الحماقة فى شعر أبى الرقعمق
بقلم الأستاذ الدكتور: عوض الغبارى
أستاذ الأدب العربى – كلية الآداب – جامعة القاهرة
صدرت طبعة جديدة لديوان الشاعر “أحمد بن محمد الأنطاكى”، “أبو حامد”، ولقبه “أبو الرقعمق”، (ت399هـ)، وقد أصدر الأستاذ الدكتور/ محمد حسين عبد الله المهداوى هذا الديوان بالعراق، هذا العام 2021م. وقام بجمعه وتحقيقه ودراسته، وأشار إلى أن ذلك الشاعر يمثل “ظاهرة متميزة فى الأدب العربى؛ كونه يمثل رأس (الحماقة) فى مصر فى القرن الرابع الهجرى، وقد وفدعليها مع بداية حكم الفاطميين، وتأسيس دولتهم سنة 358هـ”([1]). وتناول المحقِّق أهم ظاهرة فى شعر أبى الرقعمق، وهى “الحمق والتحامق”، وأهم الأغراض الشعرية عنده. ثم أتبعها بما جمعه من ديوان الشاعر مرتبة على حروف المعجم العربى، مع نسبتها إلى مصادرها([2]).
ويورد “المحقق” بعض عناوين المصادر التى تتناول ترجمة الشاعر مثل “يتيمة الدهر” للثعالبى، و”حسن المحاضرة” للسيوطى، و”نهاية الأرب فى فنون الأدب” للنويرى. ومع ذلك لم ترد تفاصيل وافية عن هذا الشاعر. ولم يرد تفسير للقب الشاعر (أبو الرقعمق)، ويخمن “المحقق” بأنه “نحت لصفتين عُرف بهما الشاعر، هما “الرقيع” و”الأحمق” خاصة أن الشاعر غلب على حياته اللهو والعبث بمصر “مما جعل منه محط سخرية واستهزاء([3]).
ويرجع “المحقِّق” إلى “يتيمة الدهر” وقول “الثعالبى” عن الشاعر: “نادرة الزمان، وجملة الإحسان، وممن تصرف بالشعر الجزل، فى أنواع الجد والهزل، وأحرز قصب الفضل… وهو بالشام كابن حجاج بالعراق”. وربما كان اقتران أبى الرقعمق بابن حجاج أن الأخير كان مشهورا – أيضا- بالمجون. وقد أشادت مصادر متعددة بجودة شعر “أبى الرقعمق”، وأجمعت على تميز شعره فى المجون، وجمعه بين هذا الشعر الهزل المبتذل وبين الشعر الجاد([4]).
ويتطرق “المحقق” إلى دراسة الظواهر الشعرية فى ديوان “أبى الرقعمق”، وأهمها “ظاهرة التحامق”، ويرجع إلى “محمد كامل حسين” فى تعريف هذا اللون من الشعر بأنه “شعر فكاهى خالص، يتعمد فيه الشاعر إلى إضحاك الناس.. يصور نفسه فى صور كاريكاتورية متتابعة، ويصف نفسه بصفات ساخرة، وكثيرا ما يتعمد إلى السخف فى القول وفى الصور حتى يظهر حمقه”. ويتتبع “المحقق” الآراء المختلفة فى تفسير السبب فى ذلك “التحامق”، ومنه أنه لون من التمرد على حال الشاعر نفسه أو مجتمعه. وقد عدَّه الدارسون رأس الحماقة بمصر فى القرن الرابع الهجرى، كما ذكر المحقق، الذى يراه رأس هذا الاتجاه، ومؤسسه، وحامل لوائه بمصر، كما فى قوله:
فأما أكثر الحمق
وباقيه معى يذهب
فقد سَيَّرتُ فى البحر
فى البر على ظهرى([5])
ومن هنا نجده قد خص نفسه بالحمق على سبيل “التظرف”، أو للاستهانة بنفسه، والتقليل من شأنها، كما يذكر “المحقق”([6]).ويجيد الشاعر التورية فى قوله:
ومن يلعب فى الرأس
