العلّامة محمد حسين الأعرجي ناقداً ثقافياً
د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية من العراق
العلّامة الدكتور الأعرجي من الباحثين والأكاديميين الكبار الذين أنجبتهم مدينةٌ ثريةٌ بالعلوم الدينية والأدبية وكان الشعر فيها الوليد المخضرم ، والأعرجي قد ارتوى من فراتها أعذب العلوم حتى قال عنها ( إنَّ النجف لتغارُ في حفظ مجدها الفقهي من مدينتين غيرة الضرائر هما الكوفة والحلة) وهذه المدينة ارتبط اسمها بكثير من العلماء والأدباء العراقيين ومنهم الجواهري الذي ارتبطت علاقته في العلامة إذ كان الأخير روايّة لشاعرنا وقد أفرد له دراسة نقدية بعنوان (الجواهري دراسة ووثائق الصادر عن دار المدى) إذ وقف في محطات هامة في شعر الجواهري وكانت وقفتهُ دقيقة جداً تُظهر جهودهُ النقدية وجديتهُ الأكاديمية.
وكتابه الآخر (الأدب وما إليه الصادر عن دار المدى) وهذا الكتاب هو مقالات نقدية نُشرت في صحف ومجلات رصينة وقد كتبَ في تقديمه للكتاب أنه أورد آراءه الشخصية في مسائل الأدب والنقد وقد يظن القارئ أن هذه الآراء متناقضة لكن الأمر ليس تناقضاً و أنما تباعد أزمنة الكتابة، هذه الآراء قد أثارت الجدل في المشهد الثقافي العراقي ومنها ما ذكره في مقالة بعنوان (يا حزانى العراقيين اقرأوا إخوانيات الصكار) وهو الكتاب الذي أصدره محمد سعيد صكار حين وصفه د. الاعرجي بأنه يعيد تأريخ ما لم يؤرخ من أدب العراقيين، والصكار قد روى عن توجه البياتي السياسي بلا شك أن التوجه له أهمية في شعر الشاعر فيوثق العلامة ما قاله صاحبه فيقول: (ولقد سألتُ البياتي نفسه وقد جاء ملبياً دعوة اتحاد الأدباء في الجزائر سألته عمّا قال شفيق الكمالي ــــ بعثي وأنا الذي كسبه إلى الحزب ـــــ . فأيد ما قاله شفيق) وهذا ما جعل الأوساط الثقافية في ذلك الوقت تنهل عليه بالردود الصحفية منتصرة للبياتي وما يهمنا أن العلامة قد أثار هذه القضية (انتماء الشاعر السياسي) لأن الانتماء يدُخل الشاعر في سجن الايديولوجيا التي تبدو جلية في شعره وهذه الأخيرة تسلب من الشعر جماليته لكونها تؤطره بالقضايا والسياسة، واكثر الشعراء قد احتلوا منصات الشعر بسبب ماكنة الحزب الإعلامية التي وفرتها للشاعر بصورة عامة ؛ ليحلق في سماء الأدب بجناح السياسة، وقد أورد العلامة مقالة بعنوان (تقليديون حتى في الحداثة) فذكر أبياتاً للبياتي وحللها وناقشها فانتهى به المطاف بالقول عن أبياته( وقد حولته من شاعرٍ كبير إلى بائع فجل أو باذنجان) ص 242 .
العلامة في تناوله النقدي يهدم قدسية الأسماء الشعرية الكبيرة إن كان شعرها خالياً من مقومات الجمال ومليء بالمباشرة لأن الشعر بدأ يفقد إبداعه الحقيقي والسبب هو هيمنة الانتماء السياسي للشاعر.
إن المسألة الجوهرية في الشعر ليست الوزن فحسب وإنما في رؤيته وجماليته التي تصدر عن الشاعر متحررة من قيود الأيديولوجيا . يستمر العلّامة في آرائه النقدية ومناقشاته حتى قبل أن تنشب المنية أظفارها، وبعدر رحليه صدر له مؤخراً عن دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 2020 كتاباً بعنوان (في التراث والمعاصرة مقالات للعلّامة محمد حسين الأعرجي) وقد جمعها وأعدها للطبع د. حسين القاصد وقد ذكر في التقديم (في هذا الكتاب الذي يجمع بين التراث والمعاصرة بعض ما كتبه أبو هاشم رحمه الله فهو يضم فضلاً عن مقالاته الافتتاحية لمجلة المورد مقالات احتفظ بها ، كنت اخذتها من حاسوبه بعد وفاته بعد الاستئذان من أسرته الكريمة) ومن المقالات غير المنشورة مقالة بعنوان ( إطلالة على ليالي الجواهري وكتبه) وفي هذه المقالة يناقش د. الأعرجي آراء صباح المندلاوي في كتابه (الجواهري الليالي والكتب) وهذا الكتاب هو ما كان يقرؤه الكاتب المندلاوي للشاعر الجواهري فيعلق شاعرنا إيجاباً أو سلباً ومن ذلك تعليقه على رائعة دستوفيسكي الجريمة والعقاب (غير مشوقة كنتُ أطمح إلى تشويق وإثارة) فيرى العلامة في هذه الرأي (إن للكبار حصانتهم في إبداء الرأي ولكن هذا لا يعني أن تكون آراؤهم صائبة دائماً ولكنها تنفع لدى دراساتهم فقد يكون الرأي صادراً عن غيرةٍ أو عن موقفٍ أيديولوجي أو عن مزاجٍ في لحظة انحراف ممّا يتوجب على الباحث أن يدقق فيه أو أن يقرّر) ص 74 هذا الرأي دقيق جداً لكون آراء الشاعر غالباً ما تربط بالموقف الأيديولوجي فيقوم بإسقاط ايديولوجيته على النص الذي يسمعه وبهذا يضيع جوهر النص أو رؤية الشاعر واحياناً العكس يعطي للنص الضعيف أو المباشر قيمة كبرى بسبب التوافق في الأيديولوجيا ولا بد أن أشير إلى مسألة أخرى وهي التعامل النقدي مع النص لأن بعض النقاد من يقوم بإسقاط أيديولوجيته الخاصة على النص الأدبي بالرغم من عدم توافق ايديولوجية الناقد مع النص الذي تناوله نقدياً واستناداً إلى هذه النظرة ينصب نفسه الناقد أو حتى القارئ رقيباً على النتاج الأدبي فيحكم عليه وفقاً لما يراه متوافقاً للمرحلة أو الواقع، ويصبح تقويم الأبداع في المقام الأول سياسياً ووطناً مرتبطاً بقضية أو وظيفة.
ونعود إلى العلّامة في مقالة بعنوان (الجواهري بين الإسلام والماركسية) ويرى أن شاعرنا لم تظهر روحه الإسلامية والشيعية تحديداً الّا حين يُستفز وقد استفزه كتاب أنيس الصولي وإساءتهُ فيه للإمام الحسين فكتب شاعرنا قصيدته عاشوراء بينما تظهر نزوع الشاعر الاشتراكية في موقف فقهاء النجف من مسألة فتح مدرسة للبنات في النجف فنظم قصيدتين هما (علّموها) و(الرجعيون) ويلفت النظر هنا أن الماركسية تقال بمصطلحات الاسلام ويرى العلامة أن الجواهري لم يلفت نظره في الماركسية إلا شيء واحد هو(المادية والتاريخية) ويختم العلامة قوله( إن شاعرنا كان ثورياً ناقماً على الاستعمار أكثر من كونه ماركسياً ولكن الماركسيين وجدوا فيه موهبته ما يعزّز مواقفهم) ص 94 .والشاعر الجواهري مهما تعدت الآراء في شعره يبقى نصه حيّاً في الأدب العربي . والعلامة الأعرجي باحثاً وناقداً يغوص في أعماق النص وتبقى آراؤه النقدية حاضرة في المشهد الثقافي.