كيف نتصدى “للاڤا” النتنياهوية

المحامي جواد بولس | فلسطين

قبل خمسة أعوام، وعندما بدأت وحدات التحقيق الخاصة في شرطة إسرائيل باستجواب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وكثيرين مِن أقربائه والمقرّبين إليه ومَن عملوا معه وفي محيطه خلال السنوات الماضية؛ كثرت التكهنات حول مصيره السياسي ومن سيحل محله.

وكما يعلم الجميع فلقد أفضت التحقيقات إلى تقديم أكثر من لائحة اتهام خطيرة في حقه، ما زال القضاء الاسرائيلي ينظر فيها ولا أحد يستطيع اليوم أن يتكهن بنتائجها؛ فكل الاحتمالات حيالها كانت ولا زالت مفتوحة.

لقد راهن الكثيرون، وفق ما انكشف في الصحافة من دلائل، على دنوّ نهاية بنيامين نتنياهو السياسية أو، على الاقل، على تراجع شعبيته بين المواطنين؛ بيد أن بنيامين نتنياهو لم يرتدع، كما كان متوقّعًا وطبيعيًا أن يتصرف رئيس حكومة يواجه عددا من التهم الجنائية، كما ولم تتراجع شعبيّته بين المواطنين، على المستويين الشعبي والنخبوي؛ لا بل على العكس تمامًا، فقد واجه ويواجه منافسيه بشراسة لافتة ويحظى، في نفس الوقت، بشعبية قد تقوده مع حزبه الى تشكيل الحكومة الاسرائيلية المقبلة.

لم يقتصر المشهد الإسرائيلي في السنوات الخمس الاخيرة على طريقة ازدراء نتنياهو نفسه لتفاصيل قضيّته، بل تجاوزها حين وظّفها في حربه من أجل تقويض أسس منظومة الحكم الاسرائيلية وفي طليعتها الجهاز القضائي على تفرعاته؛ فدأب، بأساليبه الجهنمية والشعبوية، وبمساعدة فرقه الضاربة، على تأجيج الأجواء وتأليب مؤيديه ضد مؤسسات الحكم والقانون، والطعن بشرعيتها والتشكيك باستقلاليتها وبنزاهتها.

لقد تقدم نتنياهو صفوف معسكره في هذه الحرب، وكانت سياسته، في جميع محطاتها، هي الخميرة التي ساهمت في تسريع اكتمال عملية الجنوح اليميني الفاشي وفي تجسير الهوّات داخل شرائح المجتمع الاسرائيلي اليهودي، المتخاصمة والمتنافرة، وصهرها معًا لتندفع معًا في شوارع الدولة وميادينها كسيل من اللاڤا الحارقة.

لقد أثارت هذه التطورات استياء عدد من الشخصيات الاعتبارية في صفوف النُّخب الإسرائيلية، فأبدى بعضها، الى جانب الاستياء، تخوّفًا على شكل الحكم ومصير دولتهم نفسها، بينما تعاطى آخرون مع ظاهرة بنيامين نتنياهو كحدث شاذ وعابر، مؤمنين بأن مؤسسات الدولة لا زالت قادرة على معاقبته وتحجيمه وانقاذ بُنى الدولة من “الفساد والعفن السلطوييين” الذين تمكّنا واستحكما في معظم أعضاء جسدها.

ستسقط جميع رهانات هؤلاء قريبًا؛ فالقضية، كما قلت قبل خمسة أعوام، ليست مقصورة على نتنياهو وزمرته ولا على مصيره السياسي، بل تتعدى كل ذلك الى ما هو أعم وأخطر، حتى لو وسم اسمه، في أوراق التاريخ، هذه الحقبة برمّتها.

فمن أين تأتي شعبية نتنياهو العالية؟

في الواقع يقف حزب نتنياهو وراءه وقفة رجل واحد؛ وهذا بحدّ ذاته يُعدّ حصادًا متوقعًا لما خطط له في العقدين الأخيرين، حين تعمّد بمنهجية سافرة استبعاد جميع القادة التقليديين التاريخيين في حزب الليكود واستقدام شخصيات مغمورة “التاريخ والنسَب الحزبي” وتجنيده بهذه الطريقة لفرق من “الاستشهاديين” السياسيين المستعدّين لافتداء “القائد المظفّر” بكل ما يملكون، ومهما فعل أم لم يفعل. واذا راجعنا كيف تصرّف هؤلاء وما صرّحوا به، لتحققنا من كونهم جنودًا مخلصين في جيش نتنياهو، ولاكتشفنا عمق الفوارق بينهم وبين من أسّسوا حزب الليكود وقادوه ردحًا من الزمن؛ فالنائب ميكي مخلوف زوهر ، مثلا، لم يتورّع عن تشبيه التحقيقات مع “قائده المفدّى” بعملية قتل رئيس الحكومة السابق اسحق رابين، أو كما صرّح هو في حينه: “لقد قلت في الماضي بشكل واضح بأنه وكما أراد يچآل عمير اسقاط الحكومة بشكل غير ديموقراطي، هكذا يفعلون لرئيس الحكومة نتنياهو من خلال محاولات “تشويه وتلطيخ سمعته”، ففي حالة نتياهو تكون “وسائل الاعلام هي يچآل عمير وهي التي تحاول هدر دم الرجل من خلال ملاحقته، وهذا ما يشعر به الشعب”. وفق تصريح زوهر مع بدء التحقيقات مع نتنياهو.

لم يكن هذا النائب وحيدًا في تقمصه لشخصية الناطق باسم “الشعب”، مثل زعيمه، وهجومه على “الآخرين” ، فغيرُه أيضًا تلفّظوا بخطابات تحريضية خطيرة يمكننا من خلال التمعن بها سبر ما يعتمد عليه نتنياهو اساساً لقوته ولثقته.

فالشعب هو الهدف الثابت في خطابه السياسي الأساسي ، واسترضاؤه هي المهمة الاسمى عنده؛ هكذا هو وهكذا علّم أتباعه، ويكفي أن ننتبه لرد النائب زوهر، ولتأكيده الواضح والمستفز، عندما طالبه بعض زملائه في الكنيست بالاعتذار عن أقواله السابقة، على أن مواقفه “واضحة ولن اعتذر عن أقوالي، فأنا لست “ساذجًا” بل أنني أعكس ما يشعر به الشعب. أنا أمثّل مليون مصوّت دعموا حزب الليكود ويشعرون بأن البعض يحاول سرقة الحكم منهم بطرق غير ديموقراطية”.

إنهم تلاميذ مطيعون يتكلمون كمعلمهم ويحاولون مثله القفز عن مؤسسات الدولة ويتجاهلونها؛ فباسم “الشعب” يدافعون عن “ديموقراطيتهم” ويدوسون الديموقراطية الحقيقية بنعالهم، وباسم الشعب يخترعون “حقًا” لهم وباسمه يستبقون النتائج وبقوّته يبرّئون زعيمهم، ويلبسون دور “الضحية” وباسمها يهاجمون من ليسوا معهم ومن لا يمتثلون لأهوائهم ولرغبات زعيمهم.

انها مدرسة الولاء المطلق للزعيم القوي، التي تعتمد خطاب “الديماغوغية الخالصة”؛ وطلابها هم البارعون في السعي إلى بناء نظام يقف على رأسه “المعلم” الساحر القوي القهار الجبار القادر على كل شيء، والمنزّه عن المعاصي، والمغفورة كل زلاته وأخطائه؛ فهو عندهم هذا “النتنياهو”، منقذ الشعب وحامي مستقبل الدولة من جميع أعدائها في الخارج وداخلها.

انها حالة تولد في عقل وحضن “الشخص”، ثم ما تلبث أن تصبح اكبر وأخطر منه، تمامًا كما عرّفنا التاريخ على مثيلتها؛ فنتنياهو قد يكون اليوم المشكلة الكأداء، لكنه قد يختفي أو ينتهي دوره بقرار قضائي أو بغيره ولكن “الحالة” التي هندسها وأرسى مفاهيمها، باقية، وهي مشكلتنا الحقيقية؛ فهو قد أصبح قائدًا “معبودًا” داخل شرائح وقطاعات واسعة بين الشعب لأنه عرف كيف يزرع مفاهيمه في “جيوبهم” ويصل منها إلى قلوبهم ومن هناك ليتحكم في قبضات أياديهم.

انه، باختصار، القائد “الملكي” القادر على استمالة قلوب بسطاء شعبه اسوة بعقول أصحاب المال وعتاة العدة والعتاد، وأن يتحدث أمامهم فيشعرهم أنهم “أسياد الكون” وأنه معهم يقفون على “أنف الدنيا” وعلى رأس دولة لا تجارى بقوتها؛ ثم يأسرهم، بلغة جسد وبخطابية فذة لا يفت من صلابتها سجن مفترض ولن توقف مدّها قضبانه التي يراها من ورق.

فاسرائيله/ اسرائيلهم، كما يردد في جميع المناسبات، هي أم التقدم والتفوّق في جميع مجالات الحياة؛ فهي ربة القوة والجيش التي لا تتحداها قوة، وهي قلعة الاقتصاد المنيعة التي تشهد لها مكانة شيكلها في أسواق عملات الامم، وهي سيّدة العلوم والتكنولوجيا التي أصبحت مكانتها مثالًا بين القارات والدول وأسماء جامعاتها تدرج إلى جانب أفضل وأعرق جامعات الدول المتحضرة الأخرى. إنه القائد الذي يعرف ماذا يريد وكيف يحصل على ماذا يريد، ولكن ..

سينتهي قريبًا النظر في جميع ملفات نتنياهو المنظورة أمام القضاء الاسرائيلي، وسنعرف اذا ما زال يوجد في اسرائيل قضاة يتجرأون على ادانة هذا “الزعيم”؛ لكنني، وبعيدًا عن أية نتيجة سيصل اليها قضاة المحاكم، أنصح بألا ننتظر مصير نتنياهو الشخص وألا نركن على عدل لم ينصف ضحايا نتياهو ومَن سبقوه من زعماء شاركوا، كلٌّ بمفاهيمه، في تعبيد طرق القهر والقمع والعنصرية التي أوصلتنا حتى الفاشية الناجزة في أيامنا. فمأساتنا ، نحن المواطنين العرب، بدأت بعيدًا في الزمن، ولنقل مع “البنغوريونية” وقبلها واستفحلت من عصر إلى عصر حتى تفاقمت في عصر “النتنياهوية”. لقد عرف أباؤنا كيف يكون البقاء في الوطن وكيف يجترحون آيات النضال والصمود، وذلك حين فهموا أن قضيتنا لم تكن محصورة في شخص من وقف على رأس الدولة، بل هي “أبعد من ذلك في دمائنا”، فليس بن غوريون كان المشكلة انما “البنغوريونية”، ولا شارون كان القضية بل “الشارونية”، واليوم لن يكون الحل مع أو ضد جانتس أو لبيد أو نتنياهو، بل في فهمنا وفي جاهزيتنا، عربا ويهودا، لمواجهة “النتنياهوية” ومتحوّراتها القاتلة القادمة لا محالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى