مقال

مع المشاية في طريق أبي الأحرار

مشاهدات حية بين الكاظمية وكربلاء مع الساعين إلى المدينة الفاضلة

علي جبار عطية| العراق

اتفقت مع رفاق رحلتي من الكاظمية إلى كربلاء في طريق أبي الأحرار على بدء المسير إلى سيد الشهداء قبل ثلاثة أيام من زيارة الأربعين أي في اليوم السابع عشر من صفر، فالمسافة بين الكاظمية وكربلاء تبلغ نحو ١١٨كيلومتراً، ونحتاج إلى مدة زمنية كافية إذا أردنا أن نقطع المسافة راجلين تحت عنوان مشرّف هو (المشاية) واضعين نصب أعيننا قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام:(من أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيّئة، ورفع له ألف درجة) .
حين يستمع المرء إلى الأناشيد الحماسية التي تنبعث من مكبرات الصوت في سرادقات العزاء على طول الطريق، وهي تحث على المشي لا يملك إلا أن يصر على المشي، ولو كلفه ذلك تضحيات كبيرة قد تصل إلى فقد الحياة !
(مشاي جيت على القدم) (إلى الله.. سفرة إلى الله.. حسيناه بدمنه حسيناه.. مشيناه دربك مشيناه.. القارات السبع ضجت.. ولكربلاء حسين حجت.. إلى الله ) (فدوة أروحن لتراب رجليكم.. والمواكب يا هلا تحييكم) (هلا بيكم زوار حياكم..لأبو طلبة هليوم ممشاكم) (يا حسين بعنا أرواحنا اشتريها.. ردنا بثمن خطوة مشي بزيارة)..
شب جدل بشأن الثواب الكامل لهذه الزيارة، وهل يجزي أن نزور الحسين في أي يوم من أيام شهر صفر ، وبعد التباحث مع عددٍ من الشيوخ توصلنا إلى نتيجة مفادها أنَّ الذي يزور سيد الشهداء في أي يوم من أيام السنة يكتب له ثواب زيارة لكنَّ الثواب يتضاعف في الأيام المخصوصة كليلة الجمعة، وليالي القدر، ويوم عرفة، وليلة العيد، ويوم الأربعين !
توصلنا إلى حلٍ يُرضي فضولنا الديني وهو أن يؤدي الزائر مراسيم الزيارة عن قرب في اليوم الذي يصل فيه إلى كربلاء، ثمَّ يعيد الكرَّة في يوم الأربعين فيزورعن بعد في أي مكانٍ يحل فيه !
تقول الحكمة : (الصديق قبل الطريق) . وكما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَنْ يُخالل).
كنا ثمانية أصدقاء وآباء متفاوتي الأعمار بين الستين والعشرين: شقيقي التدريسي في كلية الطب البيطري الدكتور عادل الربيعي، وشقيقي التدريسي في كلية هندسة الخوارزمي المهندس الدكتورعدنان جبار الربيعي، وابن شقيقي التدريسي في الجامعة المستنصرية الدكتور أحمد حاتم، والمهندس حسن القريشي، والأكاديمي في جامعة بغداد فاضل كاظم الكناني، وولدي مرتضى علي الطالب في كلية طب الأسنان وابن شقيقي محمد باقر الطالب في تخصص صناعة الأسنان، وكاتب السطور..كل هذه العناوين تختفي ليظهر عنوان واحد مشرف هو (زائر) ! حملنا حقائبنا وبعض ما نحتاجه من مستلزمات رحلة أمدها أربعة أيام، وقلوبنا معلقة بين الأرض والسماء مع العشاق الوالهين إلى لقاء أشرف الموجودات.
مسيرة استثنائية:
مسيرات عدة يشارك فيها المرء خلال حياته إلا أنَّ مسيرة الزيارة الأربعينية استثنائيةً في كل شيء، وتكتسب شرفيتها من انتسابها إلى شخصٍ يحمل صفة ذي النفس المطمئنة، وهل هناك مثل الحسين؟ فضلاً عن أنَّها مسيرة ضد الظلم البشري الذي وقع على أهل بيت النبوة منذ فجر الرسالة، وحتى العصر الحديث لكنه تجسَّد يوم العاشر من محرم سنة ٦١هجرية حين حاول أهل الباطل إطفاء النور المحمدي فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
منذ أربعة عشر قرناً وإلى الاحتلال الأمريكي للعراق وإسقاط الدكتاتور في نيسان سنة ٢٠٠٣م لم يكن من السهل أن يمارس الزائر شعيرة زيارة الأربعين من دون مخاطر حقيقية، أو مساءلات أمنية، لكن هذا الأمر أصبح متاحاً بعد سقوط حكم البعث في العراق ، وإنْ ظهرت مخاطر من نوع آخر تمثلت في سنوات العنف الطائفي بالسيارات المفخخة والانتحاريين، وقد دفع موالو أهل البيت دماء زكية في هذا الطريق الذي قررنا السير عليه.
تورد المراكز الرسمية أرقاماً لأعداد الزائرين في الأربعينية تشير إلى تعاظم الأعداد، ومن دول العالم كافة مع التحسن التدريجي النسبي للأمن والنظام السياسي وتتجاوز أعداد الزائرين العشرين مليون نسمة، منهم أكثر من خمسة ملايين زائر من خارج العراق، وتقطع أعدادٌ كبيرةٌ منهم مسافات تتجاوز مئات الكيلومترات مشياً على الأقدام، في أجواء مناخية صعبة تصل الحرارة فيها إلى منتصف درجة الغليان، وينصب أكثر من أربعة عشر ألف مخيم على طول الطريق إلى كربلاء،كما تفتح البيوت أبوابها لمختلف الزائرين، وتقدم خدمات ضيافة من إطعام، وإيواء جعلت اليونسكو يدخلها ضمن التراث الثقافي غير المادي في لائحة التراث العالمي منذ شهر كانون الأول سنة ٢٠١٩. (قالت اليونسكو في تغريدة على حسابها في تويتر : تهانينا للعراق.. إدراج عنصر الضيافة وتوفير الخدمات خلال زيارة الأربعين في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية) .
في تفاصيل ما جرى
انطلقنا في السادسة والربع صباحاً من يوم السابع عشر من شهر صفر من مدينة الكاظمية المقدسة بالسيارة إلى مشارف منطقة الدورة جنوبي بغداد مختزلين عشرين كيلومتراً من طريق بغداد ـ كربلاء الذي يقدر بنحو مئة كيلومتر. استوفى السائق من كل واحد منا أجرته ألفي دينارعراقي أي نحو دولار ونصف أمريكي.
لم يغب الكرم والجود العراقيان في السيارة لكن حضر تنفيذ اتفاقنا بأن يتكفل كل مسافر بدفع نفقات سفره.
انتهى عهدنا بالسيارة حالما نزلنا منها،وأصبحت نظراتنا إلى راكبي السيارات كأنهم ارتكبوا ذنوباً ، وابتدأت رحلة المسير في طريق الخالدين.
مع أول الأمتار، ونحنُ ندخل الحشد السائر إلى كربلاء هبط عليَّ إحساس مدهش بالخلود والأمان والطمأنينة !
شعور لم أعشه من قبل.
كانت الأرزاق توزع علينا يميناً وشمالاً مع توسل مبالغ فيه من القائمين على خدمة الزوار.
أفطرنا بشوربة عدس لذيذة، وبيضة مسلوقة، وقرص خبز من الرز يُدعى (سياح)، وكوب شاي عراقي ثخين !
كنا نقطع مسافة أربعة كيلومترات بساعة ثمَّ نستريح نصف ساعة، واكتشفت سر قطع بعض المشاية مئات الكيلومترات، وهو هذا التقسيم الذي يراعي تعب الجسد فلو جاء الزائر ماشياً من روسيا أو تركيا أو الجمهورية الإسلامية في إيران أو غيرها فيمكنه ذلك بشرط تقسيم ساعات المشي كل يوم مع ازدياد الأيام المخصصة للمشي حسب بعد المسافة بين مدينة الانطلاق ومحافظة كربلاء.
فوائد المشي :
وفقاً لتقرير بثه موقع الجزيرة نت في ٢٠٢٢/١١/٩م فإنَّ: (المشي هو أحد أفضل الرياضات نفعاً في حرق السعرات الحرارية وتقوية العضلات، والمساعدة في التحكم في الوزن، وهو صفاء للذهن وصحة للجسد، وهي رياضة لا تحتاج إلى معدات، ويمكن ممارستها في كل مكان، فالمشي يرفع معدل ضربات قلبك، مما يحسن وظيفة الضخ. وعبر المشي بسرعة معتدلة يومياً، وبمرور الوقت، سيتمكن القلب من نقل الدم بسهولة وكفاءة أكبر، كما أنَّ المشي كل يوم يزيد من قدرة القلب والأوعية الدموية على التحمل، مما يسمح للشخص بممارسة الرياضة لمدة أطول وأصعب. ويمكن للمشي أن يوفر جرعة يومية من السعادة، حيث يؤدي لإطلاق مواد تسمى الإندورفين التي تحفز السعادة، وتقلل من التوتر. لذلك يمكن أن يساعد المشي على التحكم في القلق وتجنب الاكتئاب.
وقد يؤدي المشي كل يوم إلى تحسين النوم، وهذا يعود جزئياً إلى تقليل التوتر، وإلى أنَّ الجسد عندما يتعب سيطلب الراحة وسينام أسرع، والنوم العميق والمزاج الجيد هما سر زيادة الطاقة التي ستحصل عليها عند المشي كل يوم
فالمشي يمرن عضلات الجزء السفلي من الجسم، وهذا يجعلها أقوى، ويحسن من لياقتك، وينصح عموماً بالمشي بوتيرة سريعة، ووفقا لدراسة نشرت عام ٢٠٢٢م فإنَّ الوتيرة السريعة في المشي تؤدي لنتائج إيجابية لأمراض القلب والسرطان والخرف.. ).
لا يقتصر المشي إلى كربلاء على الشباب القادرين عليه كرياضة ، وإنّما تجد إصراراً عجيباً على المشي من الذين تشق عليهم الحركة لمسافات قصيرة كأصحاب الأمراض المزمنة ، وذوي الإعاقة ، كذلك كبار السن، والأطفال والحضور النسائي الكبير، يوحد الجميع طريق أبي الأحرار، والمشاركة في أكبر مسيرة إنسانية ضد الظلم. إنَّ المشي إلى كربلاء، وتجديد الولاء إلى الحسين الرافض الأعظم للطغيان صار جزءاً من ثقافةٍ إنسانيةٍ آخذةٍ بالاتساع.
قرأنا لافتة تشير إلى أنَّ أهل بغداد قطعوا مسافة شرعية تلزمهم بأن يؤدوا الصلاة قصراً ! إذن فقد وصلنا حد الترخص الذي تقصر فيه الصلاة الرباعية، ويفطر الصائم ! بعد عشرة كيلومترات من المشي الوئيد واجهتنا مشكلة سببها عدم اعتياد أقدامنا على المسير الطويل بنوع من الأحذية فاضطر بعضنا إلى استبدالها بأحذية ملائمة ، ثمَّ برزت مشكلة أخرى هي التفاوت في الخُطا لكننا تغلبنا عليها بأن ينتظر الماشي السابق رفيقه اللاحق عند أحد الأعمدة الكهربائية المرقمة على طول الطَّريق والتي تفصل كل واحد منها عن الآخر مسافة خمسين متراً، ويقال: إنَّ بعض الجهات التطوعية اتفقت مع الجهات الحكومية المختصة على ترقيم هذه الأعمدة لتسهيل التواصل بين الماشين على هذا الطريق !
ضاقت الأنفاس
لمن لم يعتد المشي لمسافات طويلة فإنَّ مشكلات بدنية تواجهه وكاد القلق على تحمل جميع رفاقي في الرحلة العناء يقضي على أملي في مواصلة المشي، واستيقظت فكرة أن نعود إلى البيت ثمَّ نجيء ثانيةً راكبين لا راجلين لكنَّ الله سبحانه أبى إلا أن يكرمنا بكرامة الحسين فاهتدينا إلى الحل، أن يراعي القوي منا الضعيف عند المشي، ونجحت الخطة !
كنا نسير ونهدي بعض الخطوات إلى الأموات والأحياء، وعلى رأسهم شقيقي الرياضي محمد المشاء الموالي الراحل الذي يصغرني بخمس سنين، وله الفضل في تشجيعنا قبل رحيله إلى الآخرة على المشي بعد أن زار ماشياً من بغداد إلى كربلاء سبع مرات ،وجاء معنا ابنه محمد باقر ليواصل مسيرة أبيه .
بدأنا بإهداء الخطوات إلى الأقرب فالأقرب، ثمَّ إلى مَنْ لهم فضل علينا من العلماء من مراجع الدين العظام، ومعلمينا على اختلاف مراحلنا الدراسية،وكل مَن قدم لنا خيراً، وتوسعت الدائرة لتشمل معارفنا بيتاً بيتاً ثمَّ كل مَن انتقدته أو اغتبته !
تجادلنا في مصير ثواب هذه الخطوات المباركات التي أهديناها، وقطعنا الجدل بسؤال وجهناه إلى أحد طلاب الحوزة العلمية المتواجدين على طريق المشاية للاستفتاءات الشرعية.
سألته : ما مصير الخطوات التي نهديها إلى الأحياء والأموات ؟ أجاب الشيخ بشيء من الفكاهة : وهل يبقى شيء لمن بعث رصيداً نقدياً إلى شخصٍ آخر! ؟ وحين رأى علامات الأسى على وجوهنا استدرك قائلاً : لكن ينالكم ثواب آخر هو إدخال السرور على مؤمن ! بعد خمسة وعشرين كيلومتراً تجاوزنا مناطق المحمودية، واللطيفية واليوسفية، والحصوة تذكرنا الشهداء الذين سبقونا في الوصول إلى الآخرة شوقاً إلى نيل الحرية، ولعلَّ دماءهم الزكية هي التي عبّدت الطريق الآمن لنا إلى مهوى الأفئدة، وكعبة الأحرار.
المبيت في الأسكندرية
وصلنا إلى مشارف منطقة الإسكندرية، فحصل تنازع بشأن مبيتنا. قدمت لنا عروض سخية كثيرة للمبيت والضيافة ممن لم نعرفهم، ولم نلتقهم سابقاً من سكان المنطقة، والكل يتسابق للظفر بنا فيعرض خدماته، لكن وقع اختيارنا على رجل يكنى بأبي حيدر نقلنا بسيارته إلى بيته، وضيفنا خير ضيافة، فأصر على تقديم وجبة عشاء برغم أنَّ عددنا كان يزيد على ٢٠ زائراً،وفي الصباح أصر على تقديم وجبه إفطار لذيذة. تبادلنا طوال مكوثنا في بيته أحاديث لطيفة بشأن أهداف الزيارة وتشريف العراقيين بإقامة أكبر مأتم إلهي لسيد الشهداء، وكان اختيار السماء للحسين ليأتي إلى العراق في محله لأنَّهم أهلٌ لذلك.
تطرق أحد الزائرين إلى حركة المختار الثقفي وشخصيته المثيرة للجدل فشاركتُ بالحديث وفق معلومات استقيتها من كتاب قرأته مؤخراً برغم صدوره سنة ٢٠٠١م عنوانه (دولة المختار الثقفي) للكاتب (محمد رضا حدرج) قلتُ : إنَّ المختارالثقفي (٦٢٢م ـ ٦٨٧م) مظلومٌ تاريخياً حتى من كتّاب الشيعة حين يروون أنَّ حركته كانت عنفيةً برغم اكتسابها شرعيتها من شخصيات المشتركين بها لذا استحق دخول النار، لكنَّه يخرج بشفاعه الحسين عليه السلام.
لم يرد عليَّ أحد باستنكار كما هو الحال في الكثير من الأماكن حين يدافع كل شخص عن رأيه بقوة، وهذا يعود ربما إلى التغيير التكويني بنفوس الزائرين في هذه الزيارة فالجميع يتصف بروح البذل والسماحة وتقبل الآخر.
تعمدتُ تلطيف الجو حين ذكر أحدهم فوائد الزبيب فقلت: إنَّي لا أستسيغ الزبيب، وإذا رأيت الكشمش مع الرز تهبط عليَّ الكآبة فاذا كانت في المائدة مرقة الطرشانة (المشمش المجفف) يرتفع منسوب الكآبة، وتبلغ ذروتها مع تقديم أكلة الدولمة (الرز الملفوف بالسلق).. وما ذكرتها هي أكلات ليست مفضلة عندي !
قبل الفجر بثلث ساعة أيقظت الصديق فاضل الكناني بمقولةٍ نبوية شهيرة هي (مَنْ أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) فنهضنا لنؤدي على عجلٍ صلاة الليل، قبل أن يطلع الفجر، ثمَّ صلينا الصلاة الواجبة وجلسنا للتعقيب فكانت عبادةً أحسسنا فيها بلذة التوفيق .
على مشارف المدينة الفاضلة
في صباح اليوم الثاني واصلنا الرحلة بسيارةٍ قطعت بنا مسافة عشرة كيلومترات كجزء من ضيافة أهل الدار تلقينا هذه الهدية على مضضٍ ظناً منا أننا أخللنا بثواب الزيارة مشياً ! نزلنا قرب ما تسمى بساحة نُصبت فيها دلة قهوة كبيرة أخذت تعرف باسمها (ساحة الدلة). فيا له من شرف للدلة أن تسمى الساحة باسمها ! لم يبق لنا سوى خمسين كيلومتراً لنصل إلى المدينة الفاضلة إنْ لم نكن نحنُ فيها فعلاً ! بماذا كان يحلم أفلاطون والفارابي والمصلحون وغيرهم من دعاة الخير ؟ ألم يكن هدفهم رفع مستوى الإنسان ليكون إنساناً فاضلاً كاملاً يفعل الخير دائماً ؟ هاهو النموذج السامق يتجسد في هذه الملايين الزاحفة، ومَنْ يقوم على خدمتهم بذلاً وعطاءً وتضحيةً وتراحماً.
فقاعة جلدية أسفل قدمي !
واصلنا مسيرنا قاصدين مدينة المسيب، وبعد عدة كيلومترات شعرت بألمٍ في قدمي اليسرى فأخبرتُ رفاق رحلتي بذلك فقالوا: إنّها بداية فقاعة جلدية يمكن أن تنفجر في أقرب فرصة كما حصل في العام الماضي مع الصديق أبي ضرغام عبد المحسن سعدون دفار فتطورت الفقاعة لتندمل وتتحول إلى جرحٍ دامٍ أعاق حركته، ومنعه من مواصلة المسير بانسيابية بل صارت عليه الرحلة شاقةً للغاية أكلت من جرف لذة الزيارة ماشياً! أما سبب ظهور الفقاعة الجلدية في قدمي فهو احتكاك القدم بالنعل نتيجة السير الطويل فتكونت بثرة أسفل القدم لو أُهملت تنفجر فتصير جرحاً تصعب عليَّ معه الحركة. ندمتُ لرفضي تغليف قدمي بشاش طبي يخفف من هذا الاحتكاك بدعوى أنَّ ذلك يخل بتوازن القدم ! قررنا الوقوف عند أقرب مفرزة طبية، فوجدنا المعالج الطبي ويدعى كريم الذي هوَّن من إصابتي، لكني قلت له: كل الأمور تبدأ صغيرة لكنها إذا تركت ستصبح كبيرة !
رد عليَّ بأسلوب لا يخلو من ملاحةٍ بالقول :سالفتك سالفة ذاك النحوي الذي وقع في حفرة فطلب المساعدة فجاءه رجل لينقذه فقال النحوي: أعطني حبلاً دقيقاً، وشدني شداً وثيقاً، واجذبني جذباً رفيقاً، فرد الرجل : ابقَ بالحفرة يطبك مرض !
[ورد في كتاب (المستطرف من كل فن مستظرف للأبشيهي) الطرفة الأصلية: وقع نحوي في كنيف (مرحاض)، فجاء كناس ليخرجه، فصاح به الكناس ليعلم أهو حي أم لا. فقال النحوي: اطلب لي حبلاً دقيقاً ، وشدني شداً وثيقاً ، واجذبني جذباً رقيقاً. فقال له الكناس: امرأتي طالق إنْ أخرجتك منه. ثم تركه وانصرف.] واضطررتُ إلى تغليف قدمي بحفاظة أطفال !
عند مدينة المسيب 
وصلنا مدينة المسيب التابعة لمحافظة بابل وقد رجّح العلامة مصطفى جواد أنها سميت باسم المسيَّب أخي دبيس بن الأمير صدقة المزيدي الذي أسس الحلة سنة ٤٩٥هـ، لكنَّ المؤرخ عبد الرزاق الحسني تبنى رأي الرحالة عمانوئيل فتح الله عمانوئيل الذي زار المدينة سنة ١٩١١ وقال : (وسميت هذه البلدة باسم المسيَّب بن نجبة الفزاري وكان من أصحاب علي بن أبي طالب وخيارهم) ، وأضاف نقلاً عن تأريخ الطبري (وكان قد قتل يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى سنة ٦٥ هـ في وقعة عين الوردة… ولكن لا نظن أنه دفن في هذا الموطن ، وإنما بني له مزار فسمي باسم المزار) فيكون اسم هذه المدينة قد أُخذ من اسم أحد ثوار حركة التوابين الطالبين بدم الحسين عليه السلام وأهل بيته وصحبه الكرام. أبهجتني لافتة حديدية خطت عليها عبارة مغرية للغاية تقول : (بقي على جنة الحسين ثلاثون كيلومتراً !). واصلنا الهمة والمشي السريع، والتوقف الاضطراري حتى وصلنا إلى العمود ذي الرقم ٢٦٨ قبيل غروب شمس اليوم الثاني أي نحو الخامسة مساء.
لم أبقَ ناصع البياض !
أخللتُ بوعدي بأن أبقى ماشياً، ناصع البياض فاضطررت إلى ركوب الحافلة الحمراء ذات الطابقين التي خصصتها وزاره النقل العراقية بأجرة يسيرة تبلغ خمس مئة دينار عراقي (أقل من نصف دولار أمريكي) اختزلت لنا نحو عشرة كيلومترات قطعتها بنصف ساعة لنصل إلى مسافة تبعد سبعة كيلو مترات عن مرقد الحسين عليه السلام أي عند العمود ٧٢ وفي موكب (باب الحوائج) كانت استراحتنا أنا ومرتضى فصلينا المغرب والعشاء، وأقبل قلبي فصليت صلاه الليل مستفيداً من جواز تقديمها بعد صلاة العشاء حسب رأي الفقهاء الذين يجيزون تقديم صلاه الليل للمسافر، والشاب، ولمن خاف الفوت، وبعضهم يرى أنَّ وقت صلاة الليل يبدأ بعد صلاة العشاء، وإنْ كان وقت الفضيلة أن تؤدى قبل الفجر . استفدت من استمرار إقبال القلب فقرأتُ زيارة الأربعين من باب (وعجلتُ إليكَ ربّ لترضى) سورة طه ـ الآية (٨٤) عند الساعة الثامنة والنصف ليلاً واصلنا مسيرنا حتى العمود ٢١ إذ التحق بنا الدكتور أحمد حاتم وصديقه حيدر اللذان سبقانا بالوصول.. استرحنا قليلاً في بيت مخصص للزوار ثم انطلقنا بعد التاسعة والنصف ليلاً في دروب ضيقة لنصل الى بيت ابنة شقيقتي قبل منتصف الليل بربع ساعة في مدينة لا تعرف النوم .
في شقةٍ قريبة من القلب
تسكن ابنة شقيقتي وزوجها الدكتور رسول بدر المتخصص في دراسة التاريخ الحديث في شقة مساحتها ثلاثون متراً مع الأهل لكن هذا لم يمنعهم من تضيّيف أكثر من عشرين زائراً يومياً من زوار الحسين عليه السلام حتى لو اضطروا إلى إخلاء البيت للزوار، والسكن في فندق طوال أيام الزيارة إيثاراً منهم، وإكراماً للزوار.. ألم أقل : إنَّ زيارة الأربعين فيها تغيير تكويني في نفوس الموالين لأهل البيت عليهم السلام ؟ ضيَّفونا هذا اليوم في الطابق الثالث خير ضيافه، ونمنا بلا أحلام بعد الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، واستيقظنا في الخامسة والنصف فجراً استعداداً للزيارة قبل يوم واحد من الزيارة الأربعينية. بعد شروق الشمس قرأنا زيارة الأربعين عن بعد وصلينا صلاة الزيارة. خرجنا من بيت رسول بدر عند التاسعة والنصف ضحى لنصل الى كعبة الأحرار مرقد الحسين عليه السلام وأخيه العباس وأهل بيته وصحبه الكرام.
أمام القبة السامقة
شعورٌ غامرٌ بالسعادة والشجن ينتاب المرء وهو يرى القبة السامقة المتلألئة بالضوء وسط أمواج من البشر. تنسى في هذا الوقت كل شيء إلا أن تكون في أقرب مكان لسيد الشهداء.. تنسى حاجاتك كلها إلا حاجة الوصل، وأن ترى التوحيد والعدالة والحرية والكرامة والإباء والفضائل الإنسانية الكاملة متجسدةً في رجل فريد هو الحسين. زرنا هذه المرة عن قرب.. بعد العاشرة والنصف ضحى بدأنا رحلة العودة عن طريق شارع الدكتور أحمد الوائلي، وتوقفنا عند مجموعة باكستانية تلطم على الرؤوس وتردد :(حسين يا حسين) بإيقاع هندي من دون أن يلفظوا حرف الحاء فعرفنا من أين جاءتنا هذه الطريقة في الأداء التي أخذ بعض المنشدين بترديدها جهلاً بحرمة الاسم الشريف. وصلنا إلى الطريق الذي تتحرك فيه العجلات فكان بعض سائقي العجلات الصغيرة يعملون مجاناً تبرعاً حباً بالإمام الحسين. نقلنا صاحب سيارة (تويوتا دبل قمارة) إلى مسافة عشرة كيلومترات قرب جسر الوند.. صلى بعضنا في موكب في طريقه إلى الهيكلة. لم يعجبني المكان، وأدبر قلبي، فأجلت أداء الصلاة في أول الوقت. أخبر ولدي مرتضى ابن عمه محمد باقر قائلاً : أبي لم يصلِ ! أجاب محمد باقر إجابةً لاذعةً : ماذا تتوقع من شخصٍ لا يحب الزبيب، ومرقة الطرشانة !؟ أسرني دعاء ذو شجن لإمام صلاة يؤم مجموعةً من الزوار الإيرانيين كان يدعو في قنوته أن يوفقهم الله إلى زيارة الإمام موسى بن جعفر الكاظم ومحمد بن علي الجواد عليهم السلام فمنحني شعوراً بالنعمة الكبرى التي نحنُ فيها قريبين من ملاذنا الآمن في الكاظمية المقدسة،وفي جوار جنةٍ أخرى فنحنُ ذوو حظٍ عظيم أن نتنقل من جنةٍ إلى جنةٍ ومن سعادةٍ إلى سعادةٍ.
