المدية .. قصة قصيرة

 وليدة محمد عنتابي | ناقدة وأديبة سورية 
تسلّلت في ظلام مشاعرها إلى سراديب حزنها الدفين , ثمّة قلبها الطّيب قابع أسفل السّلم ..
بمدية آلامها التي شحنتها السّنوات الطويلة لعذابات بات تحملّها فوق قدراتها الأسطوريّة تمنطقت تحت وشاح ذلّها الذي انتفض مبلّلاً بدم مساماتها المتفجّرة عيوناً تغسل صدأ تراكم الهموم وتكلّس الأوجاع .. هبطت درجة .. اثنتين .. ثلاث … اهتزّت أمام عينيها المرئيات , امتدّت يدها تتلمّس جدران ذاتها المتصدّعة في كلّ اتجاه ..لا شيء سوى الخواء ينوّس تحت وطأة ذاكرتها المستباحة …
_: ( ألم تنهض بعد يا حبيبي ؟ أوشكت قهوتك أن تبرد ..)
بفظاظة شارخة استدار إلى المنبّه قرب رأسه ..
_ ؛ ( على مهلك .. لماذا لم توقظيني قبل الآن ؟)
استجمعت رقّتها المهدورة عبثاً , انحنت عليه مسّته بشفتيها العليلتين كنسيم الصّباح ..
_ : ( ألم تسمع المنبّه يا عزيزي ؟ ثمّ أنّك تعلم مسبقاً بحاجتنا إلى اللبن ..)
عربدت الرّياح خلف زجاج عينيه تفجّرت حمم شتائمه فوق وجهها الذاهل .. تساقطت فوق رأسها أحجار جهنم وانهالت فوقها سياط الزبانية … كان غطيطه المتواصل يمسك بتلابيب عقلها ويدفع بها إلى الجنون , دون أن تفلح في إيقاظه أو تغيير وضعية نومه.
_ : ( أنت تعلم جيداً أنني لا أنام بسبب الموسيقا التي تعزفها أنفاسك طوال الليل , ومع ذلك أنهض قبلك وأوقظك , ولا يرضيك
..).
_ : ( اخرسي يا بنت ال ….)
أصابها عمىً مفاجئ .. صكّ صممُ ظالمٌ أذنيها ..هرولت إلى المطبخ , فتحت باب الشّرفة واحتمت وراءه بكلّ تشبثها , وإحساسها بالمرارة , والتزام الهدوء ..ريثما ينحسر قليلاً طوفان الحمم ..
زلزلت الأرض , تطايرت الأطباق والأكواب رقّطت القهوة جدران الصّالة برسوم سوداوية .. تكدّست فوق بعضها جثثاً هامدة .
سرت برودة واخزة في أوصالها .. نهضت مترنّحة تحاول الهبوط إلى الهاوية .. هدر زعيقه الوحشيّ في أذنيها المنهكتين
_: (افتحي يا .. يا….).
امتدّت يدها إلى حزامها تحسّست المدية , وبأعصاب متجمّدة وحركة آلية سحبتها من مكمنها , وشهرتها أمام عينيها الغائمتين بدموع متحجّرة …
انهالت الركلات والضربات على الباب الموصد , وانهالت معها السنوات العشر لزواج علّق خلاله حيّز وجودها حينما علّقت شهادة الهندسة على جدران النسيان , تلك الشّهادة التي باتت مجرّد ورقة صفراء تحت زجاج بارد محايد يؤطّرها الجمود واللامبالاة , أقصى ما تطمح إليه أن يزال الغبار عنها بين الحين والحين ..
كان الضباب الذي ترعرع فيه أطفالها الثلاثة ينوّسهم زمن أغبر لا إنسانيّ .. رغم سلسلة تضحياتها الطويلة المرهقة وتحملاتها العجائبية لنزوات الجنون والسّادية وبطلان الحجج , فجأة ساد صمت مشبوه أذنيها المرهفتين ..وبحذر وتوجّس فتحت الباب والمدية أمام عينيها .. كانت تهبط السّلم حتى آخر درك , وفي قاع بؤسها ومذلّتها كان قلبها الأ بيض مكلّلاً بالشحوب , يرتجف على قدميها وقد احتضنته أذرع أطفالها ببراءة تنفطر لها الصّخور ..
كانت أصوات الأطفال بعيدة يشتدّ بكاؤهم بين الحين والآخر … بينما كانت قلوبهم المتصدّعة تتراءى لعينيها على قارعة زمنها المغتال تتوسّل بعضاً من أمّ …
انفكّت أصابعها المتشنّجة , هرولت نحو أطفالها وقد أيقظهم البركان الذي بدأ يدمرهم …
ضمّتهم إلى صدرها بعذوبة وإشفاق ..
_: ( ماما .. ماذا حدث ؟..)
_ : ( لا شيء ياصغاري .. إنّه كابوس , لا تخافوا .. )
انحسر الأحمر يجرّ الأسود وراءه بعيداً ..أورقت على شفتيها ابتسامة رؤوم .. وعلى أرضية محايدة سقطت المدية مضرّجة بخذلانها …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى