جميل السلحوت يكتب:” مرحلة عشتها” من أدب الرحلات والسيرة الذاتية (3)
في الطريق الى عمّان
مررنا ببلدة الكرامة، وكان حال قناة الغور الشّرقيّة أسوأ بكثير من حال البحر الميّت، أمّا قناة الغور الشّرقيّة فقد جفّت منذ سنوات طويلة، وتشقّقت جدرانها وأرضيّتها ونمت فيها الأعشاب والأشواك، ولم تعد تلك القناة التي حذّرنا المعلمون من مدّ أرجلنا فيها خوفا من أن تجرفنا، مثلما جرفت عددا من أطفال وصبيان المنطقة، عندما مررنا بها أثناء رحلة مدرسيّة في العام 1966م، زرنا خلالها جرش واربد وأمّ قيس والحمّة التي كدت أغرق فيها لولا حذاقة زائر لبنانيّ، كان يستجم في الفندق الصّغير المقام بجانب البركة التي حول رأس النّبع، وعدنا لننام ليلتنا الأولى في حرم دار المعلمين في عجلون، صعدنا إلى قلعة الرّبض حيث يستطيع زائروها رؤية القدس الشّريف جنّة السّماوات والأرض، ثم زرنا معان وانتهى بنا مطاف اليوم الثّاني في مدرسة وادي النّبي موسى عند مدخل المدينة الورديّة-البتراء-.
في الطريق الصّحراويّ بين عمّان ومعان تعطل بنا الباص بعد ساعات الظّهر بقليل، فانتشرنا في الشّارع نتسابق بصبيانيّة متناهية ملوّحين لسيّارات الشّحن التي تنقل البضائع؛ كي يزوّدونا بمياه الشّرب، وكان في المنطقة قطيع جمال، من ضمنه ناقة في رقبتها رسن، أمسكتها به وأنختها، وطلبت من زميلي الذي كان برفقتي أن يمتطيها لأصوّره على ظهرها، وقبل اكتمال وقوفها خاف وصرخ وسقط على وجهه الذي تهشّم وسالت منه الدّماء، فعجبت من ذلك؛ لأنّ شيوخ بلدتنا كانوا يروون لنا أنّ من يقع من على ظهر جمل، لن يلحق به أيّ أذى؛ لأنّ الجمال تبسمل عندما يقع شخص ما من على ظهرها، ولمّا سألت جدّتي عن إصابتنا عندما نقع ونحن نلعب قربها مع أنّها تبسمل لم تجبني ونهرتني، وغضبت منّي عندما تساءلت إذا ما كان الله –سبحانه وتعالى- يستجيب لبسملة الجمل أكثر من بسملتها، لكنّني امتطيت النّاقة فوقفت بي، ففرحت بذلك رغم الجراح النّازفة من وجه زميلي، وفي هذه الأثناء مرّت بنا سيّارة مكشوفة فيها شابّ بلباس البحر، فرفعت يدي لسائقها كي يتوقّف فوقف، وسألني عن حاجتي وعن سبب وجودي وزميلي في هذا المكان، فشرحنا له بأنّنا طلبة في رحلة مدرسيّة، وأشرنا له إلى حافلة الرّحلة الذي ابتعدنا عنها أكثر من كيلو متر، زوّدنا بماء بارد من قربة، وطلب منّا أن نركب في سيّارته؛ ليعيدنا إلى معلمّينا ورحلتنا المعطوبة، وكنت مركّزا نظري على وجهه، فسألني:
هل تعرفني؟
فأجبت: نعم أنت الأمير حسن، فردّ باسما لا… أنا الأمير محمّد، وعند الحافلة تحدّث مع مدير المدرسة ومع المعلمين سائلا إيّاهم عمّا سيفعلونه، فأخبره المدير بأنّه بعث معلما مع سائق شاحنة؛ ليأتي بميكانيكي من عمّان لإصلاح الحافلة المعطوبة، فسأله الأمير:
واذا جاء متأخرا وبقي هؤلاء الأولاد هنا فمن يضمن أن لا تفترسهم الذّئاب؟ وقال للمدير سأرسل لكم حافلة، ويبدو أنّه كان بحوزته جهاز ارسال حيث وصلتنا حافلة سياحيّة جديدة وواسعة قياسا بحافلتنا، وفي فترة قصيرة جدّا، أي قبل وصول الأمير إلى عمّان، وكانت تكاليف رحلتنا على حساب الأمير الذي كان وحيدا ودون حراسة.
رثيت لمزارعي الأغوار الذين يفتقدون مياه قناة الغور التي حولها الأسرائيليّون من اليرموك قبل أن تصل إلى القناة، وعند مدخل وادي شعيب الغربيّ، هناك سدّ فيه بقايا مياه رأيت قطعانا من الغنم ترتادها للشّرب، ووادي شعيب هذا فيه مياه جارية وهي أشبه ما تكون بقناة صغيرة جدّا، يستطيع طفل تخطيها دون ازعاج أو خوف، والوادي الذي يمتدّ باتّجاه مدينة السّلط التّاريخيّة، واد سحيق يحيط به جبلان شاهقان شديدا الوعورة، وبجانب الشّارع قرب السّيل صخور شاهقة مشقّقة وقابلة للانهيار. أهل المنطقة استغلوا الأرض المحاذية للسّيل لزراعة الأشجار المثمرة مثل الرّمّان، التّين، العنب، التّوت وغيرها، كما أنّ البعض أقام مزرعة وبيتا للتّنزّه هناك، والمنعطفات كثيرة وحادّة في الوادي، تمتّعنا بالمناظر الجميلة ومررنا من طرف السّلط الجنوبي، وواصلنا الصّعود باتجاه مدينة صويلح، وإلى تلاع العلي حيث يسكن أخي.
في سوريّا
في نقطة الحدود السّوريّة على مدخل مدينة درعا الحدوديّة عام 1971م، وبينما كان السّائق يختم جوازات السّفر، التقيت بدويّا قرب الحمّامات، كان رثّ الثّياب، يضع طرفي قمبازه في حزامه، ويثبّت طرفي كوفيته البيضاء المتّسخة بعقاله، ويحمل شوالا فيه مئات السّاعات من طراز “سايكو”، ويزعم أنّها مهرّبة من السّعوديّة دون جمارك، فاخترت ساعة منها…صفراء اللون…ثمنها في الأسواق في حينه حوالي 40 دينارا، واشتريتها منه بخمسة دنانير، وأعطيته ساعتي”الجوفيال” التي كانت على يدي، ولم أعلم إلا متأخرا وفي اليوم التالي أن السّاعة مزيّفة، وغير قابلة للاستعمال أو التّصليح، وهي تباع للأطفال بعشرة قروش.
في دمشق
العاصمة السّوريّة دمشق غنيّة عن التّعريف، فهي عاصمة الدّولة الأمويّة، ومسجدها الأمويّ أشهر من أن يعرّف.
تركت حقيبتي في الكراج الموحد، وسرت باتجاه سوق الحميديّة التّاريخي؛ لأشتري ملابس للاستعمال الشّخصيّ، فأدهشني أنّ هذا السّوق يشبه سوق العطّارين في مدينتي القدس، والملابس في دمشق أنيقة ورخيصة جدا، فهي صناعة محليّة، كان الدّينار الأردنيّ في حينها يساوي 16 ليرة سورية، سرت في السّوق لأجد نفسي في نهايته عند مدخل الجامع الأمويّ، فدخلت المسجد العظيم، وفي بهوه كانت قبّة صغيرة معلّق فيها صور للمسجد الأقصى وقبّة الصّخرة، وهناك بطاقات تحمل رسما لكلا المسجدين، يبيعهما شيخ معمّم للمصلين وللزّائرين، رأيته يحمل صورة قبّة الصخرة ويشرح لعدد من المصلّين الخليجيّين بأنّها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين! فتطفّلت وقلت له:
هذه قبّة الصّخرة وهي مسجد قائم في باحات الأقصى، وأشرت إلى صورة المسجد القبليّ.
فقال لي:”كلامك غير صحيح يا ولد”!
فرددت عليه مؤكّدا صحّة معلوماتي، وأنّني من القدس الشّريف، فقال لي هذه المرّة:
“عيب عليك أن تكذب يا ولد، فكيف تكون من القدس المحتلة وتتواجد هنا؟”
ولم أستطع أن أقنع ذلك الشّيخ بالمعلومة الصّحيحة.
نظرت إلى يساري فرأيت قبر المجاهد صلاح الدّين الأيوبي الذي حرّر القدس الشّريف من احتلال الفرنجة في نهاية القرن الثّاني عشر الميلادي”1187م”، فجثوت على ركبتي عند شاهد القبر، وقرأت الفاتحة بخشوع على روحه الطّاهرة، وبثثت له همومي وهموم القدس، وقلت له باكيا:
لقد أضاعوا من بعدك القدس التي حرّرتها من الفرنجة يا صلاح الدين، ويا حسرة التّاريخ لو يعلمون أيّ مدينة أضاعوا؟ والمسجد الأقصى يئنّ من الاحتلال يا صلاح الدّين، فتخيّلت صلاح الدّين شاهرا سيفه على سور القدس ويهتف: لبّيك يا قدس…قبّلت الثّرى الذي يحوي رفات المجاهد العظيم، وعدت حزينا خائبا؛ لأواصل رحلتي، لكنّني عقدت العزم على زيارة ضريح هذا الرّجل العظيم؛ لأقرأ الفاتحة عن روحه الطّاهرة كلّما مررت بدمشق.
نهر بردى
لم تصدّق عيناي أنّ السّيل الذي يخترق دمشق هو نهر بردى، هذا النّهر الذي التصق بذاكرتي عندما كنت فتى غِرّا، وحفظت قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي قالها في أعقاب معركة ميسلون التي قادها الشهيد يوسف العظم عام 1927 ضد الغزاة الفرنسيين، الذين احتلوا سوريا ولبنان تنفيذا لاتفاقيّة سايكس بيكو سيّئة الذّكر الصّادرة عام1916م، والتي تقاسم فيها المستعمرون الانجليز والفرنسيّون العالم العربيّ، والتي مطلعها:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ*** وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي*** جَلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ
وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي*** إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَدًا وَخَفقُ
وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي*** جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ
وقد تخيّلت وقتها نهر بردى بأنّه نهر عظيم تمخره السّفن، وأنّ نسيم الصّبا المنبعث من هذا النّهر يشفي الصّدور العليلة، فهل حبّي لدمشق ولسوريّا وشعبها هو ما قاد خيالي إلى هذه المعلومة الخاطئة؟ وفي الواقع فإنّني لا أجد جوابا لسؤالي، لكن رؤيتي لبردى سيلا بسيطا خيّب آمالي، وأحزنني أنّ البعض يرمي القمامة فيه، ممّا يشوه الصّورة الجميلة التي تحفظها ذاكرتي للنّهر، الذي طالما منّيت النّفس بأن أرتوي من مياهه، التي تخيّلتها عذبة تشفي العليل، وعندما عدت إلى دمشق بعد سنوات، شعرت بالسّعادة عندما رأيت الجزء المكشوف من النّهر في العاصمة قد تمّ سقفه، مع أنّني تمنّيت لو أنّنا نحافظ على نظافة مواردنا المائيّة، ومفاتن بلداننا الطبيعيّة. ورغم ذلك فإنّ نهر بردى لا يزال يفتنني ويغذّي ذاكرتي، وليرحم الله أمير الشعراء، وليرحم القائد يوسف العظم وشهداء الأمّة جميعهم.
المقهى الأدبي
ذات يوم في أواخر العام 1982 لاحقة التقيت الأديب الفلسطيني المعروف يحيى يخلف، وكان رئيسا لاتّحاد الكتّاب والصّحفيين الفلسطينيين، فزوّدني ببطاقة شرف لحضور عرض الافتتاح لمسرحيّة “لكع بن لكع” التي كتبها الأديب إميل حبيبي، والحضور كان نخبة من المثقفين السّوريين، بينهم الرّوائي السّوري الشّهير حنا مينا، عرفته منذ اللحظة الأولى، فصوره تتصدّر غلاف رواياته الصّادرة عن دار الآداب في بيروت، والتقيت بعدد من الأدباء والمثقفين الفلسطينيين، منهم محمود شاهين ابن قريتي الذي يكبرني بعامين، والذي لم يكمل تعليمه الإعدادي، وهو قاصّ وروائيّ صدرت له عدّة روايات ومجموعات قصصيّة، منها”موتي وقط لوسي” التي صدرت عن وزارة الثّقافة الفلسطينيّة في رام الله، وهو فنّان تشكيليّ رسم مئات اللوحات، كما أنّه يجيد العزف على “الشَّبّابة والنّاي” وهو الخال غير الشّقيق للأديب المعروف محمود شقير…لم يعرفني محمود شاهين ولم أعرفه عندما التقينا صدفة، فقام الأديب يحيى يخلف بتعريفنا على بعضنا البعض….جلست ومحمود شاهين على مقهى الأدباء والفنانين القريب من بيته الخشبيّ المكوّن من غرفة صغيرة واحدة، وهناك عرّفني على عدد من نجوم الفنّ في سوريا، منهم ياسين بقّوش، ذلك الرّجل الوسيم واللماح على عكس ما كنّا نراه في الأدوار التي يمثلها في المسلسلات التّلفزيونيّة.
ومسرحية”لكع بن لكع” التي أخرجها مخرج من عائلة الأتاسي منعت من العرض بعد افتتاحها؛ لأنّها تسخر من “الجعجعة” القومية الفارغة. وهناك تعرّفت على الرّوائيّ الكبير حنّة مينا، الذي دعاني أنا والشّاعر خليل توما إلى وجبة عشاء في مطعم دمشقيّ، وتناولنا طعام الغداء في اليوم التّالي في بيته.
الماء والخضراء والوجه الحسن
اللافت في دمشق جمال نسائها، ووسامة رجالها، ففي فلسطين عندما يمتدحون جمال فتاة فإنّهم يصفونها بجميلة”كأنّها شاميّة”…ويتميّز الدّمشقيّون بحب الورود والأشجار دائمة الاخضرار، حتى أنّ البيت المزروعة شجرة أمامه يزداد سعره بعشرات آلاف الليرات السّوريّة-الدّينار الأردنيّ وقتئذ كان يساوي ست عشرة ليرة سوريّة-، واللافت أنّ الكثير من مقاهي دمشق تشبه الحدائق والمتنزّهات، فالطاولات تنتشر تحت الأشجار وتتخلّلها قنوات مائيّة صغيرة تبعث الرّاحة في النّفوس….فترى الزّبائن يحتسون القهوة والشّاي ويدخّنون الأرجيلة والسّعادة بادية على وجوههم، والمطاعم الرّاقية أيضا تبحث عن فسحة أمامها؛ لتكون لها حدائقها المزروعة بالورود والأشجار.
معلومة جديدة
ممّا أثار إعجابي هو رؤيتي للعلم الفلسطينيّ يرفرف بجانب العلم السوريّ المرفوع على المؤسّسات الرّسميّة، فأكبرت للأشقّاء السّوريّين عملهم هذا، خصوصا وأنّهم يعتبرون فلسطين”اللواء الجنوبيّ المحتلّ” ولم أعلم إلا متأخّرا أنّ العلم المرفوع هو علم الوحدة العربيّة، وأنّ العلم الفلسطينيّ هو علم الوحدة العربيّة الذي عُرف في العصر العبّاسيّ، ومعروف أنّ حزب البعث الحاكم في سوريّا يرفع شعار الوحدة العربيّة”وحدة…حرّيّة…اشتراكيّة” و “أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة”.
في لبنان
في حزيران 1971 وبعد تسوّق من سوق الحميديّة في دمشق وزيارة للمسجد الأمويّ استغرق أقلّ من ساعتين، استقلينا سيّارة إلى بيروت، عبرنا نقطة المصنع الحدوديّة؛ ليقف جبل صنّين أمامنا شامخا، يتصاعد بخار الماء منه ضبابا من تبخّر الثّلوج المتجمّدة في بطون أوديته، الجبل تكسوه الخضرة في عزّ الصّيف، وأشجار الأرز تتمايل كأنّها تفتح ذراعيها للقادمين إلى بلادها، الخضرة أيضا تكسو سهل البقاع، فالشّعب اللبناني شعب مزارع، يجيد استغلال أراضيه، تماما كما يعشق أبناؤه الغربة بحثا عن الرّزق، فيجمعون أموالا ويعودون إلى لبنان ليستثمروها، سلسلة الجبال تأسر من يدخل لبنان، وتجبره على النّظر إليها مسبّحا بقدرة الخالق على تشكيل الطبيعة.
في شتورا
أوقف السائق سيارته أمام محطة استراحة في شتوراـ قبل تسلّق سلسلة الجبال العالية-، جلست وجاري في السّيّارة، ذلك الكهل السوريّ العامل في لبنان على طاولة واحدة، فسألنا النّادل عمّا نريد أن نشربه؟
فأجبته: شاي.
وعاد يسأل: ساخن أم بارد؟
فأجبته ساخرا: بارد.
واذا به يحضر لي كأسا كبيرة ملأى بالشّاي المثلّج، فقبلتها على مضض؛ لأنّني لم أكن أعلم وقتئذ بوجود شاي بارد، فكانت هذه المفاجأة الأولى لي في لبنان…أمّا جاري السّوريّ فقد رفض تناول كأسه ووبّخ النّادل الذي اعتبره يستهزئ بنا بشايه المثلّج! فما كان من النادل سوى أن اعتذر واستبدل له الشّاي المثلّج بالشّاي السّاخن.
تسلّق الجبال
لا مجال للقادمين من سوريا عبر نقطة المصنع قاصدين بيروت سوى المرور بالشّارع الذي يشبه الأفعى في بطن سلسلة الجبال، إنّه شارع شديد الخطورة لكثرة انحناءاته؛ ليكسر شدة انحدار سلسلة الجبال، ومع ذلك فإنّ المنظر مغر لعشّاق الطّبيعة، فكلّما تقدّمت السّيّارة باتّجاه قمّة الجبل انكشفت مناظر جميلة وجديدة، ويحتار المرء في أيّ الاتّجاهات ينظر، فلبنان عروس تجيد الغواية، والثّلوج المتحجّرة في(جوفات) السّلسلة الجبليّة ساحرة، بخار الماء يتصاعد منها كدخان موقد عظيم، والأعشاب تتطاول في سباق بحثا عن الضّوء والحرارة، جداول مائيّة تنساب بخريرها العذب. شعرت بصداع نصفيّ عندما وصلت قمّة السّلسلة الجبليّة، وهذا ما كان يحصل معي كلّ مرّة مررت بها من ذلك المكان، ويبدو أنّ لاختلاف الضّغط الجويّ دورا في ذلك…اتّجهت السّيّارة باتّجاه الغرب في طريقها إلى بيروت، توقّف السّائق قرب نبع وسط المكان المأهول للتّزوّد بالماء، كان الماء زلالا شديد البرودة، ومن منطقة الأشرفيّة تبدو بيروت الغربيّة باذخة وهي تسترخي على شاطئ البحر.
في بيروت
وصلنا مكتب التّاكسيات في ساحة البرج، ويومنا يوشكعلى الرّحيل…استقلّيت سيّارة إلى جامعة بيروت العربيّة حيث يقابلها مكتب تسجيل الطّلّاب المنتسبين؛ لأجد عنوان زميليّ وقريبيّ اللذين سبقاني إلى بيروت ببضعة أيام، يقع البيت على الجانب الشّرقي للملعب البلديّ، ليس بعيدا عن الجامعة، إنّه شقّة في الطّابق الثّاني من بيت قديم جدّا، تصل إلى الشّقّة بدرج خارجيّ، وهي شقّة مكوّنة من غرفتين، صالة، مطبخ وحمّام، وبجوارها شقّة أخرى تسكنها امرأة شابّة مع طفلها الذي لم يتجاوز عمره ثلاث سنوات، وقد أخبرتنا أنّ زوجها تاجر سيّارات سافر الى ألمانيا لشراء صفقة سيّارات، وتبيّن لنا لاحقا أنّه سارق سيّارات ويقضي عقوبة في السّجن.أمّا الطّابق الأوّل فتسكنه الأسرة مالكة البيت، وربّة البيت هي شقيقة زوج جارتنا في الطّابق الثّاني، وهي امرأة فاضلة عطوفة، عاملتنا وكأنّنا أبناؤها، تعيش مع ابنها الذي يعمل جزّارا في ملحمة تملكها العائلة، وتقع على الشّارع وهي جزء من البيت، وابنها شابّ أديب حييّ، تزوج ونحن في جوارهم، وقد لبّيت دعوة والدته لنا بحضور الزّفاف، في حين رفض زميلاي ذلك حياء، ولأنّهم على موعد مع امتحان جامعيّ صباح اليوم التّالي، كان الحفل عائليّا والحضور حوالي عشرة رجال ومثلهم من النّساء، وعدد من الأطفال، دبكوا دبكة شعبيّة مشتركة على موسيقى القِرَب…أعطوني رعاية خاصّة وألزمتني والدة العريس أن أقف معهم في الدّبكة وهي تطوي ذراعي بذراعها، شاركتهم طعام العشاء وعدت إلى مكان سكني في الطّابق الثّاني.
الخصوصيّة اللبنانيّة
يتميّز لبنان بجماله وطيب شعبه، وتعدّد الثّقافات فيه عن غيره من البلدان العربيّة، بأشياء كثيرة، أوّلها أنّه بلد ديموقراطيّ يحافظ على توليفة طائفيّة يحكمها الدّستور اللبنانيّ الذي يقسّم المناصب العليا بين الطّوائف، ومع أنّ الوطن واحد، والشّعب واحد إلّا أنّه من اللافت في بيروت وجود أحياء تسكنها طائفة معيّنة، ولا ينفي هذا سكن آخرين من طوائف أخرى في أحياء الغالبيّة فيها لطائفة بعينها، وبيروت التي تقام أحياؤها الحديثة على نمط المدن الأوروبيّة، ويظهر ترف الأثرياء خصوصا من اغتربوا وعادوا بأموال وبنوا العقارات الفاخرة، واقتنوا السّيّارات الفارهة، تظهر فيها أحياء الفقر المدقع لأسباب لا يفهمها الزّائر للبنان، وقد لا يفهمها ساكنو هذه الأحياء، أو أنّهم ارتضوا قدرهم ولو إلى حين، وأحياء الفقر في بيروت يتمركز فيها أبناء الطّائفة الشّيعيّة، الذي يظهر أنّ بناتهم لا يحظين بحقهنّ في التّعليم وقتئذ، أو على الأقلّ هذا ما علمته من البيوت التي سكنّاها في سنوات الدّراسة-1971-1975- فقد شاهدت صبايا يواكبن موضة الملابس، لكنّهنّ أمّيّات لا يجدن القراءة والكتابة، وتلتصق ببيروت مخيّمات اللجوء الفلسطينيّ، الفاكهاني، صبرا، شاتيلا، وبرج البراجنة، وهي متداخلة في أحياء بيروت الجنوبيّة التي يقطنها أبناء الطّائفة الشّيعيّة، والقيود المفروضة على لاجئي لبنان لا مثيل لها في الدّول العربيّة الأخرى، ففي الأردنّ مثلا يحظى اللاجئون بحقّ المواطنة الكاملة بكلّ ما لها وما عليها، لكنّ أوضاعهم في لبنان مختلفة تماما، وهم يعيشون في أوضاع مزرية في مختلف مجالات الحياة، وجزء كبير منهم يعمل في بيع الخضروات والفواكه من خلال العربات المتنقّلة التي يجوبون فيها أحياء المدينة بحثا عن رغيف الخبز المرّ.
أوّل مظاهر الدّيموقراطية التي شاهدناها في لبنان هو حرّيّة الصّحافة، وما يظهر فيها من مقالات تنتقد المسؤولين بمن فيهم رئيس الجمهوريّة والوزراء، بل إنّها تكتب فضائح عن مسؤولين كبار، وفي لبنان تنشر الكتب التي لا يسمح بنشرها في بلدان عربيّة أخرى، كما أنّ المعارضين السّياسيّين الهاربين من بلدانهم العربيّة يجدون في لبنان ملاذا آمنا، والتّحرّر من قيود العادات والتّقاليد السّائدة في المجتمعات العربيّة الأخرى ظاهر للعيان في بيروت، فالحرّيّات الشّخصيّة يحميها القانون، لذا فلا غرابة عندما أُطلق على بيروت”باريس الشّرق الأوسط”، ونظرا لهذا الانفتاح في لبنان فإنّ بيروت تعجّ بزائريها العرب-خصوصا من أبناء الخليج- الذين وجدوا في لبنان ما لا يجدونه في بلدانهم، وقد شاهدت الخليجيّين يتهافتون على بسطات بيع الكتب أمام الجامعة لشراء الدّواوين الشّعريّة لشعراء فلسطين مثل محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، عبد الكريم الكرمي”أبو سلمى”ومؤلفات إميل حبيبي، إميل توما، وآخرين، حتّى أنّ بسطات الكتب على العربات المتنقّلة لم تكن تحتوي إلّا على مؤلّفات فلسطينيّة، وسبب تهافت الشّباب العربيّ على الابداعات الفلسطينيّة يعود إلى اعتبارهم القضيّة الفلسطينيّة قضيّة العرب الأولى، وذات يوم وفي حرم الجامعة كان طالب فلسطينيّ من إحدى قرى قلقيلية يصيح مولولا عندما افتقد محفظته ولم يجدها، وبداخلها تسعون دينارا أردنيا هي كلّ ما يملكه، فهدّأت من روعه، ووقفت قرب نافورة في ساحة الجامعة طالبا من الطلاب الآخرين أن يتبرعوا له، فتقدّم منّي بضعة طلاب خليجيّين وتبرّعوا بأكثر من مائتي دينار أردنيّ دفعة واحدة، وانتهت عمليّة جمع التّبرّعات في أقلّ من دقيقة.
الرّوشة
على شاطئ بيروت الغربي، تقع منطقة الرّوشة الصّخريّة الجميلة، والتي يقع عليها حيّ راق، يفصله عن البحر شارع، وما بين الشّارع والبحر يقع مطعم سياحيّ يعلو الارتفاع الصّخريّ الذي تتلاطم تحته أمواج البحر، وعلى امتداده القريب تظهر صخور مدبّبة حادّة، تعقبها في البحر صخور مرتفعة وسط المياه، إحداها صخرة يخترقها ما يشبه النّفق، أو ما يشبه البوّابة، ويطلقون على هذا الشّريط السّاحليّ الصّغير”مكان انتحار العشّاق” وذلك لأنّ بعض الشّابّات والشّبّان ممّن يخفقون في حبّهم يلقون بأنفسهم من تلك المنطقة الصّخريّة، التي يزيد ارتفاعها على عشرة أمتار، فيلقون حتفهم، ولا يستطيع المنقذون إخراج جثامينهم إلّا عندما يكون البحر في حالة مدّ، فيدخلون بقوارب صغيرة ويسحبون جثمان المنتحر، أمّا في حالة الجزر فإنّ الصّخور المدبّبة التي تشبه السّيوف الصّائلة في الجوّ تحول دون دخول السّبّاحين والقوارب.
بجانب منطقة انتحار العشّاق يتداخل الشّاطئ الصّخريّ؛ ليشكّل بركة دائريّة متّصلة بالبحر بما يشبه عنق الزّجاجة، ومن أعلاها الذي يصل إلى ما يقارب عشرة أمتار يمارس من يهوون القفز في الماء هوايتهم، فيقفزون بالمياه العميقة ثمّ يستديرون إلى جهة الجنوب، ويخرجون إلى الشّاطئ؛ ليعاودوا ممارسة هوايتهم مرّات ومرّات، وذات يوم كان رجل يعلّم طفله ابن السّابعة القفز في مياه ذلك المكان، يقفز الطّفل ويتبعه والده مباشرة، وكانت امرأة شابّة قرويّة ترتدي ثوبا مطرزا جميلا وبصحبتها أطفالها، فاندفعت بعاطفتها الأموميّة وأمسكت بيد الطّفل تريد تخليصه من إرشادات والده له بالقفز، وصاحت بالوالد وبشكل عفويّ:
“خاف ربّك..أترك هذا الطّفل” وسألت الطّفل “وين أمّك يا ليتك تقبرها يا أمّي”وسحبت الطّفل وأجلسته بجانبها، وقبّلته مذعورة خائفة عليه من الغرق، ولم يستطع والده اقناعها -وهو يبتسم لردّة فعلها- بأنّ طفله يجيد السّباحة والغوص والقفز في الماء، وأنّه متعوّد على ذلك.
وما بين مكان القفز والمطعم السّياحيّ مرورا بمكان”انتحار العشّاق” لا يزيد طول الشّريط السّاحليّ على 200 متر تجدها مكتظّة بعشّاق البحر.
وجبة ضفادع
ذات يوم تحقّقت رغبتي وزميل لي بدخول مطعم الرّوشة الذي لا يدخله إلّا الأثرياء، وذلك بأن دعانا طالب عُمانيّ ثريّ يركب سيّارة”جيكوار”الفاخرة، يدرس التّجارة، كان يجتاز امتحان مادّة ويعتذر عن أخرى، فهو ليس على عجلة من أمره لتكميل دراسته، وكلّ همّه أن يسيح في لبنان، وأن يتمتّع بجمال هذا البلد…رافقته وزميلي يوما واحدا بعد إلحاح شديد منه، وقد رفضنا بعد ذلك رفقته لعدم قدرتنا الماليّة على مجاراته، غير أنّ طيب الرّجل ومرحه كسر حاجز الحياء عندنا، وقد أخبرته بأنّنا لا نملك أموالا لإنفاقها خارج ضرورات الحياة، إلّا أنّه أجابنا:
“لا تهتموا يا اخوان…خير الله كثير واعتبروني أخاكم”.
وعرض علينا أموالا إلّا أنّنا رفضناها بإصرار، قاد سيّارته بنا صباحا الى منطقة الزّيتونة السّاحليّة الرّاقية؛ لنتناول قهوة الصّباح في مطعم على سطح فندق من عدّة طبقات، ونقد النّادل مائة ليرة لبنانيّة إكرامية”بغشيش”، وهي تعادل مصروفنا لأكثر من أسبوع، وعند الظّهيرة قاد سيّارته بنا إلى مطعم الرّوشة لتناول الغداء، وهو مطعم كنّا نحلم بالجلوس فيه والتّمتّع بجمال الطّبيعة، وجمال السّاحل الصّخريّ، حيث تجوب قوارب المتنزّهين والمصطافين مياه البحر، لكنّ أوضاعنا الماليّة حالت دون تحقيق ذلك.
وفي المطعم امتلأت طاولتنا بعشرات صحون السّلطات المختلفة والمقبّلات من مخلّلات وغيرها، وطلب رفيقنا زجاجة ويسكي، ثم استأذننا بأن يختار لنا وجبة الطّعام الرّئيسة، وكانت تشكيلة كبيرة من اللحوم المشويّة، لحوم الخراف وعدد من طائر”الفرّ” المشويّ على الفحم، وبجانبه عدد من التي حسبناها عصافير، فاستهوتنا بطعمها اللذيذ، ولم نعلم نحن ورفيقنا العُماني أنّها ضفادع بحريّة إلّا بعد أن أنهينا وجبتنا، فأبدينا تقززنا، ولو علمنا أنّها ضفادع لما أكلناها لاقتران ضفادع المستنقعات بذاكرتنا، ولأنّنا لم نعتد على أكل الضّفادع.
جمال الرّيف
أمضينا يومنا مع رفيقنا العُماني، حيث اتّجه بنا شرقا، ومن بطن جبل كانت قبالتنا قرية بديعة الجمال كما هي القرى اللبنانية، فطلبت من رفيقنا التّوقّف لنُغذّي عيوننا بجمال تلك القرية، فأبنيتها تشي بثراء أبنائها، وهندسة الأبنية تدعو إلى التّأمّل، في حين أنّ أشجار الأرز المتداخلة بين البيوت تنبئ أنّ وجودها ليس عفويا، والورود تصطّف في حدائق البيوت وعلى أرصفة الشّوارع، أمّا الشّوارع الواسعة فتتمطّى كالأفاعي لتربط أحياء القرية بعضها ببعض، والجمال ليس حكرا على تلك القرية، فالقرى اللبنانية في غالبيتها منظّمة وجميلة، وهي تعكس ذائقة أشقّائنا اللبنانيين الذين يقدّسون الجمال، وعند المساء فارقناه بحجّة انشغالنا في الدّراسة استعدادا لامتحان اليوم الثّاني، ولم نرضخ لإصراره على اصطحابنا في الأيّام التّالية.
الرّطوبة
بيروت الغربيّة التي تقع على ساحل البحر حارّة جدّا في الصّيف نظرا لارتفاع نسبة الرّطوبة في الجوّ، لذا فإنّ جزءا كبيرا من مواطنيها يصطافون في الجبل..في بيروت الشّرقيّة، حيث النّسيم العليل، والجوّ المعتدل الذي قد يلزمك بارتداء معطف ليلا وفي ساعات الصّباح، ويقومون بتأجير بيوتهم للطّلاب المنتسبين لجامعة بيروت العربيّة، وفي إحدى السّنوات استأجرنا بيتا من ضابط شرطة لبنانيّ، قرب المدينة الرّياضيّة، يفصل بينه وبين مخيّم الفاكهاني شارع، ويقع قبالته مستشفى للأمراض العقليّة، وفي ليلتي الأولى في ذلك البيت نمت على”صوفا” في الصّالون بدون غطاء نظرا للحرارة المرتفعة، وما أن أطفأت الضّوء حتّى شعرت بلسعات مؤلمة، فنهضت مذعورا وأضأت المصابيح الكهربائيّة، وإذا بطوابير من حشرات البقّ تنتشر، آلاف مؤلّفة من البقّ القاتل، ونهض زملائي الثّلاثة من غرف النّوم، وكان فراش أسِرَّتِهِم يتناثر منها البقّ بكثرة، فلمتهم على استئجار البيت، لأنّهم سبقوني بيومين إلى بيروت، واتّصلنا بضابط الشّرطة مالك البيت هاتفيّا، وقلت له مازحا وغاضبا: هل يوجد عندك مخطّط لقتلنا بلسعات البقّ الذي يملأ بيتك؟ وفي صباح اليوم التّالي حضر بصحبة زوجته، وصحبة رجل يحمل على ظهره مضخّة لمكافحة البقّ، وقام برشّ البيت يومين متتاليين، وتنازل لنا عن نصف الأجرة البالغة 500 ليرة لبنانيّة.