الخروج من الجنة !
أحسسنا بالجوع فكانت هذه إشارةً واضحةً بالخروج من الجنة ! تذكرتُ محنة أبينا آدم عليه السلام حين خرج من الجنة !. ندمنا على رفض العروض السخية الكثيرة للطعام التي قدمت إلينا في طريق العودة.. لاحت لنا سيارة محملة بالقدور وتوزع الرز والقيمة.. اتجهنا نحوها وأخذنا حصتنا الغذائية أكلناها بلذة تفوق الوصف وشربنا الماء العذب . تذكرت حكمة للإمام علي الهادي عليه السلام يقول فيها : (السهر ألذّ للمنام، والجوع يزيد في طيب الطعام…). تكرر منظر السيارات التي توزع الطعام حتى صار ميزةً لهذا اليوم. وفي كراج السيارات المخصص عاد البشر لطبائعهم في التنازع والتنافس. استطعنا الحصول على سيارة تويوتا (كوستر) بصعوبة. حشر فيها ستة منا بينما تركنا اثنان ليصعدا سيارة أخرى. أصر السائق على استيفاء الأجرة كاملة ستة آلاف دينار عراقي (نحو أربعة دولارات ونصف أمريكية)، برغم أننا ركبنا معه، وقد تجاوزنا ثلث الطريق المؤدي إلى الكاظمية التي وصلناها الساعة الرابعة مساء..أخبرني أحد السواق في ما بعد أنَّ إيراداته من نقل الزوار من الكاظمية إلى كربلاء خلال يومين تجاوزت المليوني دينار عراقي (نحو ألف وخمس مئة دولار أمريكي).
إحساسٌ عالٍ بالظفر انتابني، وشعورٌ مفعم بالشوق إلى تكرار الزيارة وانتظار مجيء شهر صفر آخر ليحظى المرء بهذه الأجواء السامية، ويبقى المرء يتساءل : ما الذي يجذب هذه الملايين لإحياء هذه الفعالية كل عام، والإصرار عليها حتى في أحلك سنوات العنف الطائفي، والتعرض لأخطار كثيرة محتملة ؟ ما الروح العظيمة التي جعلت الملايين تشعر بأنها أُسرةٌ واحدةٌ ؟
ما الذي يجعل بقعة كربلاء الصغيرة جغرافياً تتسع لتستوعب جميع الزائرين؟ إنَّه عشق الحسين والحرية والحياة الحقيقية، وهذا ما لا يدركه الآخرون الذين ينظرون إلى الأمر بالحسابات التقليدية وبنظرةٍ سطحيةٍ. وهذه هي الثقافة المتحصلة لهذه الذكرى العظيمة ذات العطاء الإنساني الكبير.
وكتحصيل حاصل لما ذكر فإنَّ الزيارة الأربعينية حدث استثنائي خارج الزمان والمكان برغم جريانه الطبيعي ضمن السياق التاريخي، وعليه لا يمكن فهمه على وفق المقاييس والقوانين الفيزيائية، ولابدَّ من وقفةٍ أدبيةٍ طويلةٍ أمامها كظاهرةٍ تعكس حضارة شعبٍ ترسخت هويته عبر إرثٍ كبيرٍ من قيم البذل والسخاء والعطاء منقطع النظير برغم كل ما وصم به هذا الشعب العريق من صفات سلبية دخيلة عليه جاءته عبر عصور الاحتلالات الداخلية والخارجية فشعب العراق الحقيقي هو شعب الرسل والأنبياء والأئمة والعلماء والصالحين والأدباء والمفكرين.. شعب القلم، والعلم، والتوحيد، والولاء، و البراءة، والكرم والجود، والعطاء، والتضحية المتجسدة في شخص الحسين عليه السلام، وكفى بذلك عنواناً وهويةً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى