الدكتور عبد الحميد شلبي ومدرسة التاريخ في جامعة الأزهر

أبو الحسن الجمال | كاتب ومؤرخ مصري

    عرفت الأستاذ الدكتور عبد الحميد شلبي منذ عقدين حينما قرأت كتابه “العلاقات السياسية بين مصر والعراق 1951-1963م” الذي صدر عن سلسلة تاريخ المصريين، وسعيت إليه والتقيته وأهداني كل مؤلفاته ولم تتوقف الاتصالات بيني وبينه، وحكى لي ذكرياته مع أساتذته من أمثال: الدكتور محمود صالح منسي، والدكتور محمد علي حلة، والدكتور عبد العزيز غنيم، ثم حدثني أيضاً عن أعلام كلية اللغة العربية بالمنصورة التي يعمل بها من أمثال: الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي، والأستاذ الدكتور إبراهيم عوضين وغيرهم. وهذه الأحاديث والذكريات كانت حافزاً لي لأجرى معه هذا الحوار التي وقبل أن ندلف إليه لابد من الإشارة بنبذة يسيرة عن حياته وتعلمه ومؤلفاته.

       ولد عبد الحميد عبد الجليل أحمد شلبي في مدينة القاهرة، في الثالث من شهر يوليو سنة 1964، لأسرة بسيطة، وحفظ القرآن الكريم في صباه المبكر وتعلم في المرحلة الإبتدائية والإعدادية بمدارس التربية والتعليم، ثم التحق بالأزهر الشريف بمعهد مصر الجديدة الثانوي، ثم التحق بكلية اللغة العربية بالقاهرة واختار شعبة التاريخ والحضارة وتخرج بتفوق سنة 1987، وعين معيداً في كلية اللغة العربية بالمنصورة سنة 1989، ثم أكمل دراساته العليا وحصل على الماجستير من كلية اللغة العربية بالقاهرة في رسالة بعنوان “سياسة العراق الخارجية في عهد الملك غازي الأول 1933-1939م” عام 1992، ومن نفس الكلية أيضاً حصل على الدكتوراه في رسالة بعنوان “العلاقات السياسية بين مصر والعراق 1951-1963م” سنة 1996، وكلتا الرسالتين بإشراف الدكتور محمود صالح منسي، وتدرج في الوظائف حتى حصل على الأستاذية في التاريخ الحديث والمعاصر في 4 يناير سنة 2006.

    وقد أعير للعمل بكلية التربية (العلوم التطبيقية حالياً) بصحار – سلطنة عمان في الفترة من أغسطس 1999م وحتى أغسطس 2009م. وشغل هناك منصب رئيس وحدة التاريخ بقسم الدراسات الاجتماعية في الفترة من  2002 – 2007م، ثم عاد إلى عمان مرة ليعمل أستاذاً زائراً بكلية الآداب جامعة السلطان قابوس في العام الدراسي 2017/2018. وقد تولى رئاسة قسم التاريخ قسم التاريخ والحضارة بكلية اللغة العربية بالمنصورة ج/الأزهر منذ أغسطس 2013م حتى تاريخه.

      وقد أثرى الدكتور عبد الحميد شلبي المكتبة العربية بالعشرات من الكتب والبحوث، من كتبه نذكر: “حلف بغداد في الوثائق المصرية” جزآن (دار الكتب والوثائق المصرية 2015م)، ومن الأبحاث “/  الاعتراف الإيراني بإسرائيل وموقف العرب منه ( مجلة الروزنامة /دار الكتب والوثائق المصرية العدد الثامن 2010م، “مذبحة الأسكندرية في الوثائق الإيطالية (ملف وثائقي)” / مجلة مصر الحديثة / دار الكتب والوثائق المصرية/ العدد الخامس عشر/ 2016م، و الطائفية والعرقية في الوطن  العربي سايكس بيكو جديدة” (كتاب / ندوة العالم العربي بعد مائة عام من سايكس بيكو (دار الكتب والوثائق المصرية/ مركز تاريخ مصر المعاصر / 2017م)، و”دور عمان السياسي والحضاري تجاه القضايا العربية في الصحافة المصرية 1970 -1980 م “( كتاب / صورة عمان في الإعلام العالمي: الصحف والمجلات العربية / سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية العدد 19 / سلطنة عُمان / هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية 2019م)، و”موقف الصين من حرب السويس 1956م “قراءة في وثائق الخارجية المصرية”، (كتاب/ العرب والصين؛ مستقبل العلاقة مع قوة صاعدة (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فبراير 2019م)، و”ملف وثائقي بعنوان/ ثورة 1919م في الوثائق البريطانية” (مجلة الروزنامة/ دار الكتب والوثائق المصرية العدد 17 مج 17./ 2019م) وغيرها..

      وفي حوارنا التالي سرد لنا الدكتور عبد الحميد شلبي محطات من حياته ونشأته وسر التحاقه بالأزهر في المرحلة الثانوية بعد أن أمضى تسع سنوات بالتعليم العام، وقد ساهم الأزهر في صقل شخصيته؛ لأنه نشأ مفطوراً على حب العلم، فحفظ القرآن الكريم وتدبر معانيه وقراءة كتب السيرة والحديث والفقه، وهذه العلوم تلقاها على يد أصدقاء والده العلماء الذين كانوا يؤمون جلسات الوالد في منزله، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه ورب ضارة نافعة، فقد كان الدكتور عبد الحميد شلبي يود أن يلتحق بكلية اللغات والترجمة عقب حصوله على الشهادة الثانوية الأزهرية، ولكن مجموعه جعله يلتحق بكلية اللغة العربية أقدم كليات الجامع الأزهر، والعجيب أنه كان لا يهوى التاريخ ولكنه أحبه بعدما تلقى العلم أيدي ثلة من أساتذة التاريخ بهذه الكلية العريقة وحصل على أعلى الدرجات، كما حدثنا عن رحلاته في طلب العلم وتدريسه للتاريخ في سلطنة عمان، حيث مكث هناك قرابة العشر سنوات، ولم ينس في خضم هذا الحديث أن يحدثنا عن مدرسة التاريخ في جامعة الأزهر، وهي قديمة قدم الجامع الأزهر على مدار ألف عام وبضع عقود، وقد تطورت على مدار القرون إلى وضعها الحالي وهي لها تأثير في خارطة البحث العلمي وقدمت أعلام كثر .. وموضوعات أخرى سوف نطالعها في حوارنا التالي..

حدثنا عن النشأة وكيف كان لها الأثر في مسيرتك العلمية بعد ذلك؟

– كان المولد والنشأة في أحد الأحياء الشعبية العريقة وهو حي الشرابية بالقاهرة (يبتعد عن محطة قطارات باب الحديد محطة واحدة بمترو الأنفاق) ، فقد ولدت في هذا الحي عام 1964م ، لأسرة متوسطة الحال ، وبعد بلوغي سن الرابعة أرسلني والدي – رحمه الله – إلى كُتاب الشيخ حسن بالقرب من بيت العائلة ، تلقيت في الكُتاب مباديء القراءة والكتابة وبعض العمليات الحسابية البسيطة، كما تعلمت بعض الأخلاق والآداب الإسلامية إما عن طريق التلقين أو عن طريق سلوك الشيوخ الذين تعلمنا على آيديهم (رحمهم الله جميعًا) .

   لم يكتف والدي بالكُتاب بل كان يرسلني وأختي إلى أحد أقربائنا من أجل استظهار القرآن الكريم، وعند هذا الشيخ تعلمنا قيمة أخرى وهي أن نحترم من أنعم الله عليهم بفقد البصر ولا نسيء إليهم بحجة أنهم لايبصرون، فإن كان الله قد ابتلاهم بفقد البصر فقد أنعم عليهم بالبصيرة، وذلك لأننا حاولنا أن نستغل فيه هذا الأمر (كف البصر) فبدلاً من تسميع الواجب قمنا بقراءته من المصحف فادرك ذلك ببصيرته وكان يومًا مشهودًا تعلمنا فيه درسًا لايُنسى في احترام الآخر .

  كان للكُتاب أثر كبير بعد ذلك في حياتي العلمية حينما التحقت بالمدرسة الابتدائية ، إذ كنت بفضل الله تعالى مميزًا بين كثير من أقراني بسبب إتقاني للقراءة والكتابة في هذه السن المبكرة.

 لماذا اخترت الدراسة في الأزهر الشريف منذ البداية؟

  – لم أكن من المحظوظين بالالتحاق بالأزهر منذ بداية التعليم بل حصلت على المرحلتين الإبتدائية والإعدادية من المدارس الأميرية (التعليم العام)،  وكان السبب في ذلك أن المنطقة التي نشأت فيها لم يكن بها أية معاهد أزهرية، وكان أقرب معهد على ما أتذكر في منطقة شبرا ويبعد عن منطقتنا بضعة كيلومترات وكان في ذلك الوقت من الصعوبة بمكان أن يذهب طفل صغير إلى هذه المناطق البعيدة منفردًا مع ندرة المواصلات وصعوبتها ، ومع رقة حال الأسرة وعدم تمكنها من توفير مايلزم من مصاريف للتنقلات .

    أما عن التحاقي بالأزهر الشريف (وهو شرف لكل من ينتسب إليه) فكان بسبب عدم حصولي على المجموع اللازم للالتحاق بالثانوية العامة ، وكانت أختي قد سبقتني إلى التعليم الأزهري فرأى والدي أن التحق بالأزهر لأنال بذلك الحسنيين، التعليم الديني والتعليم الثانوي، وقد التحقت (بعد اجتياز الاختبارات اللازمة) بمعهد مصر الجديدة الثانوي العسكري بميدان الحجاز وكان هو المعهد الوحيد العسكري (على حد علمي) في ذلك الوقت، حيث تعلمنا فيه الانضباط وحسن التصرف، وكان ذلك من أقدار الله لتتفتح مداركي على دراسات جديدة  ، ولكي اصل إلى ما وصلت إليه اليوم بفضل الله تعالى، ثم بفضل والدي وببركة الدراسة في الأزهر الشريف.

   وأستطيع أن اقول أن الجيل الذي أنتمي إليه من الأزاهرة كنا ممن أنعم الله عليهم لأننا أدركنا بعضًا من خير التعليم الأزهري ، فقد رزقنا الله بعدد من الأساتذة المخلصون في عملهم ممن عملوا لا من أجل مال بل من أجل رفعة دينهم وأمتهم .

   وكنا من المحظوظين آيضًا لأن عدوى الدروس الخصوصية لم تكن بهذا الانتشار الفاحش ، كما أنها كانت موجودة بدرجة ما في التعليم الثانوي العام وتكاد تكون منعدمة في التعليم الأزهري ، ومن كان يتلقى دروسًا خصوصية كان يتوارى من القوم من سوء صنيعه ، وظللت في معهد مصر الجديدة حتى من الله علي بالحصول على الشهادة الثانوية الأزهرية وكان ذلك في العام الدراسي 1982/1983م

ما هو الدافع الذي جعلك تختار دراسة التاريخ في كلية عريقة مثل اللغة العربية بالقاهرة؟

– تستطيع أن تقول أن أقدار الله هي التي ساقتني إلى ذلك التخصص وستأتيك المفاجأة ، فأثناء دراستي للثانوية الأزهرية كنت أعمل مجتهدًا للحصول على مجموع يؤهلني للالتحاق بكلية اللغات والترجمة ، والسبب في ذلك أنني في ذلك الوقت كنت أتلقى دروسًا (كورسات) في اللغة الإنجليزية في الجامعة الأمريكية بالتحرير ، وكنت قد وصلت إلى مرحلة لابأس بها من اللغة ، وكنت أود الجمع بين الدراسة المتخصصة وبين الدراسة الحرة ، ولكن بعد حصولي على الشهادة الثانوية الأزهرية شاءت إرادة الله ألا أحصل على المجموع الذي يؤهلني للالتحاق بكلية اللغات والترجمة ، وجاء التنسيق مبشرًا بكلية اللغة العربية بالقاهرة ، تلك الكلية العريقة التي هي ثالثة ثلاثة من الكليات الشرعية الأصيلة في جامعة الأزهر بعد كليتي أصول الدين والشريعة ، وكان بالكلية ثلاثة اقسام هي: الشعبة العامة ( وهي خاصة بدراسة اللغة العربية) ، والصحافة والإعلام ( انفصل القسم بعد ثورة يناير 2011م وأصبح هو الأساس الذي قامت عليه كلية الإعلام) ،و أخيرًا قسم التاريخ والحضارة .

   وعن التحاقي بقسم التاريخ قلت لك ستأتيك المفاجأة وهي أنني كنت أستثقل دراسة التاريخ لأننا حينما درسناها في المراحل الأولى كانت عبارة عن مادة صماء تعودنا في دراستها على الحفظ وليس الفهم ، لكنني آثرت الالتحاق بقسم التاريخ (على الرغم من عدم تحمسي للتاريخ بشكل عام) لسببين ، أولاهما : أنه كان أيسر الأقسام في دراسته، وثانيهما : (وهو الأهم عندي) ، أنني كنت قد انتويت دراسة السياحة في الجامعة الأمريكية (الدراسات الحرة) وكنت شغوفًا بالأثار المصرية القديمة  واتمنى العمل بالسياحة ، فهنا التقت مرة أخرى الدراسة الأكاديمية مع الدراسة الحرة، وقد التحقت ببرنامج السياحة في الجامعة الأمريكية أثناء دراستي الجامعية وحصلت بجانب ليسانس التاريخ والحضارة من كلية اللغة العربية بالقاهرة على دبلوم السياحة والسفر من الجامعة الأمريكية ، وقد عملت بالفعل بالسياحة (كمتدرب) لمدة شهرين في شركة كبرى في شارع قصر النيل وهي شركة (إيستمار للسياحة) ، ولكننني تركتها بعد أن عُينتُ معيدًا في قسم التاريخ والحضارة بكلية اللغة العربية بالمنصورة.

حدثني عن الأستاذ القدوة في حياتك وذكرياتك مع الأساتذة الآخرين؟

– أثناء دراستي الجامعية من الله علينا باساتذة أجلاء استطاعوا بما حباهم الله به من علم ومن حسن أداء وإخلاص ان يحببوا إلينا التخصص ، وبعدما كنت لا اطيق للتاريخ درسًا أصبحت أعشق التاريخ عشقًا لا يضاهيه عشق .

   ومن أوائل الأساتذة الذين تلقيت العلم عليهم أ.د. عبد العزيز غنيم (رحمه الله تعالى) ، وقد درس لنا مقرر تاريخ الأنبياء ، ولا أنسى محاضرته الأولى التي ذكر فيها عدة إشكاليات بحثية وعقلية في موضوع خلق سيدنا آدم وكيف عصى الله تعالى ثم تاب عليه؟ وكيف وسوس له الشيطان بعد أن خرج من الجنة ؟ وما هي الجنة المقصودة؟… إلخ، كل هذه التساؤلات تجعل المستمع يتفاعل معها ويعمل عقله في كل كلمة يتفوه بها هذا الأستاذ.

   وهناك الكثير من العلماء الأجلاء الذين سنأتي على ذكرهم لاحقًا. كما لاأنسى أ.د.محمد حلة (رحمه الله تعالى) الذي أتقن عمله معنا في مقرر البحث التاريخي  وتدريبنا على كيفية البحث والتنقيب عن المعلومة وصياغتها بأسلوب علمي.

    أما عن الأستاذ القدوة، وهو أستاذ التخصص في جامعة الأزهر بعد أ.د. عبد العزيز الشناوي، والأب الروحي لكثير من الأساتذة هو أ.د. محمود حسن صالح منسي (الشهير بـ د. محمود منسي)، فيرجع له الفضل بعد الله تعالى في دراستي للتاريخ الحديث ، فحينما التحقت بالدراسات العليا (الدراسات العليا في جامعة الأزهر إلى الأن تتم على عامين دراسيين) كان أستاذنا في الخارج ، وفي السنة الثانية جاء إلى مصر ودرس لنا تاريخ أوربا المعاصر، وكنا ندرس (من بين الكتب والمراجع) كتابه القيم الماتع عن الحرب العالمية الثانية وهو كتاب من الحجم الكبير (عدد صفحاته تربو عن 700 صفحة تقريبًا) ، وهنا تتجلى روح الأبوة في هذا الأستاذ حيث لم يكن يتاجر بمؤلفاته فقد أعطانا الكتاب (نحن طلاب الدراسات العليا) هدية، وأما عن مؤلفاته الأخرى كان يبيعها للطلاب بسعر التكلفة ، وهذا درس أخلاقي تعلمته منه منذ البداية .

   أما عن تتلمذي على يديه في مرحلتي الماجستير والدكتوراة فقد كانت أنموذجًا في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ ، فلم يكن مجرد أستاذ بل كان بمثابة الوالد لكل طلابه ، كما أنه لم يدعي (كما يفعل البعض الآن) أنه الأستاذ الأول وليس بعده أحد، فحينما كنت أعد نهاية عام 1990 الخطة لموضوع الماجستير عن الملك غازي الأول ملك العراق (1933- 1939م) طلب مني عرض فكرتي وخطتي على أ.د.السعيد رزق حجاج وهو أحد طلابه، لأنه كان يعمل في جامعة البصرة بالعراق وعاد بعد العدوان العراقي على الكويت وبذلك يمكنه مساعدتي بشكل جيد ، وبذلك يضرب المثل في التواضع العلمي ، وحدث ذات الأمر حينما كنت أعد الخطة للتسجيل للدكتوراة كنت قد وضعت خطة عن سياسة العراق الخارجية في الفترة من 1951- 1963م وقبل البدء في خطوات التسجيل طلب مني عرض الخطة على تلميذه النجيب وهو د.صابر عرب ، وجلسنا سويًا في قاعة مجلس قسم التاريخ والحضارة وراجعنا الخطة ثلاثتنا وانتهى الأمر على النزول على رأي د. صابر عرب بأن نكتفي بالعلاقات المصرية العراقية لذات الفترة حتى تكون الدراسية متعمقة ، وهذا مما يدل مرة أخرى على سعة أفق الأستاذ وتواضعه مع سعة علمه وقدراته.

    وكما كان التواضع من شيمته كان أيضًا مترفعًا عن سفاسف الأمورولم يكن لديه لدد في الخصومة مع الأخرين ، وأتذكر أن كان بينه وبين بعض الأساتذة في القسم خصومة  لأمر ما ، وكنت قد طلبت منه أن يرشح لي أحد الكتب في مقرر ما  لتدريسه على الطلاب فأشار علي بكتاب أحد هؤلاء الأساتذة فنظرت متعجبًا ففهم نظراتي ثم قال : لاتضع نفسك في خصومة مع أحد ، نحن زملاء وحتمًا ستزول المشكلات ونعود كما كنا ، وهذا درس آخر تعلمته في صمت لأنه وافق ما جبلت عليه منذ الصغر.

    ظلت علاقتي وزياراتي لأستاذي لم تنقطع اللهم إلا في فترات سفري للخارج حتى توفاه الله تعالى عام 2006م وكنت معارًا إلى سلطنة عمان فبكيته في غربتي، رحم الله النبل الذي تجسد فكان هذا الأستاذ.

مدرسة التاريخ في جامعة الأزهر ودورها في خارطة البحث التاريخي وأهم أعلامها؟

– شهدت أعمدة  وأروقة الأزهر دراسة التاريخ منذ بداياته الأولى ، فقد كانت حلقات دراسة التاريخ وتدريسه في الأزهر عامرة في العصر المملوكي، حتى أن عبد الرحمن بن خلدون حينما قدم إلى مصر عام 784هـ /1382م  ألقى دروساً في الأزهر حول فلسفة التاريخ، وكان الإقبال على هذه الدراسات التاريخية كبيراً، ولكن في العصر العثماني أهملت الدراسات التاريخية في الأزهر إلى حد ما، إلى أن وضع مجلس إدارة الأزهرسنة 1314هـ/1897م نظاماً للتدريس والامتحان بالأزهر، وفيه تقرر لأول مرة دراسة التاريخ الإسلامي وما يتصل بذلك من دراسة تقويم البلدان، ومقدمة ابن خلدون في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع وإن لم يلزم القانون الطلاب بالامتحان في التاريخ، ولكنه أشار إلى أنه يفضل من يعرفها على غيره في الوظائف والمرتبات .

   ثم توالت قوانين الإصلاح في الأزهر، التي هدفت إلى تحديث الدراسة فيه، وإدخال مناهج جديدة تلبي طموحات الطلاب والعلماء، إلى أن تم وضع القانون رقم 49 لسنة 1930م بإنشاء ثلاث كليات في الأزهر هي: « كلية اللغة العربية، وكلية الشريعة، وكلية أصول الدين»، وقد كان التاريخ يُدرس في كليتي أصول الدين، واللغة العربية.

وقد نص القانون (فيما يخص الدراسات التاريخية) على أن لخريجي القسم العالي بالأزهر (ما قبل نظام الكليات) ولخريجي الكليات الحديثة الحق في الالتحاق بشعبة التاريخ والأخلاق والتربية وعلم النفس، وتم افتتاح الدراسة فيهما في عام 1930م، وبذلك انتظم في هذه الشعبة الجديدة (شعبة التاريخ) طلبة من خريجي القسم العالي ممن كانوا يحضرون بالجامع الأزهر نفسه، وكان من بينهم رائد مدرسة التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر الشيخ يوسف علي يوسف أول رئيس جامعي لقسم التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر.

    وعلى عهد الشيخ المراغي تأكدت الدراسات التاريخية مرة أخرى وأنشئ لها قسم خاص بها تابع لكلية أصول الدين وذلك طبقاً للقانون رقم 26 لسنة 1936م، وكان من نتيجة هذا النظام أن انخرط فيه مجموعة من رواد الدراسات التاريخية بجامعة الأزهر، ثم انتقلت الدراسة بعد ذلك إلى كلية اللغة العربية، ومع إعلان قانون تطوير الأزهر لعام 1961م أصبحت شعبة التاريخ شعبة مستقلة في إطار كلية اللغة العربية، وعلى يد الرواد الأوائل تكونت أجيال من المؤرخين الأزهريين الذين ملئوا الدنيا بعلومهم ومؤلفاتهم ومنهم على سبيل المثال أ.د. يوسف علي يوسف ، أ.د.عبد الفتاح شحاته، وأ.د.إبراهيم شعوط ، أ.د.عبد الحميد بخيت، وأ.د. بدوي عبد اللطيف (ثالث  رئيس لجامعة الأزهر)، و أ.د. محمد الطيب النجار (الرئيس السادس لجامعة الأزهر)، أ.د. عبد المقصود نصار،  أ.د.جاد طه ، أ.د. عبد الشافي عبد اللطيف (عضو هيئة كبار العلماء ) ، أ.د. محمد علي حله، أ.د. حسين الهنيدي ، أ.د. السيد الدقن ، أ.د.مصطفى رمضان، أ.د.مجاهد الجندي (مؤرخ الأزهر) (رحمهم الله تعالى)، ومن الأحياء (متعهم الله بالصحة والعافية : أ.د. جبر أبو سعده ، وأ.د.محمد صابر عرب (تولى وزارة الثقافة أربع مرات في الفترة من عام 2012 – 2013م) وأ.د. محمد عبد القادر الخطيب، وأ.د. عبد المقصود الباشا … ، وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة بذكرهم.

كيف استفادت جامعة الأزهر من الجامعات الأخرى في مجال التاريخ؟

– تميزت المدرسة التاريخية في جامعة الأزهر بانتهاج المنهج العلمي التحليلي، بالاعتماد على المصادر الأصيلة والوثائق، فهم بحكم نشأتهم وتتلمذهم على مؤلفات ابن خلدون أدركوا مغزى مقولته الهامة : « أنه كثيراً ما وقع للمؤرخين أئمة النقل، من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم على مجرد النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط »، لذلك نجد أن من انتمى إلى المدرسة التاريخية الأزهرية قد تجنب – بقدر المستطاع – الوقوع فيما وقع فيه أئمة النقل، وأعملوا العقل في النص التاريخي، وحكموا النظر والبصيرة حتى لا يتيهوا في بيداء الوهم والغلط ، ومما يميزها آيضًا اهتمام معظم باحثيها بالبحث عن مكنون وخبايا التاريخ الإسلامي لأنهم اعتبروا أن مهمتهم الأساسية التي من أجلها تم إنشاء التخصص هو البحث في التاريخ الإسلامي والزود عن الإسلام والمسلمين وفق الضوابط العلمية .

   ومن هذا المنطلق لم ينغلق مؤرخو الأزهر على أنفسهم بل انفتحوا على كافة المشارب العلمية ، والدليل على ذلك أنهم استعانوا بثلة من علماء التاريخ الذين نهلوا العلم من الجامعات المصرية ويأتي على رأس هؤلاء قاطبة أ.د. عبد العزيز الشناوي ، وأستاذي نفسه (أ.د. محمود منسي) هو ابن مدرسة التاريخ في جامعة القاهرة ، كما استعانوا بـ أ.د. فتحي عفيفي أستاذ التاريخ القديم ، وأ.د. أحمد عبد الحميد يوسف ،كما درس عن طريق الانتداب عدد من الأساتذة أمثال أ.د. عبد الحميد البطريق .

   بل إن مدرسة كاملة في الأزهر (وهي مدرسة قسم التاريخ بكلية الدراسات الإنسانية للبنات) قد قامت على أكتاف أبناء المدرسة التاريخية في الجامعات المصرية وفي مقدمة هؤلاء أ.د. زينب عصمت راشد ، أ.د. فتحية النبراوي، أ.د.عفاف صبره، أ.د.الهام ذهني.. وغيرهن. ولازال التعاون بين المدرسة التاريخية المصرية والمدرسة الأزهرية قائم على أشده .

الرحلة وأهميتها بالنسبة للمؤرخ .. تجربتك أنموذجاً؟

 – للرحلة أهميتها للمؤرخ والجغرافي وعالم الاجتماع إذ توقفه على معلومات ربما لا تتوفر  في بطون الكتب ، أما عن تجربتي في الرحلة إلى سلطنة عُمان حيث العمل بكلية التربية بصُحار في الفترة من 1999- 2009م فقد كانت مليئة بالأحداث ولا تسعها بضع صفحات وربما افردت لها مساحة كبيرة من مذكراتي  المزمع كتابتها إن شاء الله تعالى ، ففي عُمان تعلمت الكثير من المعارف والعلوم والعادات والتقاليد ليس لعمان وحدها بل لكل من تعاملت معهم من الجنسيات العربية والأسيوية والأوروبية ، تعلمت كيف يعيشون ؟ وكيف وماذا يأكلون؟ تعرفت على تاريخ عمان عن قرب، كما  تعرفت على طرق تدريس جديثة واطلعت على العديد من الوثائق التي لم تكن متاحة في مصر ، بل لا أكون مبالغًا إن قلت أن الرحلة صوبت لي بعض المعلومات التي كنت أعتبرها درب من دروب الخيال ، فحينما كتبت أحد أبحاثي وهو عن موقف مصر من قضية الإمامة في عُمان نقدت خبرًا كنت قد وجدته في صحيفة الأهرام وهو: “أن أحد المجاهدين العمانيين في الجبل الأخضر استطاع إسقاط طائرة بريطانية صغيرة ببندقيته” ، فتعجبت من الخبر وقلت أن به من المبالغة مابه ، وشاء الله تعالى أن أقوم بزيارة إلى منطقة الجبل الأخضر في عُمان (يرتفع  الجبل عن سطح الأرض حوالي ثلاثة كيلومترات “ثلاثة آلاف متر”) فأدركت أن الطائرة (وكانت طائرة صغيرة) من الممكن فعلاً إسقاطها نظرًا لأنها لن تستطيع الارتفاع بعيدًا عن هذا الجبل ، وتأكد الخبر لدي حينما رايت بقايا الطائرة بعيني رأسي وقد أصبحت مزارًا يؤمه الناس.

      الخلاصة أن الرحلة لابد أن يستفيد منها المؤرخ قدر المستطاع وخاصة إذا كانت الرحلة إلى بلد يهتم المؤرخ بتاؤيخهان وقديمًا كنا نرى من يريد الكتابة عن تاريخ وعادات أي شعب من الشعوب يحمل عصاه ويرحل إلى ذلك البلد حتى يصل إلى بغيته العلمية، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله:

تغرب عن الأوطان في طلب العلى ^^^ وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفريج هم واكتساب معيـــشة ^^^ وعلـــم وآداب وصحـــــبة ماجد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى