أدب

رؤية نقدية بين أنسي الحاج وأفين حمو

د. محمد سعيد شحاتة| ناقد وأكاديمي مصري
     هناك ملاحظتان مهمتان في البداية: الملاحظة الأولى أن نص أنسي الحاج يقوم في أساسه على المتضادات والامثلة على ذلك كثيرة في النص منذ البداية، ومن خلال هذه المتضادات المتعددة تتولد المعاني والدلالات، أما نص أفين حمو فإنه لا ينبني في أساسه على المتضادات، وإذا وردت فإنها تكون لتوليد معنى واحد مرتبط بالدلالة الكلية، أو مرتبط بدلالة الجملة التي تسبقه ثم يمضي النص في طريقه.
   الملاحظة الثانية: أن وجود لفظ أغار هو الذي ربط بين النصين، ولولا هذا اللفظ ما كان لأحد أن يدرك هذا الارتباط، وهنا تأتي الأمانة العلمية في الإبداع من أفين حمو حين تصرح بأنها تأثرت بنص أنسي الحاج، وأعتقد أن هذا التصريح من حق المتلقي عليها؛ لكي يقرأ النص مستحضرا نص أنسي الحاج، وهذا أمر لا غبار عليه؛ فقد قال شوقي قبلها: ما زلت أروض القول على سينية البحتري حتى قلت:
اختلاف النهار والليل ينسي
اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
ولم يقل أحد إن شوقي سرق نص البحتري، بل قالوا إن روح البحتري تسري في نص شوقي، ولنا أمثلة كثيرة جدا، فقد قال القدماء إن الكلام من الكلام، وقال الجاحظ المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي، وغيرها من الأقوال.
إن فكرة السرقة الأدبية لمجرد التشابه هي فكرة قديمة ونشأت هذه الفكرة نتيجة تأثر النقد القديم بالنقاد الفقهاء في الاحكام، ولذلك شاعت هذه الفكرة في بدايتها عند ابن قتيبة والآمدي وغيرهما وكلهم فقهاء تأثروا بثقافتهم الفقهية، ولا ننس هنا كتاب سرقات المتنبي، فإذا ذهب هؤلاء النقاد الفقهاء إلى النقد لم يستطيعوا أن يتخلصوا من الثقافة التي شكلت شخصيتهم، وقد كان كل ذلك نتاجا لصراعات القدماء حول قضية القدماء والمحدثين أي أتصار البحتري وأنصار أبي تمام، وهي في الأصل تعبير عن صراع ديني بين الداعين إلى العودة إلى العصور الاولى والمنغمسين في حداثة العصر العباسي بكل ما فيه من مجون، فإذا ما جاء عبد القاهر الجرجاني أبان أمورا كثيرة في مجال النقد وتحدث عن فكرة النظم التي ينبغي أن نحتكم إليها في قراءة الشعر، واستحضار فكرة السرقات بمفهومها القديم الذي كان نتيجة صراعات قديمة لها ما يبررها يعيد النقد إلى الوراء كثيرا.
إن نص أقين حمو مختلف تماما عن نص أنسي الحاج وإن كان متأثرا به، ومن أراد أن يتأكد من ذلك فإن عليه يطبق على التصين منهج الأسلوب الإحصائية فسوف يكتشف الفرق الواضح بين النصين.
وهذه دعوة للقاريء لمطالعة النصين
(غيرة – أفين حمو)
أغار عليك:
من الطفل الذي كنتُهُ
من المرأة في العصور القديمة
والعصور المجيدة
من يديك وهما تمسكان الكتاب
وتحملان المفاتيح
من جمال ابتسامتك
وانفراج شفتيك كأنهما يسعيان للركض في الآفاق
من عطرك وهو ينطلق في الدروب وفي غابات الجنون
من العراء، ومن احتشاد الفراغ حولك من كل صوب
من الطبيعة والسماء
من الأشجار وأوراقها في كل الفصول
من المصعد المتآمر مع الجارات
من الشمس الضائعة فوق جسدك وحواسك
من الصقيع الذي تتخطاه
من الأرواح المسكونة بالأرواح
من الحب في ضمائرنا البلهاء
من الهواء الذي يشقى ليتحرر منك
من النجوم فوق سريرك
من عينيك العميقتين وهما تتطلعان لكنزي
من قبضتيك وهما تنتهكان براءتي وعجزي
من ساقيك الحميمتين
من مائك الذي يولد من جسدك برعشة
من صوتك المختبئ في هضاب حنجرتك
من أوراقك التي تسعى للرزق
من حبرك وهو ينصبُّ فوق رأسي خيمة
من فمك وهو يذيع الحب ليهبني حياةً متجددةً
من آلامك على بؤس العالمِ
من شعرك الأشيب وقد استحال عوسجَ
من الرجل الذي أبصره جنينًا
أغار عليك من الطفل الذي كنتُهُ
ومن الطفل الذي سألده..
ملحوظة :كتبت هذا النص متاثرة بنص للشاعر الكبير أنسي الحاج
*****
(أغار).. أنسي الحاج
أغارُ عليكِ من الطفل الذي كُنتِ ستلدينه لي.
من المرآة التي ترسل لكِ تهديدكِ بجمالكِ.
من شُعوري بالنقص أمامكِ.
من حُبّكِ لي.
من فنائيَ فيكِ.
ممّا أكتب عنكِ كأنّني أرتكب فضيحة.
من العذاب الذي أُعانيه فيكِ، من العذاب الأكثر بلاغةً من المتعذّبين.
من صوتكِ من نومكِ من وضع يدكِ في يدي.
من لفظ اسمكِ.
من جهل الآخرين أنّي أحبّكِ، من معرفة الآخرين أنّي أُحبّكِ،
من جهل الآخرين أنّي أغار عليكِ،
من معرفة الآخرين أنّي أغار عليكِ.
من سعادتي بكِ، من سعادتكِ بأيّ شيء، من وجودكِ حُرّةً
من وجودكِ عَبْدَةً
من وجودكِ لحظةً.
أغار عليكِ من غَيرتي عليكِ.
من أوّل مساء.
من عطائكِ لي.
من تعلُّقي بكِ أشَدّ أشَدّ.
أغار عليكِ لأنّك تقرأينني وأنا أريد أن تحفظيني.
لأنّكِ قد تحفظينني وتحفظين سواي.
لأنّي لا أرى غيرَ حَمْقى،
لأنّي لا أرى غيرَ أذكياء.
لأنّي أُحاصركِ وأتعهّدكِ كالوحش.
لأنّ حُبّي يخنقكِ.
أغار عليكِ ممّا أشتهيكِ أنْ تكوني، وممّا تشتهين أنْ تكوني، وممّا لا تقدرين أن تكوني.
من المرأة لأنّكِ امرأةٌ ومن الرجل لأنّه يراكِ.
من الجنس لأنّه حتّى يعود يجب أن يتوقّف.
من كُلّ ما سيكسره نظركِ.
أغار عليكِ لأنّي خَطَبْتكِ جاهلاً عددَكِ.
لأني أخنقكِ بحُبّي وأنت لا تقدرين أنْ تُحبّيني وأنتِ مخنوقةٌ بحُبّي.
لأنّي ساخطٌ لأنّكِ أجملُ النساء.
لأنّي أمدحكِ فأخاف أنْ تسمعي في مديحي أصواتَ آخرين.
أغار عليكِ من الأشياء التي يكبر فرحكِ بها لأنّكِ تُحبّينني.
من نبوغ جسدكِ.
من عابري السبيل ومن الذين جاؤوا ليبقوا ومن الأبطال والشهداء والفنّانين.
من إخوتي وأولادي وأصدقائي.
من الأقوياء لأنّهم يأخذون الإعجاب ومن الضعفاء لأنّهم يبدأون بأخذ الشفقة.
من لبوءة الرجاء النائمة.
من الأنغام والأزهار والأقمشة.
من انتظار النهار لكِ، ومن انتظاركِ اللّيل.
من أقصى الماضي الى أقصى الماضي.
من الكُتب والهدايا ومن لسانكِ في فمي.
من إخلاصي لكِ فُرادى وجماعات.
من الموت.
أغار عليكِ أجَنَّ أجَنَّ كلّما تضايقتِ من غَيْرتي عليكِ.
أغار عليكِ من جميع الأعداء ومن جميع الحلفاء.
من الحياة الرائعة التي نقدرأنْ نعيش.
من ورق الخريف الذي قد يسقط عليكِ.
من الماء الذي يَتوقع أنْ تشربيه.
من الصيف الذي تخترعينه بعُرْيكِ.
من الطفل الذي كُنتِ ستلدينه لي.
من الطفل الذي لن تلديه أبداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى