائي وجوهر تجربته وتقدنه للمتلقي وإذا كان عنصر السرد هو العنصر الأول في هذا البناء فان الوصف هو العنصر الآخر الذي لا يقل عنه أهمية . والحوار الذي يعد جوهر الخطابين المسرحي والسردي معا .إذن فان عناصر السرد تتداخل في صناعة الحدث فنيا في الحكي وتوصيفه فالية الحكي لا تصنع عملا فنيا منفردا ومن يتفق عليه انه لا توجد رواية بلا راو فهو يقدم الإحداث ويقدمها عبر خطاب لغوي وعليه وجب حضور شخصية يخلقها الراوي لفظيا وهي شخصية الراوي المعبر الأول عن الأفعال والإحداث….الخ)

السير ذاتي /غيري في رواية “شقراء البصرة”
أدب السيرة الذاتية فن قائم بذاته، وله أبنية محددة ، ويمكن إجمالها في: الاعترافات، واليوميات، والمذكرات، وأدب الرحلات، والذكريات، غير أنه يمكن القول إنه إذا كانت السيرة الذاتية هي سرد سيرة حياة إنسان، ورصد منجزاته، وإذا كانت الرواية فنًا أدبيًا سرديًا له مقوماته الفنية وسماته الجمالية المعروفة،فإنه بالضرورة يكون هناك تداخل واضح بينهما، ذلك أن سارد السيرة الذاتية يحكي رواية حياته، وسارد الرواية يصنع سيرًا ذاتية خيالية لشخوص لا بد لها في نهاية الأمر من أن تتمثل واقعيًا في وعي المتلقي ليستقبلها، وإلا استشعر أنها لا تنتمي لعالمه الأرضي، كما يحدث في أدب الخيال العلمي مثلاً.
.فقد اتسمت الكتابة السردية في الأدب الحديث بميلها إلى الذات، وتناولها كظاهرة محورية في حياة الإنسان، ولم تعد الحدود المعيارية عائقًا في تجاوزها إلى بناء مختلف عن الرواية، ولكنها لم تبتعد عنها كثيرًا، لأن هنالك رغبة في البوح والبحث عن تموقع واقعي وامتداد فني جديد كما تقتضيه القراءة الجديدة للحياة والكون والفضاءات المختلفة والماضي والذكريات، التي ستتحول إلى مشروع إبداعي، ولعل التجارب الشخصية والنظر إلى علاقة الذات بها من زوايا استراتيجية فلسفية، أصبحت تنجذب إلى شكل آخر ومناسب لطبيعة التفكير والتعبير، ويتحول الخوض في مسألة توثيق السيرة من مجرد أخبار أو يوميات أو ترجمة، إلى أبعد من ذلك، غير المعنى الاجتماعي والبناء الخيالي للشخصيات والأحداث، ولم يعد جنسها الأدبي الذي تعتمده القصة أو الرواية يعيقها، وإن كانت مصادرهما واحدة، وصياغتها بأسماء مستعارة في كثير من الحالات، وتلك إشكالية أخرى، أو بضمير المفرد أكثر، وتكاد تكون مكوناتهما لا تختلف في توظيف المشاهد والرؤى والمواقف وبناء الشخصية بأسلوب يعتمد النفس الروائي، ولكنها لصيقة بالحقيقة والذات والمشهد؛ والمكون الزمني فيها يتسم بالفضاء الواسع والعودة المنتظمة للأحداث، من خلال المشاعر والسياقات والعمل بمرونة الرواية، وبناؤها يعتمد على ما يسميه المعجم السردي بـ«الفلاش باك»، حيث تتشابك فيها العلاقات الواقعية والمستحدثة عند خروجها من عمق الكاتب وقناعته وتجاربه إلى النص، والاشتغال على الخيال أيضًا، لأن السيرة لم تعد كتابة تاريخية، بل ممارسة إبداعية ومهارة لغوية تحمل خطابًا أو مجموعة خطابات، تجمع بين متعة الذكريات، ومتعة الخيال، غير أنها قد تقلل من مساحة التأويل..