من العصر إلى العصر
إذ يتساءل – مفتخرا- عمَّن يكون مثله فى التحامق الذى يُميل الرؤوس إعجابا فى كل زمان، متلاعبا (بقوله: من العصر إلى العصر)، يريد به يوما ويريد به زمنا طويلا. ويرد “لأبى الرقعمق” شعر فى “الصفع” على القفا، لونا من ألوان التماجن والمفاكهة والظرف بين الأصدقاء. ويرى “أبو الرقعمق” أنَّ “الحمق” ميزته، لا يبغى سواها، وقد اشتهر بها، يقول:
لا تنكرَّن حماقاتى لأن بها
لواء حمقىَ فى الآفاق منشور
وهو “يلح” على حماقته على الرغم من كثرة الناقدين له، مسوغا ذلك بجهلهم لذة الحماقة”([7]). يقول فى ذلك:
لو علموا ما لى من لذة
لم أُلحَ فى الحمق ولم أعتب
ويبدو أن الشاعر كان مستمتعا بذلك اللون العابث سلوكا لحياته. وقد استعرض “المحقق” بعض الشعراء الذين ساروا على هذا الدرب، وتأثروا به، ومنهم “ابن حجاج” البغدادى الذى أشرنا إليه. وقد جعل “المحقق” سبب الاتجاه الماجن لدى “أبى الرقعمق” الترويج لشعره ليتميز بين الشعراء الكبار ممن لم يبلغ مبلغهم، يقول:
وفى الآفاق أقوام
ونبئت بأن القوم
يميلون إلى شعرى
لا يخلون من ذكرى([8])
وكذلك ذكر “المحقق” من أسباب شعر المجون عند “أبى الرقعمق” ميله إلى الفكاهة والسخرية، ورجع إلى تفسير طبيتعها النفسية([9]). ذلك أن الشاعر يحقق ذاته بها، إذ يقول:
خفة ليست لغيرى
لا أرانى الله فقدى
وهو يدعو لنفسه، ويباركها من أجل ذلك – تظرفا- . كذلك من أسباب الحمق فى شعره الإحباط النفسى، والافتقار إلى التوازن النفسى([10]).
ويرجع “المحقق” لبيان ذلك إلى قصيدة جميلة للشاعر فى “تنيس” وكانت مدينة عامرة بجمال الطبيعة بين دمياط وبورسعيد، ومطلع القصيدة دال على الشجن والطابع الحزين الذى عبَّر عنه، يقول:
ليلى بتنيس ليلى الخائف العانى
تفنى الليالى وليلى ليس بالفانى
ثم يوالى هذه الروعة بقوله:
أقول إذ لَجَّ ليلى فى تطاوله
لم يكف أنى فى تنيس مُطرَّح
يا ليل أنت وطول الدهر سيان
مخيم بين أشجان وأحزان
وقد درست هذا الشعر فى كتابى “شعر الطبيعة فى الأدب المصرى”([11]) ضمن طائفة من الأشعار التى تميزت بالصدق فى التعبير عن المشاعر منعكسة على الطبيعة، والتفاعل معها وسيلة وغاية لاستلهام الفن المرتبط بالذات، خلافا لكثير من الشعر الذى لا يتعمق هذا التفاعل قدر ما يحرص على تصوير الجانب الشكلى للطبيعة.وهو ما اتفق معه المحقق من تعبير هذه الأبيات عن الذات وهمومها وقلقها وتوترها الإنسانى([12]). والتكسب بالشعر أحد عوامل المدح للحكام الذين قام الشاعر بالترويح عنهم وتسليتهم بطريقته المختلفة فى شعره الذى استهواهم. ويؤكد “المحقق” استغراق الشاعر فى طريقتهالخاصة فى الحمق والمجون، مما دعاه إلى الشكوى من حاله دون أن يتخلى عن خلاعته وعبثه. يقول:
وقد مجنت وعلَّمت المجون فما
وذاك أنِّى رأيت العقل مُطُّرَحا
أُدعى بشىءٍ سوى رب المجانات
