الكاتبة سمية عبدالمنعم | القاهرة
حين قرأته فى صباى أخذت به، أبهرنى حبهما، أذهلتنى قدرتها على ارتشاف ألمه وممارسة الصبر الأعظم دونما تذمر أو ضيق، إنها دراما الحب والمرض والإرادة، ثم تجرع قسوة الفراق، فاستكمال المشوار الأطول بأناة وإخلاص منقطعين..
مراهقة تعدو عيناى بين سطور كتاب «الجنوبى»، أغلقه بين دقيقة وأخرى لأمنح قلبى الصغير فرصة استيعاب هذا القدر من العشق الخالص والألم الغادر، وأنا أتعجب كيف لامرأة أن تقدم الحب بيد وتعتصر الصبر بالأخرى، بل كيف لامرأة أن تصبح عبلة الروينى!
وحينما كبرت أدركت أن للمعادلة شقين؛ أحدهما عبلة والآخر، وهو الأهم، هو أمل دنقل، ذلك الطرف الذى استحق أن يخلد إبداعه بيننا ويخلد حبه فى قلبها، نعم، فلكل تضحية من يستحقها، لندرك بعد سنوات أخرى عديدة أن بيننا أمل دنقل آخر وآخر وآخر، فقط لأنه يستحق، فقط لأنه هو وليس غيره.
وزهران يستحق..
زهران الذى أبدع قلماً وقلباً، يستحق أن يخلد إبداعه واسمه وسيرته، يستحق أن أرويه إنساناً ومبدعاً، ليس لأننى عبلة أخرى، ولكن لأنه محمد عبدالمنعم زهران، الذى يستحق أن تحيا امرأة لكى تحكى عنه.. وهأنذى أفعل يا زهران. فمن أين أبدأ؟
دعنى أبدأ بمشهد النهاية، لا، فلنسمه مشهد الرحيل، فليس ثمة نهاية بيننا ولن تكون.
المكان: أحد مستشفيات محافظة المنيا، هناك فى أحد طوابقها تقبع غرفة الرعاية الفائقة، وفوق سرير ملاصق لبابها يسكن جسده الطاهر، غائبا عنا، فقط بضعة أنفاس تتردد بمساعدة جهاز تنفس صناعى، تنبئ من حوله أنه بيننا، أما أنا فقلبى من ينبئنى وليس ذلك الجهاز.
أتقدم فى خطوات واجفة، فى محاولة خائبة للتماسك، فاليوم هو عيد زواجنا الأول، ٢٨ مارس، وما أدراك ما هذا التاريخ يا زهران، أتذكر؟ وكيف لك ألا تذكر، إنه التاريخ المقرب إليك، تدونه كرقم سرى يغلق عليه هاتفك المحمول ويفتح، تستخدمه لفتح جهاز اللاب توب، ولا تنسى أن يكون رقم فيزا راتبك الشهرى، ألهذا الحد كان رقمك الأثير يا زهران؟ ألهذا الحد كان يوم زواجنا يقطن مكانا عزيزا بقلبك؟
جئتك اليوم لأقول لك كل عيد وأنت عيدى، بقلق تبحث شفتى عن موضع فى وجهك أويدك أوجسدك خالٍ من تلك الأسلاك والخراطيم، حتى أبثك شوقى ومعايدتى، وبالكاد استطعت أن أقبل أطراف أصابعك، لكن رغما عنى اختلطت دموعى بقبلتى، ربت فى حنو على أصابعك، ونظرت فى وجهك الساكن بهدوئه المعتاد، كملاك نزل سهوا من سمائه إلى أرضنا، طالبتك بأن تنهض من كبوتك سريعا فأنا أنتظرك، وعندما لم تستجب، أيقنت أن الأمر أكبر من أملى الذى لم يخب للحظة واحدة، حتى وأنا أسمع بأذنى عبارة طبيبة الرعاية التى ألقتها كقنبلة: مفيش فايدة خلاص!
كذبتها، فمادام هناك جزء بالمخ يعمل فإن أمل شفائك قائم، نظرت إلى كمن ينظر لمجنون، ثم هزت كتفيها وتركتنى.
هرعت نحوك لأسألك أن تكذبها وتنهض، أن تكذب كل من حولك وتفى بوعدك الذى قطعته قبل دخولك ذلك المستشفى البغيض، حينما قلت لى «سأشفى وأحيا معك فى القاهرة للأبد.. انتظرينى، سأشفى».
أمسكت أصابعك وقطعت وعودا أخرى: لا تخف، لن أهمل إبداعك، سأعتنى به مثلك وأكثر، سيظل حماسى مشتعلا مثلما كان وقت مرضك، وسيصل اسمك للعالمية يا زهران، أعدك أن أفعل، لأنك وقلمك تستحقان.
قلتها وحانت منى التفاتة نحو وجهك، ولمحت جفنك يهتز كأنك توشك على فتح عينيك، انتصبت واقفة فى لهفة، لكن جفنيك توقفا، وعدت لسكونك، وكأنك تخبرنى أنك تسمعنى، وبعد ساعة أويزيد من انصرافى علمت أنك أفقت، أفقت بشكل كامل، تأوهت ثم فتحت عينيك ونظرت حولك كمن يبحث عن أحد، ثم عندما لم تجده فضلت أن تعود ثانية للغيبوبة، وفى منتصف الليل من اليوم ذاته، سكن نبضك تماما، ورحل جسدك..
اخترت اليوم ذاته لتغادرنى يا زهران، يوم عيدنا، لكنك لم تفعل إلا بعد أن ودعتك وودعتنى، وبعد أن وعدتك، نعم، وعدتك وسأفى بوعدى يا زهران، مهما كانت العراقيل والتحديات، سأفعلها، وسيصل إبداعك للعالمية، ويجوب اسمك بلاداً شتى.. فقط لأنك تستحق.
*نقلآ عن جريدة الوفد