الرواية والسيرة الذاتية هما شكلان يمثلان قطبين لجنسٍ أدبي مترامي الأطراف، يجمع بين الآثار المنضوية فيه أنها تتخذ من حياة إنسان موضوعاً لها»، وإن الاختلاف الكبير في رؤية العلاقة بين الرواية والسيرة، اختلاف مشروع تبرره – في الأساس- مرونة تعريف كل من الرواية والسيرة، وأن الرواية تستوعب كل الفنون الإبداعية، مما لا شك فيه أن المؤلف عندما يشرع في كتابة نص أدبي يكون مراعيا ــ مسبقاً ـ لايدلوجية كتابية معينة، تفرضها نوعية النص الذي هو بصدد كتابته، وطبيعة القارئ الذي سيوجه اليه نصه، كما أن القارئ عندما يشرع ايضاً بالقراءة، فإنه يضع ثوابت لا بد من توفرها في النص، تتعلق بالنص الذي أمامه، ونوعية العدة المعرفية التي يجب أن يشحذها، وهو يتهيأ للغوص في أغوار النص بغية الكشف والتحليل، ان تحديد الهوية النوعية للنص يُمكّن الناقد من معالجتها نقديا في ضوء معايير وقواعد النقد الذي ينتمي اليه..
   التصنيف ألأجناسي أو النوعي للنصوص لم يعد أمراً يسيراً في بعض الأنواع المهجّنة التي أخذت تتمازج في ما بينها لتشكل نوعاً ادبياً آخر، ويتضح ذلك على نحو جلي في السيرة الذاتية (الغيرية) عندما تتداخل مع غيرها من الأنواع الأدبية لتشكل بذلك أنواعاً أدبية أخرى لها خصوصيتها النوعية المتشكلة من تهجين نوعين أدبيين مثل امتزاج السيرة الذاتية الروائية أو الرواية السير ذاتية مع ملاحظة الفرق بين النوعين.
وهنا يوجز لنا الدكتور العارف في فصل أخير من كتابه :
   (يبدو واضحا ان المؤلف عبد الزهرة عمارة يعيد تركيب بعض الأفكار المعلن عنها في العلاقة بين سيرتها الغيرية ومفهوم الزمن حيث يخلص الى القول بان الذاكرة والديمومة تعدان الأداتين اللتين يتفق حولهما الزمن النفسي والفلسفي للأدب فإذا كانت الديمومة هي التدفق المستمر للزمن فان الذاكرة ليست سوى مستودع او خزان للمسجلات والآثار الثابتة للأحداث الماضية يشبه السجلات المحفوظة في الطبقات الجيولوجية غير ان الفكرة الرئيسية التي لم يتوسع المؤلف في شرحها تتمثل في تصوره حول التداخل الدينامي .ان العلاقة المتفاعلة بين الزمن والذات .وهو ما يفرز لنا مدى التركيز على الترابطات الزمنية التي لا يتم ترتيبها بانتظام في السيرة الغيرية ….الخ)
وأخيرا..يوجز الدكتور العارف خلاصة ما قدمه الكاتب عبد الزهرة عمارة , يقول ان لكلّ أديب منابع فكرية ومرجعيات ثقافيّة مُعيّنة، تظهر ملامحها في أدبه جزئيًا أو كليًّا. والكاتب عمارة من هؤلاء الأدباء الذين كرّسوا معتقداتهم الثقافية في أعمالهم الأدبية. فهو في رواياته أكّد نزعته نحو محاورة التأمل الوجودي واليومي من منطلق إعادة تشكيل الواقع عبر استدعاء حمولاته السردية للأفكار ومساءلة سرّانية الأمكنة لاستنطاق ما وراء جغرافيتها 0
ويشير الدكتور العارف ان الكاتب عشق الكتابة لاسيما جنس الرواية أنها حرفة امتلكها الروائي عبد الزهرة، وكان مبهورا بسردها رغم السخط الذي يعتليه بسبب التقلبات السياسية التي شهدها في مدينته العمارة من تدهور في النسق القيمي للمجتمع /السلطة ومن خلال الرواية نرى صور متنوعة من هذا الصراع .
وبفول الدكتور مصطفى العارف من يقرا رواياته سيجد أن الإنتاج الأدبي للروائي كان غزيرًا من حيث المعرفة السردية من تقنيات فنية وشخصيات وأمكنة ، سرد معبر ويمتلئ بالمتعة، التي يجدها أي قارئ يقرر الدخول إلى عالم “عمارة ”، الذي استطاع أن يحجز له مساحة خاصة تجعله في مصاف الكتاب الذين أسسوا قاعدة للرواية الحديثة .رواياته ممزوجة بلغة شعرية، تمزج بين الخيال والواقع، بين الإحباط والأمل،اهتمامات “عمارة” كانت عميقة ، كأنه يد الحناء التي تزين عرس الكتابة، وتشعر وأنت تقرأ نصوصه أنه يلخص كل التفاصيل الصغيرة في لحظة تجلي تفتح لك براحا متسعا على الخيال, دائما ما يمتلك “عمارة ” مفتاح النص، مسلح بميراث كبير من الثقافة ليعيد لنا نسج الحكاية من يومياته السيرية/ الغيرية بنكهة جديدة وبلون جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى