عن جدلية التعاشقِ المُر
جبّار ونّاس – الناصرية | العراق
أتاحتْ لنا وسائلُ التواصلِ الإجتماعي ومن خلال صفحات الفيس بوك أنْ نقرأَ ونتأملَ في نماذجَ مختلفةٍ ومتعددةٍ من النصوص في التوجه والطرح والمزاج فتبدو هذه النصوص علاماتِ ثراءٍ مضافٍ لمشهدٍ عراقيٍّ يعجُ بالكثير من المشاهد والحالات والتي يذهبُ بعضٌ منها بإتجاه ما هو غريب وغير مألوفٍ سلفاً فيما يقع في حيز التعبير الأدبي وبالذات الشعري منه.
ولعلَّ المتابعَ لحركةِ الانتاج الشعري في العراق سيجدُ من الحراجةِ حين يصبو الى متابعةٍ شاملةٍ ومثمرةٍ لذلك النتاج الذي أصبحَ طاغياً وحاضراً بقوة وعبر كلِّ الوسائل المتاحة وفي أيِّ وقتٍ يمر.
وقد يتفاعلُ المتابعُ والدارسُ بروحِ التفاؤلِ الإيجابي حين يرى هذا التدفقَ الغزيرَ لنصوصٍ شتى وبأنفاسٍ تُريدُ البوحَ المشروعَ وسطَ هذه الغابةِ الكثيفةِ والتي تتعددُ بداخلها كلُّ مناحي التعبير الشعري ووفقَ مزاجاتٍ ورؤى تريدُ لها أنْ تكونَ في دائرةِ الإختزال الصحيح والمرن ممن يتابعون بعين الدارس والناقد الموضوعي على أمل أنَّ هذه الغزارة في الكم والنوع ستصلُ الى مراماتِ الناقد الفاحص الحصيف وفق تبصرٍ ينحازُ الى ما يُعلي من ذلك النوع على حسابِ تراكمٍ كميٍّ ربما سيُفسدُ من إلتماعاتٍ كثيرةٍ جاءتْ مع حضورِ النوع ومكوثه المعلن بشرعية الإبداع.
وبناءً على هذا التصور يُمكنُ أنْ نستخلصَ من غربال القراءة والمتابعة الكثيرَ من النصوص كتبها شعراء شباب وغير شباب عمرياً لِنَجدَ ذلك التمايز الواضح في الحضور والمتابعة الرائدة في القراءة والتبني النقدي من قبل حاسة النقاد الفاحصين في حقل الأدب ومنه الشعر.
وفي مضمار فحصنا النقدي لنصٍ قصير للشاعر الشاب (عباس حسين) والمنشور على صفحته في الفيس بوك بتاريخ 2 – 5 – 2020 سنكون مع نصٍ قصير يقترب من البوح المُخْتَزِل والمقتصد في الأداء اللغوي :
في حيِّنا تابوتٌ واحد
يَمرُّ على بيوت الأصدقاء
مثلَ قميصِ التسعينيات
وفي هذا النص نبشٌ يتسربُ الى الذاكرة الجمعية فيجعلها في حِراكٍ وتبصرٍ دائم عما كانتْ عليه مرحلةُ التسعينياتِ من القرن العشرين في العراق وما كانتْ تتبطنُ به من نُدوبٍ وهمومٍ وأحزان تترى من جراء حصارات مختلفة وتفشي الفقر وسيادة الديكتاتورية الفاشية.
ولعلَّ هذا الوميض من البوح اللافتِ يُحيلُ بمروره الى تلك العلاقة وذلك التعاشق المر الذي يأتي به (عباس حسين) مع مفردة التابوت وكيف شهدتْ أضلاعُ ذلك التابوت بعين ثاقبة لأجساد أصدقاء كثيرين راحوا ضحية لطغيان تلك العنونات القاتلة والتي مرَّ ذكرُها أعلاه.
ويبدو هذا النص القصير لغويا والكثيف على صعيد المعنى والمضمون من التميز في إمتلاك مؤهلاتِ حضوره في ذاكرة القراءة ذلك أنه عمد الى عملية الإختزال والإقتصاد في التعبير وتضمين مفاهيم وافكار عن الموت المجاني والفقر ستكون واسعةً لها من الأثر الكبير حين يُصارُ الى طرحها على بساط النقاش والتداول المعرفي والثقافي لتلك المرحلةِ الشاخصة في ذاكرة كاتب النص وسائر العراقيين فهو يميلُ الى الإختصار والتركيز المثير عندما يحاول أنْ يَلمَ مجرياتِ وأحداث مرحلة عاصفة حيثُ مظلةُ الحصار السياسي والاقتصادي والاجتماعي المُدمر الذي نالَ من أرواح الناس وآمالهم في العيش الكريم.
وتداهمنا ثنائية التابوت وقميص التسعينيات مائزةً بفرادة الجمع في الإشتغال الشعري من قبل (عباس حسين) وتدعو بحضورها داخل ذاكرة المتلقي كيما يكون على رجاحةٍ من التبصر والتمعن المرن مع تلك المتلازمة ذات التأثير العاطفي والإنساني التي تشخصتْ في تلك المرحلة فتَداولُ القميص بين عدد من الأصدقاء في الإستعمال لهو دليلٌ على حظوةِ الفقر وإستمكانه من جسدِ المجتمع في العراق فصار في فقرٍ مدقعٍ حتى لَيُصْبْحَ الفقرُ علامةَ تندرٍ وتنمر بيد تلك السلطة الباطشة التي راحتْ تترافقُ بموازاةِ إرتفاعِ أنفاسِ الناسْ التائقة الى الإنعتاق من شرك الطغيان وقتل روح الوطن بمعاول الحصار والفساد والتراجع المذل لهيبة العراق وإنحطاط المهنية في تثبيت مسارات بناء دولة حديثة قوامها العدل والحرية والكرامة لابناء العراق.
إنَّ هذا النمط من النصوص التي بتنا نقرأها عند العديد من الشعراء الشباب بالذات يمكن أنْ ننظرَ لها على أنَّها تحملُ من روح الغضب ما يجعلها تتميز بظهورها وتريدالبوحَ وهي تتقنعُ بثوب الجرأة العلنية فضلاً عن كونها نصوصاً تحفرُ في ذاكرة المتلقي على أنَّها تُعلي من من شأن ما كان مهملا وربما المُبعد من التناول في نصوص شعرية سالفة لم تتسلح برداء الجرأة والدخول معه وانتشاله كمادة خصبةٍ ستكون عماداً راسخاً لنصوص تشتغلُ ضمن مضمار حديث وهذه التوصيفات كنتُ قد وجدتها عند الكثيرين من الشعراء الذين تعج بنصوصهم صفحات التواصل الاجتماعي فهم يريدون الدخول في مشهد الشعرية العراقية والعربية بخطوات تطمحُ أنْ تحظى لها بتميز ومتابعة في القراءة والتناول النقدي المتعمق والذي سيعطي التقويم الناصح الذي يتناسب وأهمية ما جاءتْ به نصوص هؤلاء الشعراء.