الشاعر عبد الرزاق الربيعي والإعلامي علاء المفرجي وجها لوجه
عالم الثقافة | خاص
عبد الرزاق الربيعي:
– ظهر جيلنا مع اندلاع الحرب فوثّقنا وطأة الحرب وكوارثها
– انطلاقتي الشعرية من العراق وفي كل مكان أمرّ به تتفاعل القصيدة مع المكان
– يرى أن الشعر لم يتخل عن عرشه، والرواية لا تقف على طرف نقيض منه
الشاعر عبد الرزاق الربيعي، شاعر مسرحي وصحفي عراقي – عماني ولد ببغداد، ومجاز في اللغة العربية من جامعة بغداد عمل في المجال الثقافي والصحفي، في دار ثقافة الأطفال العراقية عندما كان الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد المدير العام لها، وعمل في مجلة أسفار والجمهورية يقيم في سلطنة عمان منذ عام 1998 ويحمل الجنسية العمانية منذ يونيو 2016 نائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي في سلطنة عمان وله عدة دواوين شعرية ومؤلفات ادبية ومسرحيات قدمت في مسارح عربية مختلفة إضافة إلى المهرجانات والندوات الشعرية والأدبية، حصل على بكلوريوس في اللغة العربية من كلية الآداب جامعة بغداد 1986/1987. غادر العراق عام 1994 متوجها نحو الأردن فعمل في الصحافة الثقافية في جريدة الرصيف وكان يواصل كتاباته الأخرى في صحيفة الدستور والرأي. وفي اواخر شهر تشرين الثاني من عام 1994 بدأت هجرته الثانية نحو صنعاء حيث اشتغل في التدريس الثانوي وعمل محاضرا في جامعة صنعاء إضافة لممارسته العمل الصحفي في الصحف اليمنية وفي مجلة اصوات، وفي الوقت ذاته كان مراسلا لجريدة الزمان اللندنية والفينيق الأردنية.
شهدت صنعاء عرض أول مسرحية له وهي آه ايتها العاصفة عام 1996 من إخراج الفنان كريم جثير، ثم انتقل بها إلى كندا حيث عرضها بتورنتو خلال مهرجان مسرح المضطهدين العالمي ومدينة مونتريال اما هجرته الثالثة فقد كانت نحو سلطنة عمان حيث غادر صنعاء في تشرين الثاني من عام 1998 متوجها نحو العاصمة مسقط لتكون مستقره فيما بعد. كان عمله منصبا في العملية الابداعية حيثما حلّ فقد اشتغل في التدريس أيضا ليدرّس اللغة العربية وعمل في الصحافة الثقافية وصولا لرئاسة القسم الثقافي والفني في جريدة الشبيبة اليومية إضافة لعمله كمراسل لصحيفة الزمان اللندنية ومجلة الصدى ومجلة دبي الثقافية، وكان مواصلا الكتابة في مجلة نزوى الثقافية. كانت اشتغالاته المسرحية تجد طريقها نحو الخشبة والانتشار لاقت دواوينه منذ بداياته في النشر عام 1986 ترحيبا نقديا، ودراسات، وهناك كتابات نقدية لكثيرين كالدكتور عبدالعزيز المقالح وصلاح فضل, حاتم الصكر، عبدالملك مرتاض، وجدان الصائغ، ياسين النصير، محمد الغزّي، فيصل القصيري.
امتاز الشاعر عبد الرزاق الربيعي بحضوره اغلب المهرجانات والندوات والملتقيات الثقافية العربية الشهيرة اغلبها في العراق كمهرجان بابل الدولي و مهرجان المربد الشعري وسلطنة عمان كندوات مجلس الدولة ومركز السلطان قابوس والامارات كمهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما ومهرجان الشارقة للشعر العربي والاردن كمهرجان الرمثا ومهرجان الثريا الشعري وفي السعودية مهرجان الجنادرية ومهرجان بعقلين الشعري في لبنان ومهرجان المهدية ومهرجان ابن رشيق المسرحي في تونس.
عمل في الصحافة الثقافية والفنية في بغداد وصنعاء ومسقط منذ عام1980-2016، التحق بالعمل كمحرر في دار ثقافة الأطفال العراقية عام 1980 في بغداد، انضمّ لهيئة تحرير مجلة “أسفار” عام 1985 في بغداد، انضم إلى القسم الثقافي بجريدة” الجمهورية” عام 1991م ثم تسلم رئاسة القسم الفني والمنوعات فيها عام 1992 في بغداد، رئيس نادي الطفولة ببغداد عام 1993م.
في صنعاء عمل في مجلة أصوات التي تصدر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني عام 1995، ساهم في مجلة نزوى منذ انتقاله للسلطنة عام 1998، عمل وترأس القسم الثقافي والفني بجريدة الشبيبة عام 2003 لغاية 2012، عمل مراسلا لعدد من المجلات الثقافية الخليجية كالصدى ودبي الثقافية والإتحاد والشارقة الثقافية والفينيق من عام 1999 حتى اليوم، عمل باحثا ثقافيا في مركز البحوث والدراسات بوزارة الإعلام العمانيّة 2012-2021، مدير تحرير صحيفة”أثير” الألكترونية عام 2013، رئيس تحرير صحيفة”اثير” الالكترونية عام 2016، نائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي في سلطنة عمان 2020 حتى الآن.
ومن مؤلفاته:
الحاقا بالموت السابق، ديوان شعر، نجمة الليالي، ديوان شعر للأطفال، الشعر العراقي الجديد، ديوان شعر مشترك، حدادا على ماتبقى، ديوان شعر، وطن جميل، ديوان شعر للأطفال، موجز الاخطاء، ديوان شعر، جنائز معلقة، ديوان شعر، مسقط،2000- أمير البيان عبد الله الخليلي بالاشتراك مع (سعيد النعماني)، شمال مدار السرطان، غدا تخرج الحرب للنزهة، الصعاليك يصطادون النجوم، مسرحيات، لايزال الكلام للدوسري، بوح الحوارات، كواكب المجموعة الشخصية، خذ الحكمة من سيدوري، مدن تئن وذكريات تغرق، وقائع إعصار (جونو) العصيبة، ما وراء النص، مقالات، مقعد فوق جبل شمس، حوارات في الثقافة العمانية أبنية من فيروز الكلمات طواف على أجنحة”سعيد الصقلاوي”، قميص مترع بالغيوم،14ساعة في مطار بغداد، يوميات الحنين راهب القصيدة عبد العزيز المقالح، تحولات الخطاب النصي، عدنان الصائغ عابرا نيران الحروب إلى صقيع المنافي، يوميات الحنين، خطى.. وأمكنة من أدب الرحلات، على سطحنا طائر غريب نصوص مسرحيّة، غرب المتوسط وقوافل أخرى، صعودا إلى صبر أيّوب شعر، طيور سبايكر، في الثناء على ضحكتها، خرائط مملكة العين، قليلا من كثير عزّة، حلاق الأشجار، دهشة ثلاثية الأبعاد، حكايات تحت اشجار القرم مقالات، خطوط المكان..دوائر الذاكرة، الأعمال الشعرية جُمعتْ في ثلاث مجلّدات بيروت وبغداد، نهارات بلا تجاعيد شعر، شياطين طفل الستين،
ما هي المصادر والمراجع الأولى في طفولتك ونشأتك الاولى التي قادتك الى تلمس الشعر (حيوات، احداث، امكنة، كتب)..
ليس من الجديد أن أقول أنني نتاج البيئة التي نشأت فيها، وكانت بيئة فقيرة، لكنّها ثريّة بالأغاني الشعبيّة، والحكايات، والخرافات، والأحلام، والأوهام، فقد نشأت في منطقة شعبية يسكنها الفقراء والكادحون، والمهمشون، والنازحون من الجنوب هي” مدينة الثورة” الصدر حاليا، في طفولتي كنت هادئا، نحيلا، شديد الحساسية، سريع الانفعال، لدرجة كان يظنّ من يراني مريضا، منطويا على نفسي، ولم يكن أمامي وسيلة لإثبات الذات سوى التفوّق في الدراسة، والانصراف للمطالعة، ووجدت سعادتي في ذلك، في تلك المرحلة المبكّرة من العمر، وتحديدا عام 1969م كنت أشاهد التلفزيون، وأسرح في خيالي مع المسلسلات والأفلام، والأغاني، والبرامج، حتى العلمية منها، وأذكر أن الراحل كامل الدبّاغ حبّب إلينا العلم من خلال برنامجه (العلم للجميع)،فحلمنا أن نصبح مخترعين،فقد كان يهتمّ بالمخترعين الهواة، لكنّ البيئة الفقيرة التي عشنا فيها كان من الصعب أن توفّر لنا الأدوات،وكان من السهل لنا العزف على كمان يدوي مصنوع من شعرات ذيل حصان مصلوبة على خشبة بمسمارين،وهكذا عرفنا الطريق للفن بدلا من العلم!، تنقّلتُ في مرحلتي الابتدائية بينأكثر من مدرسة للاقتراب من السكن، حتىاستقرّ بي الحال في مدرسة” النهاوند” الابتدائية، ولحسن حظي كان يدرّس فيها معلم شاب يشجعنا على القراءة، وقبل أن يُستبعد، من التعليم، كونه يساريا زرع في نفوسنا حبّ القراءة، ذلك المعلم أصبح كاتبا معروفا هو الأستاذ حسين كركوش وقد التقيت به في باريس بعد ٤٠ سنة من مغادرته العراق، ومن المعلمين الذين درّسوني في المدرسة نفسها، الأستاذ جاسم الشريفي، ومن زملائي الرسام طالب جبار الشامي، والشاعر الراحل محمد حبيب مهدي، والكاتب الراحل عباس العبد، والاعلامي عباس ناصر الواسطي، والمطرب فيصل حمادي، والباحث قاسم جبر، ومازلت على تواصل مع الأحياء منهم.
• معظم الشعراء يتأثّرون بالتجارب الكبيرة، هل تأثرت بشاعر معيّن؟
في بداياتي تأثّرت بالشاعر محمود درويش وحين انتهيت من قراءة أعماله الكاملةأحسست أنني صرت أكتب شعرا موزونا، وكأن شيئا هبط عليّ من السماء، ولم أكن قد أنهيت دراستي الابتدائية، ولاحقا تأثّرت بالشاعر عبدالوهّاب البياتي، ثمّ وصلت إلى يقين من أن أعيش في كوخ صغير، أبنيه بنفسي، أفضل من أن أعيش في قصور شادها الآخرون، فبدأت أتلمّس الخطوات الأولى لذلك.
• ماذا عن علاقتك بالمسرح، كيف نشأت؟
من حسن حظي إنني نشأت في مرحلة كان المسرح عنوانا من عناوينها البارزة، وبفعل المدّ اليساري، وذلك أواسط السبعينيات سجّل حضوره، بقوة في الشارع، والمدرسة، والساحات العامة، وحتى في البيوت، ففي أواخر السبعينيات قدم المخرج الراحل كريم جثير عرضا في بيته حمل عنوان ( أصوات من نجوم بعيدة) واعتبر المهتمون ذلك العرض تجربة رائدة في مسرح البيت، وتلك من التجارب التي تمرّدت على فكرة ارتباط المسرح بالعلبة الإيطالية، وجعلت المسرح الذي خرج من المعبد، قبل أن يقف على منصات المسارح الرومانية، جزءا من الحياة اليومية، فمن الممكن أن نرى عروضا في الشوارع والمقاهي، والمستشفيات( كما في مسرح العيادة والتجارب التي قدّمها د.جبار حسن خماط)، والمراكز الصحية، والمعامل والمصانع، والسجون، والأسواق والمطارات، ومحطات القطارات، بل وحتى في الباصات، كما فعل أحد الفنانين العراقيين الشباب في عراق السبعينيات، بل ومسرح الغرفة الذي ظهر في عام 1947م ومنذ صغري، أحببتُ المسرح، وكانت البداية مع المسرح المدرسي، وكانت القوى اليسارية المهيمنة في مدينتنا تعتبر المسرح وسيلة من وسائل التثقيف ورفع مستوى الوعي لدى الجماهير، فاشتركت بمسرحية في المدرسة أخرجها الصديق طالب جبار، وكان طالبا معي في الصف الخامس الابتدائي، ثم انضممتُ لفرقة مسرحيةشعبية، واشتركت معها في عرض مسرحي قدّمته الفرقة على مسرح الزوراء الصيفي في ١٩٧٢ بمناسبة عيد الفطر، إلى جانب عروض أخرى، ثم توقّفت عن التمثيل، وركّزت على دراستي والاهتمام بالشعر، وجعلت علاقتي بالمسرح عن طريق الكتابة،وكنا نبذل محاولات لبلوغ هدف ما، نثبت من خلاله ذاتنا، فجرّبت الرسم وشاركت في دورة لمجلتي والمزمار عنوانها” المرسم الحر”، وحاضر فيها الفنان الراحل صلاح جياد، وفيصل لعيبي وطالب وأديب مكي، وصبيح كلش، وعمار سلمان، لكنني لم أستمر لأن المجلةنشرت مختارات من رسومات المشاركين ولم تكن لي من بينها رسمة، في خضمّ ذلك جمعت أصدقائي وكتبنا مجلة بخط اليد أسميناها” الأصدقاء” وأصدرنا ثلاثةأعداد، قلّدنا فيها ماينشر في مجلتي والمزمار ثم أصدرنا مجلة أطلقنا عليها” الفجر” عرضناها، أنا وقاسم جبر وعباس ناصر الواسطي على فتاة كانت تعمل في جريدة” الثورة” وزارت مبنى جريدة ” المسيرة” فأعجبت بما صنعنا، وخصصت صفحة لنا، وكان عنوانماكتبت هو” ثلاثةحملوا إلينا الفجر”، ولم تكن تلك الفتاة الشقراء سوى أنعام كجه جي!
في الصف الأول الإعدادي، لاحظ معلم العربية اهتمامي بالشعر، اسمه حسن علي(أبو الغيث)، فنصحني بقراءة كتاب” فن الشعر” فطلبته من أخي الأكبر أن يجلبه لي من مكتبات الباب الشرقي، فجلبه وبدأت بقراءته وكنا في العطلة الربيعية، وبعد انتهاء العطلة سألني المعلمعن الكتاب فقلت له قرأته ولم أفهم منه شيئا، فاستغرب، وقال: لماذا ؟ قلت له يتكلم عن المحاكاة والتراجيديا والكوميديا وأشياء لا أعرفها، سألني : من المؤلف؟ قلت لهأرسطو طاليس، فاندهش وقال: لم أقل لك (فن الشعر)لارسطو فهذاحتى أنا لا افهمه، انما وصفت لك” فن الشعر” لمحمد مندور!!، وكانت مفارقة كلفتني عطلة ربيعية!!
انتقلنا الى العامرية صيف ١٩٧٥ وهناك واصلت القراءة وبغزارة بعد أن ابتعدت عن أصدقاء الطفولة، وتغيّرت الأجواء حولي، ولمنطل كثيرا المكوث فيها اذ انتقلنا الىمدينة الحرية، وكنت في الصف الرابع العام، وفيإعدادية التأميم التقيت بأصدقاء يكتبون القصيدةالعمودية، فاقتربتمنهم، وكنت قد بدأت مع شعر التفعيلة والشعر المترجم والأدب الروسي في مدينة الثورة بفعل نشاط التيار اليساري فيها، كما ذكرت، فاستفدت منهم، وكان أحدهم صديقي الشاعر فضل خلف جبر، وشاعر أستشهد في الحرب في ١٩٨٨ اسمه صباح أحمد حمادي.
• لابدّ من أحداث مفصليّة في حياة كل شاعر، ماهو الحدث المفصلي في حياتك؟
الأحداث المفصليّة في حياتي كثيرة، ومن أبرزهالقائي بالشاعر الكبيرعبدالرزاق عبدالواحدفي مهرجان طلابي أقيم بثانوية الكاظمية ١٩٧٨ وشكّل ذلك اللقاء نقطة تحوّل في مساري الشعري، فبعد أن استمع لي ولصديقي الراحل صباح أحمد طلب منا زيارته بمكتبه واللقاء به في أكثر من مكان من بينها مركز الدراسات النغمية، ونادي التعارف، وزارة الاعلام، والمكتبة الوطنية، ثم في دار ثقافة الاطفال، فطلبني للعمل محررا فيها بعد أن لاحظ اهتمامي بقصائد ومسرح الطفل، فعملت بالدار فاقتربت منه أكثر، واستفدتُ من تجربته، ونصائحه، عام ١٩٨٤م دخلت كلية الآداب جامعة بغداد عام١٩٨٤وكنت قد أصدرت ديوانين للأطفال، وتعرفت فيها عنقرب على الشعراء سلام كاظم وحميد قاسم، وكان من دورتيد. عليالشلاه ورباح نوري ودنيا ميخائيل وأمل الجبوري، ومحمد تركي النصّار، وسبقني بسنة محمد حسين الطريحي وهاني ابراهيم عاشور ولؤي حقي، ومحسن الماجدي، والتحق بنا د.حسن ناظم، ود.حسن عبد راضي، ود. حيدر سعيد، وكان محمد مظلوم يتردّد على كليّتنا وكان يدرس في كلية الشريعة، وكذلك يتردد علينا شعراء يدرسون في كلية الفنون الجميلة: عبدالحميد الصائح، وسام هاشم، باسم المرعبي، سعد جاسم، صلاح حسن، ومن الجامعة المستنصرية: ريم قيس كبه، ورعد السيفي، فضل خلف جبر، ومن الهندسة:حيدر هادي الخفاجي. وتعرّفت على الشاعر ين جواد الحطّاب وكريم العراقي، وجليل خزعل، خلال عملي في دار ثقافة الأطفال، وتعرّفت على الشعراء: عبدالزهرةزكي، ومنذر عبدالحر، ونصيف الناصري، وزعيم النصار، وآخرين في مقهى البرلمان.
• ماذا عن الشاعر عدنان الصائغ؟
تعرّفت عليه خارج الجامعة، وخارج المقهى، في دروب القصيدة، وقد مثّل لقائي به نقطة التحول الثانية في حياتي، جرى ذلك في عام١٩٨٤، إذ صار الشعر همنا الشاغل، وجمعتنا أحاديث طويلة، ورحلات، وقراءات، ومغامرات، توقفتخلالها عن الكتابة للأطفال حتى سألني ذات يوم: متى ستصدر ديوانك الاول للكبار؟ فقلت له: ليس بعد!
كنت أنظر للشعر بعين الخوف والمهابة، وظل يكرر عليّ السؤال ولما يئس هددني بقطععلاقته بي ان لم أصدره خلال ستة شهور، واقسم على ذلك، وكان جادا، وقبل نفاد المهلة كنت قد أصدرت” الحاقا بالموت السابق”
• ومغادرتك بغداد؟
ذلك أيضا حدث مفصلي في حياتي، ففي ١شهر شباط ١٩٩٤ غادرت بغداد إلى الأردن، بعد اشتداد قسوة الظروف المحيطة والحصار، وكان أخي الذي يكبرني بسنتين عبدالستار أعدم عام ١٩٨٠ لأسباب سياسية، وهذا الحادث خلّف شرخا في نفسي ، وجعلني أفكر بالهجرة منذ ذلك السن المبكرة، ولم أتمكن الا بعد ١٤ سنة، وأقمت سنة في عمّان، ثم انتقلت إلى اليمن ملتحقا بصديقي الشاعر فضل خلف جبر، وفي النهاية وجدت الاستقرار في سلطنة عمان بدءا من عام 1998م .
واليوم، أدين بالفضل لكلّ أساتذتي، الذين زرعوا بروحي بذرة حب المعرفة، والقراءة، بدءا من الأساتذة: حسين كركوش وحسن علي، وياس ناصر العبيدي، رحمه الله، مدين لمدينتي الأولى” الثورة” وفقرائها، وأناسها البسطاء، مدين للظروف الصعبة، ودروب حياتنا الوعرة، وأبي وأخوتي، مدين للشاعر الراحل عبدالرزاق عبدالواحد والصديق الشاعر عدنان الصائغ، ود.حاتم الصكر، وفضل خلف جبر، وجواد الحطّاب، ود.سعد التميمي،ود.أحمد الدوسري، ورشا فاضل التي صمّمت لي موقعي الشخصي وجمعت المقالات والدراسات التي كتبت عني في كتاب(مزامير السومري)، ود. محمد صابر عبيد الذي أشرف على أول رسالة ماجستير حول شعري بجامعة الموصل عام2011م وكانت (القصيدة المركّزة في شعر عبدالرزّاق الربيعي) للباحث طلال زينل، مدين للمرحومة عزّة الحارثي التي فتحت لي الطريق إلى مسقط، وعشنا معا(18) سنة، كانت حصيلة تلك الرحلة مرارة سكبتها في ديواني(قليلا من كثير عزذة)، مدين لرفيقة الدرب والشعر زوجتي الشاعرة جمانة الطراونة التي أكملت المسير معي، وآزرت (طفل الستّين) وهو يشاغب (شياطينه) وتشاغبه، مدين لآخرين تركوا بصمتهم على شعري وذاكرتي، وروحي.
• تنتمي لجيل الثمانينيات هذا الجيل الذي أسهم في توثيق وطأة الحرب العبثية في الثمانينات، وكيف استطاع بعض الشعراء في تلك الفترة النأي عن الاستثمار الدعائي والإعلامي للشاعر زمن الحرب.؟
ننتمي لجيل الثمانينيات الشعري الذي عُرف أيضا بجيل الحرب، كما أسماه صديقي الشاعر عدنان الصائغ ولم أنشر نتاجي في الثمانينيات، فقد نشر
أوّل نص لي في بداياتي كان في جريدة “المزمار” يوم الخميس الموافق٣ شهر ١ سنة١٩٧٣ وعنوانه” للوطن نغنّي”
بعد ذلك نشرت كثيرا، لكن البداية الحقيقية لي مع النشر أعتبرها بعد نشر قصيدة عنوانها(معلّقة على بوّابة الفتح) في مجلة” الطليعة الأدبية” عام ١٩٨٠، وحسب التحقيب الجيلي الذي اصطلح عليه النقاد فأنا من ” الجيل الثمانيني” وقد ظهر جيلنا مع اندلاع الحرب مع إيران التي يطلق عليها اسم” حرب الخليج الأولى”، نعم، وثّقنا تلك الوطأة، ويجدها القارئ الحصيف في ثنايا قصائدنا، ومن يقرأ دواوين الشاعر عدنان الصائغ، يستطيع تلمّس ذلك، ولم يكن الأمر يخلو من اللعب بالنار، والمجازفة، يومها كنا نتغطّى بلحاف المجاز.
• رغم كل شيء فقد تم الاحتفاء بالشعر على المستوى الرسمي في تلك الفترة، مؤتمرات، ومهرجانات، ومجلات تعنى به، بل وحتى جوائز شعرية.. ما السبب بتقديرك في ذلك وهل استطاع الشعراء أن يتحايلوا على هذه التفاصيل؟
نعم، تم الاحتفاء بالشعر، ولكن أيّ شعر!؟بالطبع الشعر الذي يخدم المرحلة، أي الشعر التعبوي، أو الدعائي، ومعظم هذا الشعر انتهى مفعوله، بمجرّد انتهاء الحرب، والمرحلة، وكانت السلطة حريصة على تلميع صورتها لدى الشعراء العرب والكتّاب، والإعلاميين، فأقامت المهرجانات، فاستجاب الشعراء العرب وكتبوا،وطبعا هناك من استثمر الخطاب الدعائي ونال مباركة السلطة، ودعمها، لكن ما كتب احترق مع أوراق الحرب. أما بالنسبة لنا، فهناك مقولة للينين هي” الشيوعي الجيد هو الذي يراوغ الشرطة” لم نكن ننتمي لجهة سياسية، لكننا راوغنا الشرطة بقصائدنا، وبأفعالنا، واقرأ قصائد عدنان الصائغ في تلك السنوات، كانت نصوصه ملغومة، مع فقدنا في خضمّ ذلك صديقنا الكاتب الشهيد حسن مطلك الذي أعدم عام 1990م، عندما خرج على النص، فدفع حياته ثمنا لذلك، أتذكر صديقي الشاعر الشهيد صباح أحمد حمادي الذي قال ذات يوم متنبئا برحيله المبكر :
على هذي الثرى أسقطت راسي
وسوف أموت في نفس المكان
أقمتم مهرجانا للقوافي
وجئت لكم جراحي مهرجاني
وهما البيتان اللذان انتبهت لهما خلال قراءتي لقصيدة طويلة له في مهرجان شعري أقيم بدار الشؤون الثقافية، بعد ثلاث سنوات من غيابه، في الحرب، بدلا من نص لي لتعريف الحضور به، ولم أتمكن من تكملة القصيدة، إذ خنقتني العبرة،وغادرت القاعة لأبكي بحرقة، بعد احتباس دموع استمر ثلاث سنوات منذ تلقي مسامعي الخبر الصادم، وكانت المرة الأولى التي أبكيه بها، ولم تكن الأخيرة بالطبع! كانت دموعي نوعا من إظهار بشاعة الحرب، فأثارت لغطا، وكاد المهرجان أن يتوقف بعد أن اعتذر الصديق الشاعر عبدالمنعم حمندي، عن قراءة نصّه، وكان قد أعقبني، فخرج أخي عدنان الصائغ وأعادني للقاعة، بعد أن سمع ذلك اللغط.
وغالبا ما كانوا يعرفون ذلك لكنهم يغضّون الطرف، طالما الخطاب غير مباشر، والعداء غير معلن، برأيك ما الأثر الذي تركه الثمانينيون في منجز الأجيال اللاحقة وبعد اكثر من ثلاثة عقود على انطلاقتهم؟
برزت في جيل الثمانينات اتجاهات متعددة، ذات مرجعيات فكرية متنوعة، ومثّل هذا الجيل امتدادا لجيلي الستينيات والسبعينيات في الاتجاه نحو القصيدة الحديثة، مما فتح المجال واسعا أمام الأجيال اللاحقة، للتفاعل مع ما قدّموه من تجارب لرسم ملامح هذه الأجيال.
• يرى البعض أن الثمانينيين قد خذلهم النقد، رغم انهم ولدوا في مناخات بروز وترجمة الحركات النقدية في العراق.. بماذا تعلل ذلك؟
أرى على العكس من هذا تماما، فقد قوبلت التجربة الشعرية الثمانينية في بداية ظهورها بترحيب نقدي، وأول المرحبين بتجربتهم الدكتور حاتم الصكر الذي كتب عدة مقالات في جريدة الجمهورية، وأسمى بعضهم(شعراء الظل) كون تجربتهم نشأت في ظل جيلين شعريين مهمينغطى ضوؤهما على جيل كان شعراؤه (زغب الحواصل)وقد لاقينا دعما منهما، وقدّم د. سعد التميمي عدّة قراءات في تجارب شعرية ثمانينية، منذ أيام إقامته في اليمن، ودعم هذه التجارب في حقل الدراسات الأكاديمية، فرشّح الكثير من التجارب لطلبة الماجستير والدكتوراه.
• أنت من أكثر أقرانك في كتابة قصيدة النثر والتي أخذت حصتها في الانتشار خلال فترة الثمانينيات، والتسعينيات.. لكن ما زال هناك خاصة من الشباب من يراهن على القصيد التقليدية.. ما تعليقك؟
تكتسب أية تجربة فرادتها من قوّة الموهبة، والتأسيس الصحيح، وصدق وثراء التجربة، وأيّ خلل في واحد من هذه الأركان قد يشوّه التجربة، لذا، من المهم أن يضبط الشاعر الأوزان ، والنحو واللغة، فجواز المرور لذلك كتابة القصيدة العموديّة،يرى أدونيس بما معناه، أن الحداثة تتطلب استيعاب اللغة في تحولاتها التراثية والمعاصرة، ويقول الرسّام العالمي ماتيس”كنتأجبرتلاميذيعلىالدراسةالاكاديميةحتىلايجدوافيأسلوبيالسهولةالفنيةفيتخلونعمامطلوبمنهممنجهدوتدريب”، وعندما بدأت مع قصيدة التفعيلة بتأثير المحيط الذي نشأت به، وكان سيابيّا بامتياز، فقطعت شوطا، لكن بعد قراءات مكثّفة، ومراجعات، رأيت من الضروري العودة لنقطة البداية، ودراسة البحور الخليلية، وكتابة الشعر العمودي، ففعلت كلّ ذلك من أجل أن أستكمل الشروط الواجبة لكتابة قصيدة النثر، ومن هنا فقصيدة النثر التي أكتبها ولدت ولادة طبيعية، فجاءت عن دراية، لا عن قصور في أدوات التعبير.
• يقول الناقد الكبير حاتم الصكر: “يبدو أن الولادة كانت متعسرة لقصيدة النثر، حيث رفضها التقليديون، وإشكالاته تبدأ من التسمية ولا تنتهي بالقصور في الاجراءات النقدية.. فظلت تراوح بين الشعر والنثر؟” ما رأيك؟
بالتأكيد، أن مصطلح قصيدة النثر يبقى اشكاليا، إلّا أنه اكتسب الشرعية بعد أن أصبح عرفا وبدأت تتبناه المؤسسات الثقافية والأكاديمية وقد سجلت رسائل وأطاريح في قصيدة النثر، وهي الآن هي السائدة، على الرغم أن هناك عودة لشعر الشطرين بشكل ما، إلّا أن الغريب أن قصيدة التفعيلة قد انحسرت إلى حد كبير، وهذا يحتاج وقفة من النقاد لتفسير ذلك، ومازالت قصيدة النثر نبتة شيطانية في ثقافتنا العربية، فقصيدة الشطرين متجذّره، ولها تاريخ طويل، ومنجز ضخم، في تراثنا،بينما عمر قصيدة النثر، قصير قياسا لعمر قصيدة الشطرين.
• يرى البعض أن الشعر تخلى عن عرشه لصالح الرواية، وخاصة في العراق الذي شهد اصدار عدد كبير من الروايات، مقابل ما صدر من الشعر.. ما السبب في ذلك كما يرى الشاعر عبد الرزاق الربيعي؟
لم يتخل الشعر عن عرشه، ولم ينزع التاج، عن رأسه، والرواية لا تقف على طرف نقيض منه، ولم تتنازع معه على التاج، بل إنها استفادت منه، في الأبنية اللغوية، والروح الشعرية، أما مسألة أن الزمن ( زمن الرواية) فهذه المقولة ردّدها الناشرون وصدّقها النقّاد ومنهم د.جابر عصفور، بالرجوع إلى مبيعات كتب الرواية مقارنة بكتب الشعر الذي يبقى خطابا موجّها للنخب المثقّفة، والنخب تشكّل أقلّيّة في كل زمان ومكان، والشعر مرتبط بالثقافة العربية، فهو (ديوان العرب)، يقول يوسف السباعي في افتتاحية مجلة (شعر) التي صدرت في القاهرة مطلع عام 1976،نزف مجلة “الشعر” للعرب تأكيدا للفكرة المتواترة التي تقول: من أحيا الشعر فقد أحيا العرب، ومن قتل الشعر فقد قتل العرب”، فمقولة (زمن الرواية) لم يمر عليها وقت طويل والزمن كفيل بإثبات أن الأجناس الأدبية المختلفة شعرية كانت أم نثرية تتبادل أدوار الحضور بين والآخر، فهناك الآن عودة للقصة القصيرة جدا، بعد أن تراجعت قبل مدّة من الزمن. يقولد. سعد التميمي” مهما قيل عن عصر الرواية أو مزاحمة الفنون الأدبية الأخرى ووسائل التواصل الاجتماعي الشعر، الا أنه حافظ على مكانته وأسراره التي لا يفك شفراتها الا من امتلك نبوءة الشعر،فالشعر ارتبط بوجود الانسان ولا يمكن أن نتصور مجتمعا من دون الشعر ،فلا خوف على مكانته في ظلِّ المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية في القرن الحادي والعشرين في ظل الثورة التكنولوجية ، فضلا عن تطور وسائل التواصل وتأثيرها على الأدب وفنونه الشعر والشعراء بوجه خاص”
• تنقلت في مدن ودول كثيرة قبل استقرارك في عمان، ولكنك تعتبر ولادتك الشعرية الثانية في صنعاء في الدار اليمنية للكتب، على رغم أنك وصلتها وفي رصيده مجموعتان «إلحاقاً بالموت السابق» عام 1987، و«حداداً على ما تبقى» 1992،هل هو البحث عن مصادر للالهام الشعري، أم تراه قلقا من الاستقرار؟
انطلاقتي الشعرية من العراق وفي كل مكان أمرّ به تتفاعل القصيدة مع المكان وهذا أمر طبيعي، ولذلك لي قصائد في كل محطة مررت بها، وقد وقف عنده الدكتور محمد صابر عبيد في كتابه( شعرية المكان العماني -مقاربة جمالية في تجربة عبدالرزاق الربيعي) الذي فاز بجائزة صحار للدراسات النقدية2022م ، وقد أكّدتُ في كتابي( نقوش سومريّة على باب اليمن أن علاقتي باليمن التي أقمت فيها خلال السنوات(1994-1988) يمكن وصفها بالمشيمية، من الصعب الحديث عن تفاصيلها الوجدانية والثقافية والاجتماعية والروحية،وقد اعتبرت سنوات إقامتي في صنعاء ولادة شعرية ثانية، نظرا للغنى الثقافي لتلك السنوات، فقد وفّرت لي فرصة حضور مجلس عبد العزيز المقالح، الأدبي الذي كان مختبرا شعريا، نعرض به تجاربنا وتتمّ مناقشتها، وكذلك تجوّلت في المدن اليمنية، واطّلعت على ثقافتها، وقرأت تاريخها، ومخزونها الثقافي، وهذا شكّل رافدا مهمّا لروافدي الشعرية، وفيها كتبت أهم نصوصي المسرحية، آه أيتها العاصفة، وأخرجها الراحل كريم جثير، وكان أول نص يمثّل لي على خشبةالمسرح، وذلك عام ١٩٩٦، كذلك كتبت مسرحيتي الشعرية( كأسك يا سقراط)، وأداها الراحل كريم جثير أداء مسرحيا في مجلس المقالح، ونوقشت على مدى أكثر من جلسة، وكذلك كتبت مسرحية( البهلوان) التي أخرجها الفنان رسول الصغير، وقدّمها في هولندا ولندن، وكتبت مسرحية ” ضجّة في منزل باردي” مستوحيا أجواءها من ( منزل باردي) الذي هو بيت قديم في كريتر بعدن، كان وكالة لبيع الحبوب ، سكنه الشاعر الفرنسي “رامبو” أثناء إقامته في عدن لعدة أعوام في 1882، والمسرحية تستند إلى مرحلة في حياة “رامبو” وعلاقته بـ”فرلين” الذي هجر زوجته وسافر معه، ثم أطلق عليه النار فأصابه في كفه فعاد إلى باريس ليكتب ” فصل في الجحيم ” الذي ضمنت العديد من أشعاره المعروفة في هذا النص، وقد جرى عرضها في باريس 2012 وكانت من إخراج: سعيد عامر، وتمثيل: عبدالحكيم الصالحي ونادية عقيل. وفي اليمن نضجت أدواتي الفنية، والتقيت فيها بالكثير من الشخصيات الثقافية العربية الكبيرة لعل في مقدمتها : د. عبد العزيز المقالح، والشاعر الكبير سليمان العيسى، والشاعر عبدالله البردوني والكثير من الشخصيات الأكاديمية من العرب المقيمين في اليمن، وقد عقدت معها صداقات ظلت مستمرة، وتظل اليمن في القلب والذاكرة.
• يقول الشاعر الروسي يفيشنكو: ما أجمل أن نكون دائما على شيء من الطفولة، هذا تجسد ذلك في مزاوجتك بين الشعر وأدب الاطفال وخصوصا مسرح الطفل، حتى أنك عنونت أحد مجاميعك الشعرية بـ«شياطين طفل الستين» ؟
لابدّ لكلّ شاعر أن يكون على شيء من الطفولة،فبين الطفل والشاعر قاسم مشترك أعظم هو النظر بدهشة إلى الأشياء، يقول بيكاسو” العبقرية هي ألّا تغادر الطفولة “، فمرحلة الطفولة تبقى مرجعيتنا والمعين العذب الذي ننهل منه ومن هنا جاءت مقولة الشاعر وليام وردزورث ” الطفل أبو الرجل” ففترة الطفولة تترك تأثيراتها، وتبقى تفاصيلها منقوشة كالصخر على حجر، تقول الشاعرة الأمريكية لويز غليك “ننظر للعالم مرة واحدة في الطفولة ما يتبقى ذاكرة فحسب”، والكتابة بروح الطفل ليست عملية سهلة، يقول بيكاسو” لقدبقيتارسمسبعينسنةحتىتعلمتأنأرسمكطفل” وفي عنوان مجموعتي شياطين طفل الستّين، إشارة ضمنية لبلوغي سنّ الستّين،مع الاصرار على الطفولة، والتمسّك بها، في مجموعة أردت بها أن احتفي ببلوغي الستّين وتمحورت حول ثلاثة مرتكزات تشكّل ركائز حياتي هي: الطفولة، والزمن، والشعر، وقد كتب د.علي جعفر العلّاق على الغلاف الأخير للمجموعة” شياطين عبد الرزاق الربيعيّ، في طفولته الستينيّة، تختلف عن شياطين البشرالآخرين. إنها شياطين شعرية بامتياز، لا تؤذي ولا تشيخ ولا تكدّر الخاطر. وأجملُ ما فيها أنها لا توزّع على القرّاء إلا الجميل والمبتكر..تكاد قصيدةُ الشاعر عبد الرزاق الربيعي أن تكون صورةً عنه. نقيةً، وجارحةً، ومنطلقة الأسارير. لكنها تخفي، وراء ابتسامتها العريضة، وضحكتها الطفولية قدراً عالياً من الألم”
• أشار العلّاق إلى الضحكة الطفولية المدافة بالألم، مامساحة الألم في حياتك؟
أنا ابن العراق بكلّ مآسيه التي تمتدّ إلى عمق التاريخ، وانطلاقتي الشعرية كانت في ظلال الحرب، فبالتأكيد كان الإحساس بالألم حاضرا ومحرّكا، ودافعا قويّا للكتابة،إذ يقول بوموفسكي “ينتهي الحب عندما تكتشف أنك لم تعد تحس بالألم!”وكذلك الشعر. وهناك عدد كبير من قصائدي التي تتماهى مع الحزن والألم والمعاناة التي صادفتها في مسيرة حياتي ،أمّا على صعيد الحياة، فأتفق مع دوستويفسكي بقوله “أنا دائما بخير، أعرف كيف أتجاوز كل شيء وحدي، أعرف كيف أنام، وفي قلبي ما يكفي من الألم” ولذلك مثلما الحزن موجود هناك دعوة للتمسك بالأمل والرغبة في الحياة يجدها القارئ لقصائدي.
• -يقال عنك أنك “مسرحيّا في الشعر، وشاعرا في المسرح”، ما الذي يجعلك تكتب للمسرح بهذه الغزارة، هل هذا الشغف أنك زامنت أوج نشاط للحركة مسرحية في في المشهد الثقافي العراقي في السبعينيات والثمانينيات؟
منذ بداياتي كنت أؤمن بأن المسرح والشعر مكملان لبعض والمسرح فن شعري اغريقي، ومن الطبيعي، أن تتسلل لغتي الشعرية لنصوصي المسرحية، وبالوقت نفسه، تزحف عناصر المسرح لنصي الشعري، كالحوار والشخصية والبناء الدرامي الذي جعل الباحثة هند جاسم العبيدي تختار هذا العنصر ليكون موضوعا لدراسة اكاديمية حملت عنوان” البناء الدرامي في شعر عبدالرزّاق الربيعي نالت عنها درجة الماجستير في جامعة الموصل وكانت بإشراف د. جاسم العجّة، وهناك دراسة طور البحث حول الأداء الشعري في مسرحياتي.
• عملت محررا ثقافيا في الكثير من المطبوعات العراقية والعربية ، هل أكلت من جرف اهتماماتك الادبية، أم تراها أغنت معارفك؟
على العكس، جعلتني الصحافة قريبا من ضفاف نهر القصيدة، لأنني عملت في الصحافة الثقافية، التي تقومعلى النشاطات والفعاليات، فتحتاج الأدب ليمدها بالمادة الثقافية، ولكي لايبقى الأدب حبيس الكتب والرفوف يحتاج الصحافة لتمدّ جسور التواصل مع الجمهور الواسع، فالعلاقة تبادل منفعة مشتركة، ونشأتي كانت في بيئة تحتفظ بتاريخ طويل مع الصحافة، وتحدثت عن هذا الموضوع في محاضرة لي نظمتها الجامعة المستنصرية، فعدد المجلّات، والصحف السياسية والأدبية بين عهد مدحت باشا، وأخريات١٩٣٣ م بلغ ٣٠٩، فيما بلغ عدد الصحف الأدبية التي صدرت في العراق بعد الحرب العالمية الاولى ٨٦ جريدة، ففي بيئة كهذه نشأنا، وأعني: بيئة لاتكاد تفصل بين الصحافة، والأدب، فالكثير من الأدباء العراقيين عملوا في الصحافة، وتمثّل المادة الثقافية العمود الفقري للصحافة التي منذ بداياتها كان خطابها موجّها للنخب المثقفة، فعمل في إدارتها الأدباء، فالأدباء رفدوا الصحافة وارتقوا بخطابها لغة، ووعيا، وفكرا، وتظلّ العلاقة بين الصحافة الثقافية طردية تنشط الصحافة الثقافية عندما ينشط الحراك الثقافي وتتراجع عندما يتراجع، ولا نستطيع الفصل بينهما، وقد أكل عمل الأدباء بالصحافة من جرف الأدب، وابتلعت مواهب أدبية عديدة، لكن بالمقابل خدموها، وقدموا مادة غنية، وان لمادة الثقافية اليوم ضعفت بسبب استسهال الكثيرين للنشر، وعدم خضوعها لضوابط معينة خصوصا في الصحافة الالكترونية.
• ما الدافع من كتابك (أرواح ثكلى في كوكب مريض) والذي يشي عنوانه الثانوي، ب(مقاطع عرضية من ذاكرة الوباء) في أنك وثقت السنوات التي استبد بها وباء كورونا.. على خطى طاعون البير كامو، او “إيبولا 76” للروائي السوداني أمير تاج السر.. ماذا تقول عن هذا الكتاب؟
-كما أشرت في مقدّمة الكتاب، لقد اعتدت، منذ سنوات بعيدة، تدوين الأحداث المفصليّة في حياتي، للاستفادة من التجارب التي أمرّ بها، ليقيني أنّ الحوادث تتكرّر، والإنسان ينسى، ولهذا يقع في الأخطاء نفسها، دون أن يقدر على تجاوزها، ومنذ الأيّام الأولى لتفشّي فايروس(كورونا)، وقبل إعلان منظّمة الصحّة العالميّة في يوم 11 مارس 2020 تصنيفه جائحة عالمية، ووصوله مسقط، أواخر فبراير 2020، بدأتُ تدوين كلّ معلومة جديدة، وتفصيل يتعلّق به، دون تخطيط مسبق، لجمعها في كتاب، فالأفكار مثل البيوض بعضها تحمل أجنّة، ومشاريع حيوات جديدة، وهناك بيوض فاسدة، ولكنني كنت أدرك أن العالم يمرّ بحدث كوني، مفصلي، في التاريخ، ستكون له تداعياته، وانعكاساته على أنشطة الحياة بشكل عام. وعندما تضاربت المعلومات، وكثرت الأخبار، وتنوّعت مصادرها، وبين هذا، وذاك، وعلى مدى حوالي عامين، كنت أراقب، وأتابع، راصدا التطوّرات، وأقوم بفحصها، وتأمّلها، وفتح مغالق الذاكرة، ومراجعة صفحات التاريخ، الذي أؤمن بأنّه يكرّر نفسه، بأشكال مختلفة، كما قيل، ضمن حلقات متداخلة، وما (كورونا) سوى حلقة في سلسلة طويلة، بدأت منذ وُجِد الإنسان على الأرض، فحيّرته تلك الظواهر، وحاول تفسيرها ولأنّ مالرو يوصي في روايته(الأمل)” أفضل مايفعله الإنسانأن يحيل أوسع تجربة ممكنة إلى وعي”، وجدت نفسي غارقا في تلك التفاصيل، والقراءات، وقمت بتدوين تلك التفاصيل، وبعد مرور شهور عديدة تشكّلت لديّ نواة مادة الكتاب، عمادها مقالاتي، التي نشرتها في جريدة(عمان)، وملاحظاتي، ونصوصي الشعريّة، والمسرحيّة التي كتبتها خلال الجائحة، ورسائل، وإحصائيات، وحين بدأت الاشتغال، على الكتاب وضعت نصب عيني مقولة بابلو نيرودا “في بعض الأحيان، على الشاعر أن يكون مؤرّخا لعصره”، لتكون منطلقا لعملي، باعتبارنا شهود عصرٍ في كوكب يمرّ بحدث كونيّ، إستثنائي، ولابدّ أن نخرج منه بدروس، وعِبَر، وهو أمر لازمني طويلا، وضمن هذا التوجّه وضعت، قبل سنوات، كتابي” مدن تئنّ، وذكريات تغرق” الصادر عن دار الإنتشار العربي ببيروت 2008 الذي دوّنت فيه انطباعاتي، ومعايشي لـ(إعصار جونو) الذي ضرب السلطنة في 6 يونيو 2007، وكتاب” 14 ساعة في مطار بغداد” الذي سجّلت به مشاهداتي لبغداد بعد فراق دام 16 سنة متواصلة، وصدر عام 2012 بطبعتين في القاهرة، والمنامة، أمّا كتابي” يوميّات الحنين” الصادر عن النادي الثقافي بمسقط 2012، فقد ضمّ الكثير من الذكريات المحفورة على جدار الوجدان، وشغاف القلب، وكذا الحال مع كتبي الأخرى، ومن بينها” خطى..وأمكنة”، و”غرب المتوسط”، و”خطوط الذاكرة دوائر المكان”.
وقد وفّرت لي العزلة الإجباريّة التي فُرضتْ علينا جميعا، وقتا كافيا لقراءة هذه اللوحة التراجيديّة التي لم تكن تخلو من إشراقات، حاولت تقصّيها في دفّتي كتاب أردت له أن يكون مفتوحا على الأجناس، قائما على التداعيات الحرّة للمشاعر، والعواطف، فجاء خليطا من يوميّات، ومقاطع شعريّة، ومقولات، وتداعيات، ورسائل، وحكايات، ومشاهد بصريّة، ضمن إطار سردي يتداخل في نسيجه الحاضر، والماضي، في قالب تعبيري يروي تجربة فرد في كوكب يعيش به 7.8 مليار نسمة وجد نفسه بمواجهة وباء شرس، فدوّن تأمّلاته، وهواجسه، وقلقه، وحسراته، وتجلّياته .
• إن الشعر في أسمى تجلياته دهشة فنية وومضة إبداعية تحدث في المتلقي تعجباً وأثراً.. ما الذي يقوله الربيعي في الشعر؟
أقول ما قالهكونديرا في الشعر، حينما صرّح ” ليست رسالة الشعر أن يبهرنا بفكرة مدهشةولكن أن يجعل لحظة في الوجود لا تنسى، وتستحق حنينا لا يطاق”، فالشعر لغة ثانية مختلفة لا تكترث بالقواعد المنطقية، وغالبا تعدل باتجاه ما يحقّق الدهشة في المتلقي، ولذلك فإن غير المرئي يغدو أكثر جاذبية، والصمت أكثر بلاغة أحيانا على حد قول الجرجاني،وفي واحدة من رواياته يقول الكاتب إبراهيم نصر الله ” هناك شاعر في كل إنسان، لا يخرج إلا في اللحظة التي يلتقي فيها بنفسه تماما.”الا أننا في كتابة القصيدة لا تحضر في ذهننا الدهشة والمغامرة لكننا نلمسها بعد قراءتنا الأولى للقصيدة”.
• ما الذي يراه عبد الرزاق الربيعي في الحركة الثقافية في عمان، ومن يستوقفه من شعرائها؟
تستند الحركة الثقافية العمانية على تراث شعري ضخم، هذا التراث ألقى بثقله على النتاج الشعري، فطغت القصيدة الكلاسيكية على المشهد، لعقود طويلة، وتمخّضت عن تجارب كلاسيكية بارزة كأبي مسلم البهلاني والشيخ عبدالله الخليلي، ومع انفتاح عمان على العصر الحديث منذ مطلع السبعينيات، بدأت تتسع القصيدة العمانية الحديثة مساحتها وتسجل حضورا واضحا، فظهرت تجارب شعرية حديثة أمثال : سيف الرحبي، وسماء عيسى، وزاهر الغافري، وحسن المطروشي.
– كيف ترى المشهد الشعري العراقي الآن؟
المشهد الشعري بعد 2003م مازال غير واضح المعالم هناك تجارب جيدة، لكن الغث يغلب على السمين، خاصة في ضوء استسهال الكتابة النثرية، و عملية النشر مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتوفّر المنابر الثقافية ودعم طباعة الكتب، مع ذلك تظلّ الأنظار مشدودة شعريا إلى العراق حيث أن “الشعر يولد في العراق” كما قال درويش.
• هل سيجد الشعر حمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟…
الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: ” نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري” فالشعر يعيش بين الناس، وفي كل مناحي الحياة وفي كل أسلوب من أساليب التعبير التي يمكن ان تعطينا شعرا أصيلا. فالشاعر المعاصر غالبا ما يكتب بلغة الناس ولا يتردد في مفاجئتنا او إحداث الصدمة بلغته، وموقفه وتفاصيل حياته اليومية. هنا ينشق الشاعر عن نظرية اليوت في ان الشعر يجب أن يبتعد عن كل ما هو شخصي ويميل إلى توثيق المشاعر الإنسانية.. ينطوي السؤال على سؤال ضمني عن حال الشعر نفسه، ومستقبله بعد القفزات التي نشهدها يوميا في التقدم العلمي والتطور التكنولوجي، فهل سيبقى الشعر؟ أن تراه سيتراجع، ثم ينقرض ليخلي الطريق للعلم، علما بأن لا يوجد تعارض بين العلم والأدب، فكلاهما يكمل الآخر، ويبقى الشعراء ” أمراء الكلام” كما يقول الفراهيدي، ويبقى الشعر لصيقا بعذابات الإنسان ويعلو كعبه في الأزمات، يقول ابن سلام في معرض تعليقه على قلّة أشعار قريش قبل الإسلام ” وإنما يكثر الشعر بالحروب…والذي قلل شعر قريش إنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا ” وطموحاته وتجلياته، فهو باق ما بقيت تلك العذابات، والتجليات، لصيقة به، بل بوجوده، يقول اوكتافيو باث ” لا خوف على الشّعر من الزّوال، إنّه سيظلّ موجوداً ما دام للإنسان وجود على هذه الأرض”، وقد يمرّ بتراجع وفتور، وخور، وضعف في مرحلة من مراحل التاريخ نتيجة لظروف تحكم تلك المراحل، مثلما جرى في عصر صدر الإسلام، لكنه سرعان ما يعود مجدّدا مثل مارد يخرج من قمقم العصور، أما عن الجمهور، فالشعر، بالأصل، ليس فنا جماهيريا، إنه “فن الأقلية الهائلة” كما يقول خوان رامون جيمينز، والجمهور ليس مقياس جودة، فكثير من النصوص الكبيرة القيمة ليست لها جمهور، إلّا بين النخب، مثل شعر أدونيس، والكثير من الشعر المتوسط القيمة، الذي يعتمد على مداعبة عواطف الجمهور، تجد له رواجا لدى جمهور واسع مثل شعر أحمد مطر، قلّة من يمسكون العصا من المنتصف، فيجمعون بين الجمالي والموضوعي مثل شعر محمود درويش..
الجمهور ليس مقياسا سليما، وقبل سنوات بعيدة، كنت أضع معيارا للأفلام التي أنوي مشاهدتها دور العرض السينمائي، فإذا وجدت زحاما على شبّاك التذاكر أنصرف من المكان، إلى دار عرض سينمائي أجد شباك التذاكر خاويا على عروشه، وكثيرا ما يصدق حدسي، فالأفلام الجيّدة، ذات المحتوى لا تنجح جماهيريا، عكس الأفلام التي تخاطب الغرائز، والترويح عن النفس، إلّا في استثناءات تجمع بين الفرجة والمحتوى العالي، فالشعر يرتبط بطبيعة المجتمعات، ففي المجتمعات البسيطة التي تعيش على هامش المدن الكبرى، وفي حالة شبه عزلة عن المحيط الخارجي تجد للشاعر جمهورا..
وفي النهاية، إذا كان الشعر قريبا من قضايا الناس وتطلعاتهم، قريبا من مداركهم، يتعاطى مع الأحداث التي تشغل تفكيرهم، فبالتأكيد سيضمن جمهورا له، إذ يجدون به متنفّسا، وإذا لم يجد جمهورا، فهذا لا يعني أنه شعره غير ذي قيمة.
• شر في: 13 أغسطس, 2024: 12:01 ص