فجئت أهل زمانى بالحماقات([13])
وقد قصر الشاعر حياته على اللهو والمجون والخمر على الطريقة النواسية، قائلا:
إذ لا أروح ولا أغدو إلى وطن
إلا إلى ربعِ خمار وحانات([14])
فاللذة ومتع الحياةغايته هربا من أحزانه، وإدبار الدنيا عنه، وانغماسه فى الشهوات. وتحمل بعض الأشعار إحساسا دفينا من الشاعر بذنبه، ومجافاته لسبل الصلاح والسلوك القويم، وعتاب النفس على ذلك. وقد ضاع كثير من شعره لأنه “أدب الهامش” فى رأى أحد الباحثين([15]). واللافت للنظر أن مقدماته المدحية انطوت على الحماقة خلافا لأعراف الشعر، وأدبياته، خاصة فى مديح كبار الخلفاء، مثال ذلك مقدمة قصيدة فى مدح الخليفة العزيز بالله الفاطمى فى قصيدة مطلعها:
قلبى لك الخير بالأفراح معمور
خذ فى هناتك ما قد عُرفت به
مستبشر جذلٌ بالفتح مسرور
فما به أنت معروف ومشهور([16])
ثم يحاكى صوت العصافير، ويشيد بالحمق، ويفتخر به، ويعجب لمن تركه، ويتعمد المزاح والصفع، وغير ذلك مما لا يليق بحضرة الملوك. ومن أغراض شعر “أبى الرقعمق” الغزل، الهجاء والرثاء، والأخير منه قوله:
لعمرك إنه رزء عظيم
وخطب أمره جلل جسيم
ويجمل “المحقق” رأيه فى غزل الشاعر بأنه دال على فشله فى الحب، وفى الهجاء بأنه يميل إلى البذاءة. أما فى الرثاء فيبدو جادا، حزينا على المرثى. كما أن ديوان أبى الرقعمق قد انطوى على فخره بعبثه ومجونه، كقوله:
قد ربحنا بالحماقات
على أهل العقول
ويبدو أن الشاعر يركز على فكرة مطردة فى شعره وهى أن غياب العقل عند الناس قد أدى به إلى التحامق. ويختم “المحقق” دراسته للشاعر بقوله إن أبا الرقعمق “صاحب طريقة فى النظم، مزجت بين الجد والهزل، وفى كل منهما سلك سبيلا نم عن مقدرة أدبية، وموهبة فطرية أنماز بها شعره”.([17]) ويلاحظ فى شعره التلقائية فى وصف ميله إلى الحمق دون خجل، كقوله:
ولم أكسب الحمق لكننى
خُلقِت رقيعا كما قد ترى([18])
وكأنه يرى أن الحمق أصل مطبوع فى جبلته، وتواتيه قدرة شعرية سلسة فى تصوير ذلك فى قصيدته الافتتاحية، وهى الوحيدة على قافية الألف، كما أشرنا منها إلى البيت السابق. وينشغل الشاعر بأشياء بسيطة يستغرق بها شعره كقرقرة بطنه، ولذة صفعه، ومتعة مجونه، وغير ذلك مما يندرج تحت عبثه ولهوه، وحزنه على يوم يمر دون ذلك، كقوله:
حزَنى أنى مذ زمن
ولكم بتنا على طرب
ما لعبناه ولا لعبوا
ورأس القوم تُستُلَب ([19])
ويطرب الشاعر للصفع، ويلتذ به كأنه كؤوس خمر:
وكؤوس الصفع دائرة
ملؤها اللذات والطرب([20])
وهذه من مقدمة قصيدته فى مدح “ابن طباطبا” الشاعر المصرى من الأشراف الذين يمتد نسبهم إلى الإمام الحسن بن على بن أبى طالب، ويقول فيه:
حسبه بالمصطفى شرفا
رتبة فى العز شامخة
وعلِّىٍ حين ينتسب
قَصَّرت عن نَيُلها الرُّتبُ([21])
وهنا يمتزج الجد بالهزل على نحو ما رأينا فى شعره.
عرف اللذة للبذل
فأعطى وأثابا([22])
ويتمادى الشاعر فى مقدمة مدحه لتميم بن المعز لدين الله الفاطمى، وهو من أكبر شعراء العصر الفاطمى، وهو ما لا يليق بذلك المقام . وقصيدة الشاعر التائية تدل على شاعريته، واتجاهه إلى الحماقة، ومطلعها:
كُفى ملامَكِ يا ذا الملامات
فما أريد بديلا بالرقاعات([23])
وفيها يلتذ بتلك الرقاعات بين الخمر والحانات. ويتمادى الشاعر فى الفكاهة وتقليد أصوات الطير والحيوان، مع أنه يمدح الخليفة العزيز بالله الفاطمى، ومن الفكاهة التناص بقول الشاعر الجاهلى؛ المنخل اليشكرى:
ولقد دخلت على الفتاة
الخِدْر فى اليوم المطير
بقول أبى الرقعمق:
ولقد دخلت على الصديق
متشمِّرا متبخترا
الخدر فى اليوم المطير
للصفع بالدلو الكبير
متماديا فى رقاعة الصفع، ولكنه فكه فى قوله:
ولأحزنَّن لأنهم
رحلوا وقد خبزوا الفطير
لما دنا نضج القدور
ففاتهم أكل الفطير([24])
والشاعر فى الفكاهة مشهور بقوله:
قالوا اقترح لونا يُجاد طبيخه
قلت اطبخوا لى جُبَّةً وقميصا([25])
وتوجد لدى الشاعر قصائد جزلة لولا ما يشينها من عوار الابتذال، ومنها قصيدة مطلعها:
عَدِّ عن قالٍ وقيل
حصحص الحق فماذا
وصعود ونزول
شئتِ من قولٍ فقولى([26])
ولاشك أن العبارة القرآنية تكسب هذا الشعر رواءه. ومن وجده بمصر من قصيدته المشار إليها فى “تنيس” قوله:
ليالىَ النيل لا أنساكِ ما هتفت
وُرْقُ الحمام على دَوْحٍ وأغصان([27])
وفى المدح مقدمة رائعة يقول فى مطلعها:
باح وجدا بهواه
مغرم أغرى به السقم
حين لم يُعط مناه
فما يُرجى شفاه([28])
ولعلنا وقفنا على لمحات جمالية من شعر هذا الشاعر المتفرد بحماقته فى التراث الشعرى، وبموازنته بين تلك المنقصة وبين تلك الموهبة الشعرية التى تجرى سلسة عذبة فنية كأنها تكفير عن شوائبه الإنسانية .
الهوامش:
(([1]جمع وتحقيق ودراسة أ.د/ محمد حسين عبد الله المهداوى، دار الفرات للثقافة والإعلام – العراق- بابل، بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع سنة 2021، ص 9.
(([2]المرجع السابق، ص10.
(([3]المرجع السابق، ص13.
(([4]المرجع السابق، ص17.
(([5]المرجع السابق، ص18.
(([6]المرجع السابق، ص19.
(([7]المرجع السابق، ص20.
(([8]المرجع السابق، ص22.
(([9]المرجع السابق، ص23.
(([10]المرجع السابق، ص24.
(([11]راجع، عوض الغبارى، شعر الطبيعة فى الأدب المصرى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، فى مواضع كثيرة.
(([12]محمد حسين المهداوى، محقق ديوان أبى الرقعمق، السابق، ص25.
(([13]المرجع السابق، ص27.
(([14]المرجع السابق، ص28.
(([15]المرجع السابق، ص29.
(([16]المرجع السابق، ص33.
(([17]المرجع السابق، ص38.
(([18]المرجع السابق، ص42.
(([19]المرجع السابق، ص44.
(([20]المرجع السابق، ص45.
(([21]المرجع السابق، ص46.
(([22]المرجع السابق، ص50.
(([23]المرجع السابق، ص55.
(([24]المرجع السابق، ص67.
(([25]المرجع السابق، ص80.
(([26]المرجع السابق، ص91.
(([27]الديوان، ص106.
(([28]الديوان، ص109.