أ. محمد موسى العويسات| القدس
قرأت الرّواية والحرب دائرة رحاها على غزّة، والعالم كلّه منبهر بأهل غزّة، برجالها ونسائها وأطفالها، يتساءلون: من أين لهم مثل هذه القوة ورباطة الجأش والصّبر؟ فرأوا أنّ السّرّ في العقيدة التي يحملونها، التي صنعت النّساء اللواتي هنّ مستودع الرّجال. والنّساء الغزّيّات والفلسطينيّات بل المسلمات عامّة في هذا العصر، هنّ امتداد لذلك التّاريخ النّسويّ منذ مطلع الإسلام، الذي رسمته خديجة بنت خويلد رضي الله، وأسماء بنت أبي بكر، ورفيدة الأسلميّة أول ممرّضة في الإسلام، ومنهنّ أمّ عمارة وهي من نقباء بيعة العقبة ولها مشاهد كثيرة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها صلح الحديبية، وخولة بنت الأزور وكانت من أشهر فرسان المسلمين في اليرموك، ومنهنّ الخنساء الشّاعرة الجاهليّة التي استشهد أبناؤها الأربعة في القادسية، والقائمة تطول إلى أن تبلغ غزّة اليوم.
راقني هذا المثل فاتّخذته عنوانا. وهذا المثل جرى على لسان أمّ لإحدى الشّخصيّات الرئيسة في الرّواية، وهي وداد زوجة (يوسف) القائد المطارد، ودلالة هذا المثل هو أن يكفيك من السّبع أيّ الرجل الشّجاع، القليل فتستغني بها عن النّذل كلّه، أو القليل والنّزر اليسير من الرّجل الشّجاع الشّهم أفضل من النّذل كلّه، والغبّة هنا بمعنى ما تأخذه ملء فمك من الطّعام، وهي في المثل اسم مرّة. ويماثله في المعنى قولهم: (ملء فمك من الطّيّب خير من ملء بطنك من الرّديء)، والسّبع في عرف اللّغة والعامّة هو الأسد، وفي السّبع أمثال كثيرة منها: (رافق السّبع ولو أكلك، ولا تعاشر النّذل ولو حملك)، ويقال أيضا: ( يأكله السّبع ولا يأكله الضّبع). وهكذا كان للسّبع في عرف النّاس صورة مشرقة ورفيعة، فكنّوا به عن الرّجل الشّجاع المقدام الجريء الشّهم وغيرها من الصّفات التي تطلب في الرّجال. ولست هنا بصدد البحث في الأمثال الشّعبيّة ولا الفصيحة، ولا ما قيل في السّبع، وإنّما ارتأيتها مقدّمة أدخل بها إلى قراءة الرّواية، وكم تمنّيت لو أنّ هذا المثل كان العنوان، لأنّه يعبّر عن مضمون الرّواية أكثر من العبارة التّناصيّة من القرآن: ( قد شغفها حبّا)، ليس هذا ردّا لهذا التّناصّ، ولكن قد تجد كثيرا من النّساء المشغوفات بأزواجهنّ على ما هم عليه، فلا يظهر التّمايز، بين مشغوفة وأخرى، ولا بين مشغوف به وآخر، وقد جرى هذا المثل على لسان أمّ وداد التي آثرت أن تزوّج ابنتها أرملة الشّهيد بلال للقائد يوسف، أو هي من خَطبتْها له، فقالت في جلسة نسويّة ذكر فيها القائد يوسف: ( غبّة من السّبع ولا النّذل كلّه)، فجاء المثل في محلّه أي مطابقا تماما للسّياق، وليعبّر عن حقيقة القضيّة التي تناولتها الرّواية، ويكشف جانبا مهما في المرأة الفلسطينيّة ودورها في مقاومة المحتلّ، وتضحيتها بنفسها في سبيل الله، ولو أردت أن ألخّص الرّواية في سؤال يطرح على النّساء، على الفتيات وأمّهاتهنّ لسألتهنّ: مَن ترضى أن تتزوّج أو تُزوّج ابنتها من رجل مطارد مطلوبٍ رأسُه للعدوّ، نذر نفسه للمقاومة وأعدّ نفسه للشّهادة؟ أيّ فتاة هذه التي ترضى أن تتزوّج برجل مهدّد في كلّ لحظة بالموت على يد أعدائه، بلا احتفاء بعرس، برجل لا يقرّ له قرار، لتكون مطاردة معه، بل هي أيضا مهدّدة معه؟! لا بل أيّة فتاة هذه التي ترضى بزوج لا يعرفه من مجتمعها وأقاربها وجيرانها إلا قلّة قليلة، ويبقى اسمه سرّا يحرم عليها البوح به؟ وأسئلة كثيرة، والجواب عليها في هذه الرّواية للأديبة الغزّيّة نردين أبو نبعة الموسومة بــ (قد شغفها حبّا) الصّادرة عن مكتبة الرّمحي بدون تاريخ نشر، وتقع في مائة وثلاث وثمانين صفحة، تلك الرّواية التي تنقل تجربة زوجتين لمطاردين من الوزن الثّقيل في المقاومة، إحداهما هيام من الضّفّة الغربيّة من قرية رافات في سلفيت، أرملة الشّهيد يحيى، والثانية وداد أرملة الشّهيد بلال أحد رجال المقاومة في غزّة، والتي تزوّجت من بعده القائد يوسف، والتي حاولت وداد في مذكّراتها أن تخفي اسمه الحقيقي، وربّما يكون هذا من الرّوائيّة نردين. ولكن لا يخفى أنّه القائد العامّ لكتائب القسّام محمّد الضّيف، ووداد هذه استشهدت بعد زواجها به بسبع سنين أي عام 2014، أنجبت فيهما أربعة أولاد اثنين من البنين واثنتين من البنات، اثنان منهما ابن وابنة استشهدا معها في قصف لبناية من عدّة طوابق كانت تسكنهما. الرّواية وكما أشارت الكاتبة منذ البداية كلّها أحداث حقيقيّة اسْتُجلبت من مذكّرات هيام ووداد، وقعت في أربع وثلاثين لوحة تتداور عليها هيام ووداد، وكلّ لوحة تشكّل مشهدا تأتي عليه إحداهما، برواية قصّة حياتها مع زوجها المطارد، أوسيرته في المقاومة، أو أحداث وقعت في حروب متوالية على غزّة، أو فيما يتعلّق بالمرأة في سجون المحتلّ، أو من ذكريات النّكبة على ألسنة أناس هجّروا للمرّة الثانية وكانوا قد شهدوا الهجرة الأولى، وتنهي هيام قصّتها بلوحة يوم استشهاد زوجها يحيى، أمّا وداد فتنهي قصّتها بيوم استشهادها ولكن بلسان الكاتبة نردين، فإن قلت الرواية كتاب مذكّرات فهي كذلك، وإن قلت هي جزء من سيرة حياة للبطلتين وزوجيهما فلن تجانب الصّواب، وإن قلت فيها هي توثيق لأحداث من المقاومة فأنت كذلك مصيب، فالرّواية ليست من نسج الخيال، بل هي أحداث وقعت بحقّ، و للكاتبة فضل النّسج الرّوائي البديع المؤثّر، والبديع أنّ الروائيّة وصلت بين هذه اللّوحات والأحداث ببناء علاقة متينة بين هيام ووداد، اللتين لم تلتقيا ولم تتعارفا، بل معرفة وداد بهيام كانت عن طريق دفتر ذكرياتها الذي دفعه إليها زوجها القائد يوسف كي تقرأه في حال غيابه فتكسر به وحدتها، تقول وداد: ” وقبل أن يخرج ناولني بيده دفترا صغيرا، دفترا مهترئا، أوراقه صفراء بالية، مكتوبا على غلافه الخارجيّ اسم هيام… قال لي هذه مذكّرات هيام كتبتها عندما كانت في غزّة بصحبة زوجها المطارد، أنا واثق أنّها ستكون ملاذا لك تأوين إليه حين يستعصي عليك فهم وشرح ما لا يُشرح”. (ص21) فكان يفصل بين هيام ووداد خمسة عشر عاما، تأثّرت وداد بهيام من خلال هذا الدّفتر تقول: ” أصبحت هناك رابطة قويّة بيني وبينها، تحرّرت من مخاوف كثيرة، أصبحت أكثر خفّة وحبّا للحياة التي أحيا”، وتسترسل قائلة: ” عندما فتحت الصّفحة الأولى شعرت بكلماتها تتسلّل مباشرة إلى قلبي… فقد اكتشفت أنّها وصلت لسدرة العشق التي وصلت إليها.” (ص27)، فمن خلال هذا الدّفتر البسيط المصفرّ الذي استودعته هيامُ يوسفَ أمانة، خشية أن تتعرّض للمساءلة في أثناء رحيلها من غزّة إلى الضفّة الغربيّة بعد استشهاد يحيى، استطاعت الكاتبة أن تضمّ تجربة وداد إلى تجربة هيام، لتخرجا بشخصيّة واحدة هي شخصيّة المرأة المسلمة المؤمنة الفلسطينيّة المقاومة التي تبذل حياتها في سبيل الله، بزواج من مطارد مقاوم، مطلوب رأسه للاحتلال، ومهدّد بالقتل في كلّ لحظة، وهي أيضا في الوقت نفسه مهدّدة معه، وهذا ما كان استشهد يحيى ونجت هيام، واستشهدت وداد ونجا زوجها يوسف القائد، فكانت خيوط الحبكة متينة، فهيام تعرّفت إلى يوسف يوم أن أحضرها بنفسه ليحيى من الضّفّة إلى غزّة، ويحيى هو صاحب يوسف في المقاومة وزميله، ويوسف هذا زوج وداد، ولكنّ المقاومة هي خيوط الحبكة في نهاية المطاف. ما يهمّنا في هذه القراءة هو تبيان ملامح شخصيّة هاتين المرأتين، مع أنّ كلّ ما ورد في تلك اللّوحات جدير بالوقوف والتّحليل، لكنّ الفكرة الرّئيسة التي تدور عليها الرّواية وهي الزّواج من الرّجل المقاوم، تجمل قراءتها كلّ اللوحات.
الإخلاص الخالص
تقول وداد التي لم تستطع عند استشهاد زوجها بلال أن تقول اللّهمّ أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها: ” ولا أستطيع النّطق بها ولا بغيرها، لكنّني سمعت قلبي يردّدها”، فهذه العبارة الإيمانيّة التي تعبّر عن الصّبر لدى المصيبة والتي تجري على لسان كلّ مؤمن مصاب، وهي من السّنّة، تكشف هنا عن صراع داخليّ بين المقولة كسنّة، وما يفهم منها من دعاء بأن تُبدل بزوجها الشّهيد زوجا آخر خيرا لها منه، إذن هي حتى في دعائها كانت مخلصة له.
وقبل أن توافق على زواجها من يوسف تقول: ” كانت تعنيني مقاومته ورجولته، وما بين الرّجولة والذّكورة رائحة تعرفها، امرأة طاعنة في حبّ الوطن، وما بين السّبع والنّذل خطوة بلا أقدام كما يوسف الذي فقد ساقيه في إحدى غارات الاحتلال” ص13-14. فهي حبّا للوطن وتقديرا للمقاوم البطل ترضى به بلا قدمين، ولا ترضى بالنّذل ذي القوّة وذي السّاقين، وهنا تتجلّى ظاهرة إعجاب المرأة التي تدرك معنى الوطن وتدرك معنى الاحتلال والظّلم والقهر، بالبطولة والرّجولة وإعجابها بالمقاومين وتقدير مقامهم العليّ في المجتمع.
حياة زوجيّة من نوع آخر
هل كانت وداد على دراية بطبيعة الحياة التي ستعيشها معه؟ تقول: ” قبلت به وأنا أعرف مصيري القادم، قال لي: لا مكان لك آتيك فيه كما الزّوجات، ولا عنوان لبيتنا، ولا زمان للقائي بك، ولا تواصل بلا ميعاد، ولا زيارات طائشة، ولا محادثات تلفونيّة للاطمئنان، ولا كلمات تتطاير هنا وهناك حتى مع أكثر الناس قربا” (ص14). نعم كان صريحا معها، وهذا نمط حياة المقاوم، ولا نقول شروطه، فقبلتْه بها زوجا، فكانت تضحية عظيمة منها. ماذا تقول طبيعة وداد الأنثويّة؟ وهل ندمت على قرارها؟ تقول في نفسها: ” استغربت من نفسي لوهلة وأطلت التّفكير، هل ما فعلته كان صوابا؟ وكيف أقبل وأنا الفتاة العشرينيّة برجل أربعينيّ مقعد، حصدت إسرائيل قدميه في محاولة الاغتيال الأخيرة؟!… قلت: نعم، وكانت أجمل نعم قلتها في حياتي”.( ص17)تقول هيام مجيبة عن سؤال ماذا يعني أن تتزوّجي مقاوما؟: ” يعني أن يكون الوطن على مقاس يده، وبلون دمه، وبحجم قلبه، أن يأخذ بيدك إلى الله فتعرفين أنّ للسّماء أبوابا لا تغلق، وأنّ للمقاومة لحنا لا بدّ أن يُسمع، أن تتزوّجي مقاوما يعني أن تضيئي كلّ أنوارك، ويصبح هو أرضك وسماءك”. ص41وتقول بكل فخر: ” ولكنّني عرفت شيئا واحدا هو أنّ الفتيات في الأرض كلّ الأرض يتزوجن ذكورا، أمّا أنا فقد تزوجت رجلا بأجنحة…” ص42لم تدرك هيام خطورة ما يعمل يحيى إلا عندما اقتحم الجيش بيتهم في رفات، وكانوا كلّما لمسوا قطعة أثاث يصرخون بهستيريا: مفخّخة. تقول بعدها خيّرني يحيى فقال لي: ” ولك الخيار إمّا أن تبقي معي وتتحمّلي تبعات قرارك، وإمّا…. ” تقول: ” وبكيت وبكيت كما لم أبك في حياتي، وأنا معك لآخرِ نَفَس، حينها ابتسم وضمّني إليه وشعرت نفسي كلؤلؤة في محارة.” ص86 وتكون وداد عونا ليوسف الذي يتألم لمشهد الأطفال على شاطئ البحر بعد الحرب يطلقون البالونات المكتوب عليها أسماء الشهداء، فيشعر بالعجز والأسى، تقول له: ” الإنسان العادي هو الذي يشعر بالألم… أمّا المقاوم فهو الذي يحمل بشارة النّصر بين جناحيه، الألم هو هو، ولكن كيف نستقبله هو المهمّ، صدقني الألم يأتي على قدر الوسع”. فهذه كلمات لا تخرج إلا من مخزون إيمانيّ عظيم، يمتزج فيه الإيمان بنصر المقاومة، والإيمان بقضاء الله وقدره. والنّظرة الواثقة المكبرة للفعل المقاوم. ويقول يحيى لهيام: ” في المواقف الصّعبة أراك كشجرة الصّنوبر قويّة شامخة تقف في وجه أعتى الرّياح، وأراك كعطر الياسمين تتهادين أمامي شفّافة رقيقة فيخفق قلبي شوقا وحبّا وأنت بين يديّ” ص42، فهذه شهادة الزّوج التي لا يُشكّ في صدقها.
