ومن يمحو من قلبك الأثر؟!
منى مصطفى | كاتبة مصرية
جلستُ خلفَ نافذتي والجو شتويٌّ غائم، أقلِّب وريقات كتابي، وأستلهم من بين طيَّاته ما يَذهب ببرودة الشتاء من حولي ومن أواصري، وإذا بها تطرُق النافذة على استحياء، تأمُل أن أفتحَ لها، لكني تجاهلتُها مُنتبهًا لكتابي؛ علَّها تيئس وتذهب، غير أنها أصرَّت أن أفتحَ لها، واحتالتْ في ذلك كلَّ حيلة، تزيد وتيرة الطَّرْق، أنظر لها فتخجل كطفلة غشَّى الحياءُ وجهها، ويهدأ طرقُها، فأُطيل النظر إليها مستمتعًا بجمال حيائها، فتتراقص بخفَّة، وترسم أشكالًا فنيَّةً مختلفة على زجاج النافذة وكأنها تستفزُّ خيالي بتأمُّل هذه الأشكال؛ حتى لا أصرِف عنها نظري، فما كان منِّي إلَّا الخضوع لجمال ما تُبديه…
فتحتُ النافذة، وإذا بها تستقبلني استقبالًا مهيبًا اخترق قلبي، وأبدل برودةَ الجوِّ في نفسي بجَذوة الأمَل وحُبِّ الحياة، وما إن آنستْ مني قَبولًا حتى أخذت تمسح وجهي برحيقٍ كوثريٍّ يُضاعف الحياة في رُوحي، ثم تُعطِّر أجوائي برائحة الطيب والزهور، وتَزيد في استرضائي فتُثير رائحة كرائحة الأرض عند المطر التي لا تُفلِتُ قلبًا إلَّا وامتلأ لها حُبًّا، وبها انبهارًا، يا لها من ساحرةٍ جعلتني أنقاد لها راغبًا! إنها سِرُّ الحياة، إنها قطرات المطر!
أخذتُ أمسح بها وجهي تبرُّكًا؛ لأنها حديثةُ عهْدٍ بربِّها كما وصفها حبيب الرحمن صلى الله عليه وسلم، ثم ملأتُ كفِّي منها وشربتُ، فكأنَّ ماء الحياة سرى في جسدي، ثم أمسكتُ بيدها، وانطلقنا لحديقة غنَّاء أمامنا، تفوح بالطيب والريحان، وتُسْعد العين بألوان الجنان، فتُحلِّق الرُّوح في ملكوت الحنَّان المنَّان، ويتلاشى أمام العقل كلُّ سُلطان إلَّا سُلطانَ ربِّ الأكوان، ويخشع القلب لواضع الميزان، مُتأمِّلًا كتابَه المنظور، الذي يَشفي الصدور ككتابه المسطور…
فغارت الشمس، وتأبَى أن تُطيل في غيابها، فأرسلت بعض أشعَّتِها الفضيَّة، وأطلَّت على استحياء من مخبئها خلف الدِّيَم؛ لتُشاركنا سعادتنا، فوثبت قطرةُ المطر فرحةً بها، وقالت: تعالي معي، سأعترض هذه الأشعة لأملأ الكون بهجةً بألوان قُزَح، فركضتُ معها كطفل لوَّح له أبوه (هأنذا بعد غيابٍ جئتُ لكَ ومعي ما به تحلم)..
فقطعت القطرة شعاع الشمس، وإذا بقوس من الألوان مُبهج ينثر السعادة من بين يديه ومن خلفه، ويُظلِّل عنان السماء بألوان ما كان ليُرتِّبَها إنسانٌ بهذا التناغُم والتدرُّج المعجز، سبحان الخالق الوهَّاب!
وكعادة الإنسان بعد استيفاء المتعة يُصيبه الفتور فيطمع في المزيد، سألتُها: هل لي أن أصعد معكِ لقمَّة هذا القوس؟
هل لي أن أرى الصورة كاملةً؟
هل لي أن أتخلَّص ولو للحظاتٍ من الْتِصاقي بالطِّين هنا؟!
فأطرَقَت، وكأنها لا ترغب، غير أنني ألححتُ عليها، فاستجابت مُحذِّرةً إيَّاي بأن الجهل بكثير من ملامح الحقائق خيرٌ من أن نَصْلَى سعيرها إن أحطنا بها كاملةً بعد خبرها!
لم أعبأ بنُصحها، وأخذني بريقُ الجديد الذي يذهل النفوسَ ويُقلِّل سُلطان العقل عليها، فصعدتُ لأعلى نقطة ممكنة فوق هذا القوس الوهَّاج الجميل، وتساءلت: تُرى ما ألوان الجنة؟
وبقيتُ أتأمَّل خلق الله من حولي، هذه السماء مرفوعة بلا عَمَدٍ، وتلك الأرض مبسوطة مُسخَّرة بخيراتها، وهذه الجبال تحمل الخير والثبات، وكل شيء رغم شموخه ساجدٌ لله العليِّ، إنها لوحة إلهية متكاملة تُجبِر كلَّ خلايا جسدك على الخشوع لمالك الملك بارئ الحَبِّ وفالق النوى، سبحانه مُحيي القلوب بالحُبِّ ومجزٍ به ظلًّا وأمْنًا… كما أحيا الأرض بالمطر فأثمرت جمالًا ونبْتًا…
انتشيتُ بالنظرة العابرة، ثم أخذتني التفاصيل؛ فهي دأب النفس ومفتاح جذبها، فوقعت عيني على الإنسان!، وهنا فقط تذكَّرتُ نصيحة قطرة المطر؛ حيث سمعتُ صوتًا مخنوقًا من طفل ملائكيِّ الوجه، يُنازعه الموت، ويُردِّد بآخر رمق بقي له من حياة: (بأروح عند الله، وأُخبرُه عنكم كَمْ تُعذِّبونا!).
غيرتُ وجهتي سريعًا، فلم أحتمل دموعه ودماءه، فرأيتُ طفلًا آخَرَ يَصيح بأبيه المقتول: (أبي، لا تخليني من شان الله، لا تخليني لهم، خُذني معكَ!)، وشابًّا مُقيَّدًا يصرخ: (اقتلوني ولا تغتصبوا ابنتي وأمِّي!)…
رأيتُ حقًّا يُذبح، وباطلًا ينتفش، رابتني الصورة، أغمضتُ عيني، فالبشر قلوبُهم جدباءُ لا تُمطر ولا تنبت…، صِحتُ في القطرة: ليتني لم أستجب، عُودي بي حيث المطر.
فبادرتني وهي آسفة كسيفة الخاطر وقالت: ومَنْ يمحو من قلبك الأثر؟
منى مصطفى