اللغة والثقافة
مصطفى سليمان / سوريا
مؤسسو الحركة الصهيونية وبخاصة “هرتزل” انتبهوا إلى خطورة عامل اللغة في نشوء الأمم لتأسيس مجتمع متجانس لغوياً وثقافياً ووطنياً… فلملموا شتات أو أشتات اللهجات اليهودية المنتشرة في العالم بحسب تشتت اليهود فيه من السفارديم والإشكناز…إلخ، في الشرق والغرب… وبعثوا اللغة العبرية الحالية لغة واحدة للدولة في التعليم العام بجميع مراحله، وفي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة…وفي البحوث العلمية، والتطبيقات التتقنية. وأسسوا الموسوعة اليهودية…وبهذا بعثوا لغتهم من بين أكفانها حيةً بعد أن نفضوا عنها غبار الموت. وهي حقاً مجهودات تُحسَب لهم لا عليهم.
وفي المغرب اعترفت الدولة باللغة الأمازيغية لغةً رسمية ثانية في جميع نشاطات المجتمع وبُعِثت الأمازيغية – البربرية حية. وتأسس معهد الدراسات الأمازيغية قبل ذلك في فرنسا وأعتقد بإشراف حسين آيت أحمد.
وهذه ظاهرة حضارية صحية ما دامت لا تشكل خطراً على الوحدة الوطنية، ولا على السلطة المركزية بتفكيك بنيان الدولة والمجتمع. وهذا سائد في كثير من دول العالم المتحضر. والخطر يكمن في الإقصاء والمعاداة القومية التعصبية ضد أي مقوِّم من مقومات المجتمع.
الموسوعة الفرنسية زمن الاحتلال الفرنسي حاولت استمالة المغاربة ( الأمازيغ) من باب اللغة والأصل القومي. فذكرت أن الأمازيغ- البربر ينتمون إلى العرق الآري الأوروبي وليس” السامي”. وأصدروا ” الظهير البربري” أي المرسوم، بإلحاق هؤلاء بالثقافة الفرنسية وبالتالي بفرنسا نفسها. ولكن هبّت ثورة الريف بقيادة عبد الكريم الخطّابي المغربي الأمازيغي ” البربري” المسلم ضد الاحتلال الفرنسي مما جعل الفرنسين يعدلون هذا الترويج لاستمالة الأمازيغ ونصوا على أنهم لا ينتمون إلى الآريين!!
وبعض الأكراد اليوم يسعون إلى تأسيس دولتهم الكبرى على أساس قومي سياسي ولغوي وتراثي قديم وعريق. وصارت لهم في شمال شرق سوريا ، تحت الاحتلال الأمريكي، قوات مسلحة تسليحاً خطيراً، ومدارس ومناهج خاصة بهم. وتخلى كثيرون منهم عن أسمائهم العربية بعد ما سُمّي بــ ( الربيع العربي) الذي تحوّل إلى خريف أسود ذابل.
ولاشك في أن هناك دعماً خاصّاً لتوجهات بعض القوى الكردية الانفصالية بهدف (تجزئة المجزّأ، وتقسيم المقسَّم ) في أمتنا. وهذا ليس في صالح الأخوة الأكراد، ولا في صالح المجتمع كله في التعايش السلمي والتفاعل الحضاري كما تم عبر قرون وقرون بسلام. والأمثلة على هذا كثيرة جداً سياسياً وثقافياً ووطنياً… ومن الأخوة الأكراد من احتل أعلى المناصب السياسية والثقافية في سوريا والعراق مثلاً. وتجربة تركيا والعراق رائدة في مجال الاعتراف بالحقوق الثقافية والاجتماعية… للمكوِّن الكردي ضمن إطار سيادة الدولة المركزية. لكن الحركات الانفصالية والدعم الخارجي غير البريء عبث بهذا الاستقرار والتعايش السلمي والتفاعل الحضاري الراقي. والأمثلة الفردية عن اضطهاد وحروب وقمع لا تنفي هذا التفاعل والتعايش الحضاري العميق. وكل أمة في العالم ستمارس الشيء نفسه عندما ترى أيَّ مكوّن من مكوناتها العرقية أو أو القومية أو الدينية… يسعى إلى الاستقلال الانفصالي عن الدولة المركزية الواحدة.
شخصياً أقف مع التوجهات السلمية الحضارية للأقليات، ومن بينها التوجهات اللغوية والثقافية العامة وإدارة الشؤون الذاتية.. بشرط أن تبقى ضمن إطار الدولة المركزية الواحدة خوفاً من تفتت كيان الدولة إلى دويلات عرقية، وقومية، ثم دينية ومذهبية وطائفية… فلا مجال للدول الشظايا في العصر الحديث، عصر التكتُّل والتّوحّد، تحت أي مسمّى. وقد احتضن العرب الأكراد والشركس والأرمن…عبر قرون وحموهم من الاضطهاد والمذابح الجماعية…
وهو ما تقوم به الدول الديمقراطية الغربية الحديثة باعترافها بالحقوق الثقافية للمتجنسين بجنسيتها، مع اختلالات واضطرابات أحياناً هنا وهناك بسبب الحركات العنصرية اليمينية مثل (حركة بيغيدا) و(النازيون الجدد) في ألمانيا، وكوكلاكس كلان التي ظهرت في أميركا. وانتفاضات الأفارقة الأمريكيين لم تنته حتى اليوم.
أما الحديث عن العصابات الصهيونية المتطرفة ضد سكان الأرض الحقيقييين ولغتهم وثقافتهم فهو حديث ذو شجون. وقد يكون له مجال آخر.
إن تاريخ الحضارة الإنسانية دوائر تنداح موجاتها عبر أقاليمها الذاتية، وتتسع لتشمل بمؤثراتها الأقاليم الفاعلة في تطور مسيرة الحضارة البشرية حولها، ومنها الحضارة العربية الإسلامية، وبخاصة في دورها الريادي العالمي الذي يمكن تسميته بعصرالعولمة العربية الإسلامية الذي استقطب ثقافات تلك الحضارت في العلوم المختلفة، في الرياضيات، والهندسة، والفلك، والطب، والفلسفة، والمذاهب الدينية بمِلَلها ونِحَلها…. مع بقاء الدين الإسلامي واللغة العربية بمنأى كبير عن التأثر العميق بأديان تلك الحضارات وفلسفاتها ومذاهبها الدينية رغم الحركات القومية والدينية التي سعت إلى تفكيك الإمبراطورية الإسلامية وتأسيس كيانات خاصة بها. وهذا معروف ومشهور في العصر العباسي خاصة وبما عُرِف بعصور الدول المتتابعة.
الثقافة العربية الإسلامية تأثرت بمعجم لغات شعوب هذه الأمم عبر الترجمة والتعايش الحضاري واعتناق كثير منهم الإسلام؛ فظهرت في معاجمنا مئات المصطلحات من لغات تلك الحضارات كمفردات وليس كأساليب نحوية أو صرفية أو بلاغية… بل إن معظم فلاسفتنا وعلمائنا والكثير من الفقهاء ومفسري القرآن, ومن أطباء عظماء وغيرهم، هم من غير العرب، وكتبوا مؤلفاتهم – وهم معتزون- باللغة العربية التي سادت في ظل الحكم المركزي، واعتنقوا الإسلام عن إيمان صادق.
يتبع/ مصطفى سليمان/ سوريا