الاستخلاف والتمكين والإعمار
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
وقد فرق القرآن بين المصطلحات التي تتناول هذه الفكرة، منها مثلا (الاستخلاف): وهو في أوله إقامة الإنسان في الأرض بفطرة بيولوجية ونفسية وعقلية تؤهله من الاستمرار وتحقيق الغرض من نزوله إلى الأرض .. ثم (الإعمار): وهو درجة أقل من الاستخلاف : إذ الإعمار منوط بصنف من البشر خضعت لهم ـــ على فترة من الزمن ــــ بعض عوامل الحضارة فعمروا في الأرض، ولا يشترط أن يكون هذا الإعمار باستخلاف إلهي على سبيل إقامة الشرع، ولكن قد يكون بتمكين (كوني) لا شرعي.
وأما فكرة التمكين الحقيقية فهي لا تكون ولم ترد في الغالب إلا مع الثلة المؤمنة القائمة بحق التوحيد والتعبد لله ثم يأتي لها التمكين تباعا بعد الابتلاء والصبر والتمحيص..
“فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجا.. أو هي على الأقل تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية أو بعيدا عن حقبته، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته وتتفاعل معها”(1).
إذا طبقنا فكرة العوامل التي يطرحها (ديورانت)، والتي يرى من خلالها تحقق الحضارة باجتماعها، لكن رغم توفر الكثير من هذه العوامل إبان الجاهلية الأولى، فإن العرب لم يتمكنوا من مجرد النزوع لتحقيق دولة ولا إقامة كيانات سياسية تقودهم إلى التطلع الحضاري.. وقد عمروا قبل الإسلام قرونا في شبه جزيرتهم، لم ير منهم،ولم يخلّفوا إلا بعض الفصاحة اللغويةوبعض مكارم الأخلاق ، كاد كثير منها أن يغيب أو يندثر مع الزمن لولا مجيء القرآن،ولم يتحقق لهم شيء من الاجتماع السياسي إلا في بعض الحالات التي لم يطلق عليها اسم (الدولة) بحال من الأحوال،ولم تثمر شيئا من منجزات الحضارة التي ذكرها التاريخ، ك(الغساسنة في الشام، والمناذرة في العراق، ومملكة الحيرة).
ولم تكن هذه العوامل التي ذكرها (ديورانت) بفاعلة؛ وقد تواترت في أيد العرب، وأوفرت بها بيئتهم العربية، فلم يفطنوا لتفعيل شيء منها ليصنعوا لأنفسهم ذكرا أو ثقافة أو حضارة، اللهم إلا هذه البقية من القصائد والنصوص الأدبية، وقد تحقق لهم وبقوة عنصر (الإنسان)، والاجتماعي السياسي في بعض صوره البسيطة، والعامل الاقتصادي وإن كان بدائيا في هذه الثروة الطبيعية من الأرض والرعي مع الكلأ، والتجارة بين أطراف الجزيرة ..لكنه لم يكن ليحقق أو يخرج دولة، أو شبه دولة، أومنتج حضاري أوثقافي.
“ومن المعلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته هباء لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العناصر الثلاثة (الإنسان والتراب والوقت ) راكدة خامدة، أو مكدسة، لا تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت تلك الروح بغار حراء ــ كما تجلت قبل بالواد المقدس ـــ نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة”(2).
لقد من الله على قريش بما وهبهم من نعم (الأمن) و(الشبع) “لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)”[قريش]، وهما من أوائل نعم التمكين والتحقق الحضاري، فلم يكن ثمة اضطراب أمني أو مجاعة مهددة بالفناء، إنما كان حال من الاستقرار والثبات؛ وقد ذكرهم فيما قبل هذه السورة بـ(سورة الفيل) الذي أهلك فيها من أراد بيته وحرمه بسوء، وكانت تلك لهم فضيلة على سائر العرب بتمكينهم من هذا الجوار الشريف الذي رفع ذكرهم قبل الإسلام بين العرب”أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)”[القصص].
وهنا لطيفة: حيث لو كان تحقق للعرب، أو لقريش دولة ـــ رغم سيادتها وزعامتها على القبائل ـــ لكان هذا أشد عنتا وتصلتا وتصلبا في مجابهة دعوة (التوحيد) القادمة من خلال الوحي، وربما كان وأدا لها في المهد من تصدي دولة ممكنة لها؛ لكن الله لم يشأ ذلك حتى يكون قيامها وتحققها تحت راية القرآن ــــ كما ذكر الرافعي.
إنما أزهرت ذلكوأثمرته، وأكثر منهنفثة الحضارة.. تلك التي هبت في أرواحهم، وهبوا بها.. ولم تكن إلا من هذا الكتاب الذي حمل لهم هذه المنهجية المهلمة على رأسها (التوحيد) فمكن له في نفوسهم أولا، وأذهب منها حمية الجاهلية التي تفرق ولا تجمع،وتهدم ولا تبني، وتقطع ولا توصل .. ثم ألف بين قلوبهم وجمعهم على المحجة البيضاء” وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)”[الأنفال].
وأنهض همم هذا الجيل من رعاة الشاة والإبل إلى مصممي الحضارة وناقليها إلى ربوع الأرض من مشرقها لمغربها، معلمين مبلغين مؤدبين ومصلحين وصالحين، تسامي جباههم جباه القياصرة والمناذرة والأكاسرة بل تعلو عليها، وتسمو فوق هاماتها، بما وهب الله لهم من منهج العز، ومداعي الفخر، وخيرية الاصطفاء في “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، وهذا هو مبعث التمكين الحقيقي الذي يُنزل المتسلطين من شواهق الأبراج المشيدة والقصور العالية، إلى مواطئ سنابك الخيل وأخفاف البعير .. وما هي إلا عزة التمكين، وسنة الاستبدال من الخبيث إلى الطيب.
انظر إلى أبي الحسن الندوي (رحمه الله ) واصفا حال هؤلاء البشر وتبدلهم من حال إلى حال، ومن ضعف إلى قوة،ومن جاهلية إلى إسلام، ومن شرك إلى توحيد؛ وما فعل بهم الإسلام بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.. يقول:
“حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم، وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم، وأصبحوا في الدنيا رجال الأخرة، وفي اليوم رجال الغد، فلا تجزعهم مصيبة، ولا تبطرهم نعمة، ولا يشغلهم فقر، ولا يطغيهم غنى، ولا تلهيهم تجارة، ولا تستخفهم قوة .. ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا..
وأصبحوا للناس القطساس المستقيم، قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين .. وطأ لهم أكناف الأرض وأصبحوا عصمة للبشرية، ووقاية للعالم وداعية إلى دين الله..
فاستخلفهم الرسول في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته”(3).
- (مشكلات الحضارة)مالك بن نبي
- نفس المصدر
- ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).أبوالحسن الندوي