ندبة في العنق واحتراق في القلب (قصة قصيرة)
جميلة شحادة | فلسطين
مع أنها بَدت للجميع جافة المشاعر لا سيما مع الجنس الآخر؛ الا انها ابتهجت عندما وجدت رسالته مدفونة بين صفحات المجلة المدرسية التي وُزعت مجانا عليها وعلى زملائها. أحبكِ. كتب لها على أقصوصة ورق بيضاء، وذيّلها باسمه. أحبكِ؛ كلمة واحدة، لكن حروفها الأربعة كانت كافية لتُشعر خولة بعد أن قرأتها، أنها قرأت كل قصائد قيس لمحبوبته ليلى من خلالها. هي المرة الأولى التي تتسلم فيها رسالة بهذه الطريقة وبهذا المضمون؛ ورغم شعورها بالسعادة؛ احتارت ماذا تفعل. هل تواجهه؟ هل تتجاهل الأمر؟ أم هل… ولم يمهلها صوت الجرس لتفكر بإمكانية ثالثة؛ فقد دوَّى منهيا الدرس.
عادت خولة الى البيت، وقبل أن تحسم موقفها مما حدث، دخلت المطبخ لتعد شرائح البطاطا المقلية للغداء. والدتها ستتأخر في عودتها الى المنزل هذا النهار. وضعت خولة المقلاة وبها الزيت على موقد الغاز، وغادرت المطبخ لحين ان يسخن الزيت. توجَّهت الى غرفة الجلوس وفتحت المذياع وأخذت تحرك المؤشر بين المحطات، حتى استقرت أخيرا على محطة انبعث منها صوت أم كلثوم، وهي تصدح بكلمات احمد رامي:
أول عنيّا ما جتْ في عنيك
عِرفتْ طريق الشوق بينا
وقلبي لما سألته عليك
قالي دي نار حبك جنة.
عاشت خولة مع الكلمات والصوت الشجي وحلّقت بعيدا عن أرض الواقع، الى أن أعادتها اليها خيوط دخان رمادية، تتسرب من المطبخ باتجاه غرفة الجلوس.
هرعت خولة الى المطبخ؛ ودون ان تحذَر، أبعدت المقلاة عن موقد الغاز؛ فأمسكت بها ألسنة النيران.
خولة؛ ابنة السادسة عشرة ربيعا؛ حسناء كأميرات الحكايا، قدّها كغصن البان، وبشرتها ناصعة البياض وصافية؛ لون عينيها أخضر كلون المروج، وأنفها دقيق وصغير؛ أما شعرها فداكن وأملس؛ مشيتها رشيقة، وصوتها عذب جميل.
بعد شهرين من العلاج والتغيّْب عن المدرسة؛ طلبت خولة ان تنتقل لتتعلم في مدرسة أخرى. لم تشأ أن يرى حبيبها “زياد” تلك الندبة التي احتلت الجزء الأكبر من مساحة عنقها. كانت الحروق التي أصيبت بها من الدرجة الثانية؛ الا أنها كانت عميقة، وتركت أثرها على روحها قبل عنقها.
حاول الأهل والأصدقاء وادارة مدرستها، ثنْيها عن قرارها؛ لكنَّ جميع محاولاتهم باءت بالفشل. زياد؛ الذي يسبق خولة بصفين دراسيين، هو الوحيد الذي عرف سبب رغبتها بالانتقال الى مدرسة أخرى. إنه هو السبب؛ ولأنه صادق في حبه لها؛ لم يرق له أن يجلس دون أن يحرّك ساكنا. كان عليه أن يخطو خطوة يعبِّر فيها عن إخلاصه وصدقه في حبه لها. هاتفها، اطمأن على حالها، وقبل أن تُنهي الحديث معه، قال: كأنك تجهلين أمري؛ كأنك لا تعرفينني. تبذلين مجهودًا مضاعفًا لتخفي مشاعرك عني، وتخافين من أن تُفتر حبي لكِ ندبة في الجيد. انا لا أحبكِ لأنكِ جميلة فقط؛ فما أكثر الجميلات… قاطعته خولة بلطف، واعتذرت عن اضطرارها لإنهاء المكالمة لعدم شعورها بالخير، ووعدت أن تهاتفه في يوم آخر. لكن هذا اليوم الآخر، تأخر كثيرا.
بكت خولة بحرقة، بعد أن انهت المكالمة. لا أريد أن يشعر بأني بائسة وحزينة؛ لا أريد أن يشفق عليَّ؛ ليته لم يكلمني. قالت لنفسها. ولم تزدها مكالمة زياد، الا اصرارا على طلبها بالانتقال الى مدرسة أخرى؛ فكان لها ذلك.
ومرت تسع سنوات دون أن ترى خولة حبيبها زياد أو تسمع صوته؛ ولم تكن هذه السنوات كافية لتسمح لخولة بأن تلقي الى سلة المهملات الرسالة التي وجدتها ذات يوم في مجلة المدرسة ؛ لكنَّها كانت كافية لكي تنهي خولة دراستها الأكاديمية بتفوق، وتمارس مهنة التمريض في أحد مشافي المدينة.
أن تعمل ممرضا أو طبيبا في مشفى، هذا يعني أن تكون على قدرٍ كبير من التأهب والاستعداد لتقديم العلاج للمرضى، هذا يعني أن تكون قادرا على البذل من وقتك وجهدك واعصابك؛ فكيف إذا كنتَ ممرضا أو طبيبا في مشفى لبلد تسوده حالة التوتر والغليان.
لم يكن شهر أكتوبر عام 2000 كما اكتوبر في سنوات مضت؛ ينادي اهلَ البلاد ليتمتعوا بنسائمه اللطيفة وتفتح ازهار العيصلان. في أكتوبر هذا العام، خرج الشيب والشبان يتظاهرون ويعلنون العصيان على الظلم والقهر وقتل الإخوان، في الناصرة وعرابة وسخنين وكفركنا وكفر مندا وجت…
كانت خولة تتنقل بين الغرف في القسم الذي تعمل فيه في المشفى، وتتفقد مرضاها بعد رجوعها من إجازتها الأسبوعية. كانت قلقة، متوترة، والخشية من سقوط المزيد من الضحايا كانت تسيطر على تفكيرها. اعترض طريقها أحد الأطباء قبل ان تدخل احدى الغرف وقال لها:
– ارجو العناية جيدا بالمريض الموجود في هذه الغرفة؛ فلم يمضِ على إجرائه للعملية الجراحية سوى يوم واحدٍ فقط، وبالتأكيد ليس سهلا على مهندسٍ شاب أن يفقد جزءا من ذراعه.
دخلت خولة غرفة المهندس الشاب وهي ما زالت متأثرة بكلمات الطبيب. ألقت تحية الصباح على مريضها، فاستدار نحوها رادا عليها تحية الصباح. جمدت خولة في مكانها مع أنها شعرت أن الأرض تهتز تحت قدميها. إنه زياد؛ حبيبها الذي أطلق الجيش النار عليه في مظاهرات أكتوبر.