التأثّر والفخر
تقول وداد: ” كم كان يحزّ في قلبي جواب أمّي عندما تسألها إحدى النّساء ممّن تزوّجت وداد؟ فتقول لهم: إنّه رجل كبير في السّنّ يسكن في المنطقة الوسطى وله أولاد كبار، حتى عمّي الذي يسكن في الطّابق السّفليّ لم يكن يعرف من هو زوجي” (ص23). وتقول مفتخرة بالقائد يوسف: ” لا بدّ أن أكتب لأخبرهم (أي شعبه) أني عرفت رائحة عطره الممتزجة بتراب الوطن ورائحة البارود، لأقول لهم أنّي مسحت غبار نعليه المعفّرين بتراب المقاومة، أجلّه فوق رؤوس الطّغاة والسّفاحين… لأخبرهم عن لون عينيه، وشكل ابتسامته، وقصّة شعره، فأنا وحدي من أغرق في مسامات جلده، وأتلمّس تفاصيل وجهه.” ص25، فهل بعد هذا الفخر فخر؟! ألا تعدّ صاحبة هذا القول مستغرقة بفكرها ومشاعرها في المقاومة؟ قد تأثرت به أو استطاع هو التّأثير فيها، تقول: ” تركتَ فيّ بعضا من نخوة الفرسان، بعضا من يقينك، وألف ألف مهرة تقوى على القفز فوق النّار” ص37
هذا الأمر لم يكن يزعجني
أمّا عن صورة حياتها الزّوجيّة مع هذا القائد المطارد فتقول: ” كلّ لقاء كان مع يوسف كان سرّيّا لا يعلم به أحد، كلّ لقاء له بصمة كبصمة الإصبع لا يمكن أن يتكرّر أو يتشابه، المكان مختلف، التّوقيت مختلف، المرسال مختلف، النّبض يكتسي البنفسج حينا، وقصائد حينا آخر، الذّهاب من طريق والعودة من طريق آخر… النّاس الذين سألتقي بيوسف عندهم أيضا مختلفون، أحيانا أحبّهم وأشعر كأنّهم أهلي، وأحيانا أشعر بحاجز بيني وبينهم. وتقول: برمجت كلّ حياتي، ساعات نومي واستيقاظي، ذهابي وإيابي، وفق مؤشّر ساعته… في كلّ مرّة أخرج من بيتي لا بدّ أن أغيّر لون ثيابي وحذائي، وحقيبة يدي، حتى لو خرجت في اليوم أربع أو عشر مرّات… وحتى عندما أذهب لبيت أهلي كان لزاما عليّ أن أسلك في كلّ مرّة طريقا مختلفة، حتى لو كانت الطّريق أطول وأصعب وأشقّ… لم أكن أمتلك هاتفَ جوالٍ، ولم يمكن مسموحا لي أن أستخدم أيّة وسيلة اتّصال حديثة ولا غير حديثة، ولا أيّ وسيلة تخترق الهوس الأمنيّ. وهذا الأمر لم يكن يزعجني… وهذا أحتمله أيضا، ولكن ما لا أحتمله أن يمضي قبلي، فأنا لست أطيق رحيلا ثانيا، إمّا أن أرحل قبله أو نرحل سويّا”. ص57-58. هل صدقت في هذا؟ الجواب عند يوسف الزّوج والقائد، إذ يقول لها: ” لو طلبتُها مفصّلة على المقاس ما كانت ستكون هكذا” ص60نعم، جاءت وداد على مقاس حياته وهدفه وانتمائه وإيمانه. أمّا هيام فتقول: ” في كلّ بيت لم نكن نمكث أكثر من أسبوع، أشعر بأنّي كرة، كلّ يوم أتدحرج في حيّ من أحياء غزّة، فأكبر بحكايا ومشاهد أكتبها، ولا أدري إن كانت سترى النّور، أكتبها كي أتحرّر من مخاوفي وارتجافي…” ص77وتقول هيام: ” الانتقال من بيت إلى آخر يعني أنّ هناك ثمّة مقاوما مطاردا وثمّة أرضا عطشى، وثمّة خائنا يترصّدا… ومع أنّنا بلا عنوان ونشتهي عتبة دائمة، ورشفة فنجان قهوة تجمعنا، ودرجات تحفظ خطانا وتُغرم بنا وتحنّ لنا، إلا أنّني أتلذّذ بكل هذه الفوضى؛ لأنّها تعني المزيد من الوقت المسروق الذي سأقضيه مع يحيى.” ص106، هذا شعور الزّوجة الفطريّ، الاستقرار فمن حقّها أن تبوح، ولكنّ قلقها الأكبر كان على زوجها، فتتقبل كلّ هذه الفوضى لتبقى مع يحيى المطارد، الذي تتوقّع فراقه في أيّة لحظة، فهي تعيش بين الفوضى والخوف من الفقد.
السّرّيّة والحاجة للبوح، صراع نفسيّ في وداد
وفي هذا تقول وداد: ” لست قدّيسة، فأنا امرأة من شوق ونار، امرأة تنظم أسرارها كعقد ماسيّ، تحتاج في لحظات كثيرة أن ترتديه وتباهي به وتضيء، أستعيد نفسي من نفسي، وأعود لأمارس دوري في الاستماع لصديقة عمري التي لن تتخيّل من أكون… حتى صديقتي الوحيدة لا أستطيع أن أبوح لها بأيّة مشاعر”. ص60-61
اندماج المرأة فكرا ومشاعرا مع المقاومة
تقول هيام: ” أسمع عدنان الغول يقول ليحيى بإصرار غير عادي: على المقاومة أن تمتلك السّلاح وأن تصنّعه محلّيّا، لن نتسول قطعة سلاح من هنا وأخرى من هناك، يالله! كم كنت أعشق لحن هذه الكلمات، أحسّها يمكن أن تغنّى وأن يطرب لها كلّ حرّ”. ص64، بهذه العبارة بدت هيام مدركة مهمّتها جيّدا، وممتزجة بالثّورة والمقاومة مثل زوجها وباقي رفاقه، ثمّ إنّها تعي تماما قيمة عملهم هذا فتقول: “أحببتهم وتمنّيت أن أظلّ العمر كلّه بجانبهم… لأنّهم يسترون عري العرب كلّهم، يربأون أن يصافحوا ويهادنوا ويقبّلوا فاه الخطيئة…” ص64 وتلخّص كلّ هذا بقولها: ” بالقرب منهم اكتشفت أنّ الطّهارة هي أن تتوضّأ برمل الوطن”. ص67 ومن مواقف البطولة لهيام موقف تذكّرته وهي تودع يحيى شهيدا، والذي في إثره قال لها يحيى: ” أخت رجال والله يا هيام”، وخلاصته أنّها في إحدى ليالي شهر رمضان كانت تعدّ سحورا لاثنين وعشرين مطاردا، يأتون عند السّحور، فسمعت همهمة حول البيت، فظنّتهم قد جاءوا، فلمّا استطلعت الأمر وجدتهم جيشا يطوّقون البيت، ففتحت الباب لتخرج لتنذرهم، فإذا بجمع كبير من الجنود لدى الباب، فتحايلت على قائدهم، بأنّ (الحاجّ) سيموت وتريد أن تجلب له طبيبا فأذن لها بالخروج، فذهبت إلى المسجد، لتطلب من إمام المسجد أن ينادي في سمّاعة المسجد ويحذّرهم من القدوم إلى البيت، فنادى في ثنايا التّسبيح بالنّداء الآتي: حُوْشْ يا صاحب الكرم حُوْش… وذيال البلد مليانة وحوش… لبن يا تيس… افهم يا حمار”. فسمعوه ففهموا فنجوا من الكمين، وباء العدوّ بالفشل. (انظر: ص 173). وتركت هيام غزّة بعد استشهاد يحيى وروت مشاعرها تجاه غزّة وأهلها والمقاومة ورجالها بكل صدق وحنين وتعلّق. أمّا وداد فكانت صاحبة اللّوحة الأخيرة، التي وثّقت الكاتبة لحظة استشهادها وزفّها شهيدة ووداع يوسف ووالديها وأختها وأهل غزّة وانكشاف سرّها، على لسانها، فكأنّ الكاتبة أرادت أن تقول لها مطمئنة: عرفنا البطلة وسرّها.
وختاما
أرى أنّ هذه الرّواية توثيقيّة في كلّ تفاصيلها، وهي رواية نسويّة صادقة، تعطيك بعض السّرّ في نجاح المقاومة، فالبطولة لا تكمن في حليب الأمّ وتربيتها، بل هي أيضا في الزّوجة التي تسند زوجها المقاوم، وتكون معه في كلّ التّفاصيل، وهي كذلك في الأخت، وسائر النّساء من حول المقاوم، اللّائي كنّ الحاضنة للمقاوم وزوجته. والحقّ أنّ في هذه الرّواية جوانب كبيرة وعديدة تستحقّ الدّراسة. وفوق ذلك فإنّ القوالب الفنّيّة التي سُبكت فيها، واللّغة، ورسم الشّخصيّات، والوقوف على الصّراعات الخارجيّة والدّاخليّة، والحبكة، وفنّ التّصوير، وفنّ السّرد والحوار، وغيرها تشكّل مادّة ثرّة للدّراسة والتّدريس. وهنا المقام لا يتّسع للمزيد، إذ كان وقوفا على هاتين الشّخصيّتين الرّئيستين وتأمّلا فيهما، وإن كان منقوصا.