ترجمة: د. أسماء موسى عثمان| مصر
بقلم: فيورينزو ديوني
وصل ماركو إلى الموعد قبل الوقت المحدد بكثير. أوقف سيارته الـBMW على مسافة من المدخل الرئيسي، بعيدًا عن العيون الفضولية. فتح الباب وأخرج ساقه اليسرى؛ كانت الشمس لافحة، لكنه أبقى طوال الرحلة، مكيّف الهواء بأقصى طاقته، فكان قليل من الدفء الآن أمرًا جيداً له.
كان ماركو موتي، رسميًا مجرّد بائع، يعمل لحساب شركة مكيّفات هواء، لم يُخطئ حسابه للوقت؛ لقد حضر مبكرًا عن قصد، ليفحص مجدداً المعلومات التي بين يديه. لم يشأ أن يتعثّر في أي تفصيلة خلال تفاوضه مع العميل. كان يثق كثيرًا بقدرته على الارتجال، ونادرًا ما كان يُحضّر لاجتماعات العمل. لكن ذلك اليوم لم يكن هنا بصفته الوظيفية تلك؛ والمنتج الذي جاء لأجله هذه المرّة لا يحتمل خطأ واحدًا—الخطأ فيه، يعتبر مخاطرة قاتلة.
ومع ذلك، لم يخفِ دهشته من هذه الدعوة المفاجئة؛ لكن، بين كل الاحتمالات التي راودته، ظلّ احتمال زيادة الأرباح يحتلّ تفكيره. أو هكذا كان يأمل.
أخرج جهازه اللوحي وضغط زر التشغيل، فلديه متّسع من الوقت.
وفي انتظار أن تعمل البرامج، ترك عينيه تتجوّلان حوله. الحياة هنا تتحرّك بأشكال متعددة: إسكافي أمام دكّانه يطرق بمطرقته كعب حذاءٍ بالٍ، بينما امرأة تمرّ أمامه تدفع عربة تسوّق فارغة. ثلاثة رجال مسنّين يلعبون الكوتشينة أمام مقهى، يحتمي كلّ منهم بظلّ مظلّة يبدو أنها أعتق منهم عمرًا. وعلى مقربة، بائع فاكهة يصرخ بلغـة لا يفهمها ماركو مروّجًا لجودة بضاعته.
التفت إلى الجهة الأخرى: واجهة سينما أغلقـت منذ زمن و صارت مأوًى لشبّان عاطلين، وكانت امرأة في تلك اللحظة تصرخ عليهم و تأمرهم بالانصراف. خطرت بباله أن المكان ليس آمنًا لسيارته باهظة الثمن، لكن إخفاءها هنا خير من أن تكون في واجهة الأنظار في الموقف الرئيسي.
آه… ما أضعفنا أمام رموز المكانة!
أعاد نظره إلى الأمام. بين سيارته والجدار الإسمنتي المقابل امتدّت رقعة ترابية تستعد لاستقبال بناء جديد: الجرافات بدأت بالفعل حفر الأرض وتكوين تلال صغيرة. ومن بين تلك التلال كانت تتعالى ضوضاء صاخبة، فريقان من الأطفال يخوضون معركتهم: أربعة مقابل أربعة، كلّ فريق يتحصّن خلف التلال المصطنعة. يطلقون الأوامر ويهدّدون العدو ويرشقون الحجارة كأنها قنابل، مقلدين بأسلوب طفولي أسلحة لا يمتلكونها إلا في خيالهم. قائد أحد الفريقين كان الأكثر تسليحًا—قطعة خشب على شكل حرف «L» يجسّد بها مسدسًا. ومع كل طلقة يتوهّم أن بندقيته تتراجع من قوة الارتداد، يرافقها محاكاة صوتية لإطلاق النار. لا أحد منهم يموت، فحربهم لعبة طويلة يجب أن تملأ هذا المساء… وإلا فعليهم اختراع لعبه جديدة ليستمتعوا بوقتهم
نزل ماركو من السيارة، وانتظر سماع البيب الذي يؤكد إغلاقها، ثم بدأ يتّجه نحو المدخل الخلفي للمصنع. ظلّ يراقب الأطفال يتقاتلون. التقت عيناه بعيني قائد الفريق، فصوّب الطفل خشبته إليه وأطلق النار. قفز ماركو خادعًا الحركة واضعًا يده على قلبه. ابتسم كلاهما.
أخرجه من المشهد صوت امرأه قائلةً:
أجاب: «نعم.»
قالت : «صباح الخير! تفضل، المدير بانتظارك.»
تمتلك سكرتيرة المدير عينين زرقاوين للغاية ، لكن ماركو لم يعرهما اهتمامًا كبيرًا؛ فقد كان نظره مشغولًا بانسجام فستانها على جسدها من الرقبة حتى الأسفل.
كان الرجل الذي سيقابله واقفًا؛ صافحه ثم أجلسه.
قال: «آنسة… لا نريد أي إزعاج مهما حدث. واضح؟»
أومأت السيدة ثم ذهبت.
أقفل المدير الباب بالمفتاح، ثم قال:«حسنا يا سيد موتي، ماذا تقترح علينا لمحاربة هذا الحر؟»
أجاب: «لدي كتالوج جديد لأجهزة التكييف، لكن…» يتحدث ماركو وهو يطالع زوايا الغرفة:
«اطمئن، لا أحد يستطيع رؤيتنا أو سماعنا.» قالها المدير بهدوء فارتاح كلاهما.
أجاب ماركو: «هذا عقد أجهزة التكييف: أحتاج فقط توقيعك ليصبح لقاؤنا رسميًا.»
رد العميل: «ها هو!» قالها المدير وهو يوقع بتوقيع غير مقروء.
قال ماركو: «جيد، إذن لننتقل للأمور الجدية، أليس كذلك؟»
سأل المدير: «أتفق معك. هل موعد التسليم مؤكد؟»
أجاب ماركو : «مؤكد.»
قال المدير: «ممتاز. كما تعلم، لا نحتمل التأخير.»
نظر المدير حوله، تناول سيجارًا وأشعله وهو يتكئ باسترخاء. لم يقدمه لماركو: كان يعلم أنه لا يدخن.
قال ماركو : «غريب أنك استدعيتني فقط لتأكيد موعد التسليم. كان يمكن لِمكالمة أن تكفي… الأمر يبدو مريبًا قليلًا.»
وقف المدير وتوجه نحو النافذة. أزاح إحدى الشرائح ونظر إلى الخارج: الشمس قاسية، والناس قليلون.
واصل حديثه قائلاً: «دعوتك لأننا نحتاج إلى شحنة أخرى — هذه المرة بضائع أكثر تطورًا… أو لنقل أعلى جودة من التي أكدتَها للتو.»
رد ماركو: «هذا يهمني جدًا بالطبع. وإن سمحت لي بالسؤال: إلى أين ستتجه هذه المرة؟»
لم يهتم المدير. حتى فمه بالكاد تحرك وهو على وشك أن ينطق بالإجابة، ولكن بابتسامة خفيفة قال:
«إلى المكان نفسه الذي ستذهب إليه الشحنة القادمة.»
تقطبت ملامح ماركو. كان الأمر مفاجئًا. بحث عن تفسير لكنه بدا لامنطقيًا:
سأل ماركو : «تقصد أن… الحكومة التي ندعمها تحتاج مزيدًا من السلاح؟»
صحح في داخله كلمة يُدعمون إلى ندعم.
أجاب المدير: «لا، هذه المرة ستذهب إلى المتمردين المناهضين للحكومة.»
اندهش ماركو و صار تعجبه صلب وثقيل:
«لا أفهم… لكني أفترض أن للأمر تفسير ما.»
أجاب المدير: «استراتيجية بسيطة: ظهرت مصالح جديدة، والحكومة التي دعمناها لم تعد تناسبنا. يجب أن تسقط.»
تقصد: «انقلاب آخر؟»
أجاب: «فلنقل… استراتيجية صناعية مختلفة. في ذلك البلد اكتشفوا حقولًا جديدة… والحكومة تريد استغلالها لنهضة البلاد، وستبيعها بأعلى سعر — وهذا لا يناسبنا. لقد اشترينا الفصائل المتمردة: بسقوط الحكومة، ستسقط معها المناقصات العالمية للثروات والعمالة، وستسقط طلبات منافسينا ومحاولاتهم لتجاوزنا في الإنتاج الذي تعرفه. سلسلة دومينو. ببساطة تامة.»
حلّ صمت مفاجئ… غير مناسب لمثل هذه الصفقات. صمت خاطئ.
ناول المدير ورقة مكتوبة بخط اليد.
وقال: « هذه قائمة احتياجاتنا… ولدينا العجلة نفسها.»
قرأها ماركو بسرعة. كمية كبيرة، تنذر بحرب طويلة. تكلم بفطرته، صوته ينطق بصمت عقله:
«أتوقع مجزرة.»
سأل المدير: «وهل يشكّل ذلك مشكلة لك؟.»
شرح ماركو : «مجرد كلام عابر. لا مشكلة.»
أوضح المدير قائلاً: «أنت تعرف جيدًا أن جزءًا ضخمًا من مصالحنا — وبالتالي مصالحك — يأتي من هناك: لو لم ندِر نحن تلك الثروات، سيضيع كل شيء.»
أجاب ماركو : «متفق معك»
أضاف المدير: «صراحة… إنهم مجرد زنوج يقتلون بعضهم بعضًا. إلا أن هناك بعض العناوين الصحفية والتعليقات الإنسانية السخيفة التي تظهر لبضعة أيام… و لا أحد يكترث. لكن ما يأتي من مناجمهم وعرقهم… يجعل الجميع هنا سعداء.»
شيء انكسر في داخله. الكلمات التصقت بعقله… ترفض المغادرة. لأول مرة يشعر أن هذه المرة تجاوز الجنون حده. شعر أن ثراءه وسيارته وحسابه البنكي… جميعهم ملطخ بالدماء.
نظر إلى آخر سطر في القائمة فارتعش:
«أسلحة ذات وزن خفيف».
ماذا يعني؟ ليست “أسلحة خفيفة” — المصطلح المعتاد. بل أسلحة خفيفة الوزن.
وأدرك — رغم محاولته إنكار ذلك — أن الأسلحة التي تُحمل بسهولة… تُصنع لأيدٍ صغيرة.
لأجساد صغيرة.
اجتهد لطرد الفكرة.
قال المدير وهو يمد يده: «إذن متفقان؟ أود سماعها بصوتك.»
ردد ماركو العبارة المعتادة… مجرد التزام عمل. التراجع مؤذي جدًا.
تصافحت الأيدي. ابتسمت الوجوه. وانطفأت الأفكار.
غادر ماركو المكتب. مازال فستان السكرتيرة محتفظًا بانسداله المثير.
في الخارج، تضرب الشمس نظارته الداكنة بشدة. الحياة تختبئ في الظلال، كل شيء بطيء.
طاولة اللاعبين فارغة… أوراق اللعب وحدها لم تستطع الهروب من الحر.
صراخ المرأة اختفى… والشباب غادروا مدخل السينما.
فقط ضجيج الأطفال ما زال يعلو في السماء: حربهم ما تزال مفتوحة… لا بوادر لنصر قريب.
ضغط زر المفتاح… رنينان مضاعفان… أضواء تخفت أمام سطوة الشمس.
اقترب من أكوام التراب، توقف يراقب لعب الأطفال. فكرة الأسلحة خفيفة الوزن عادت تنهش عقله. عصا الـL التي تطلق الخيال صارت لوهلة شعورًا بالذنب. قناعاته بدأت ترتخي.
رفع الطفل القائد نظره نحوه… وتوقّف الجميع.
أخرج ماركو يده من جيبه ببطء… ابتسامة خفيفة… شكل بيده مسدسًا:
السبابة مصوبة… الإبهام مرفوع.
اختبأ الجنود الصغار خلف قائدهم… زعيمهم الذي سيكسب ربما المعركة .
مدّ الرجل ذراعه… أطلق النار بأصابعه… حاكى الارتداد… نفخ على سبابته كما لو كانت فوهة مسدس.
أطلق القائد طلقة خشبية ، لكنه كان أبطأ… وضع يده على قلبه… وانهار للخلف… مصابًا.
سقط الآخرون واحدًا تلو الآخر… في صفّ… و الغبار يعلو.
تأثير دومينو. برصاصة واحدة… أباد ماركو جيشين كاملين.
ضحك… والضحكات الصغيرة تبعته صاخبة.
لوّح بيده… وواجهته ثماني أياد صغيرة لوّحت له.
وهو يصعد إلى سيارته ظل يحدق بهم… والأمر الغريب أن شكوكه قد تلاشت.
عادت قناعاته — تلك التي تمنحه الثراء — لتزدهر.
تحول الأطفال لوهلة إلى استثمار مستقبلي… يُصدرون إلى العالم أجمع… حيث يُطلب وجودهم.
تتغير لون بشرتهم لثواني مراراً
دماء جديدة لحروب جديدة.
وحروب جديدة… لأرباح جديدة.



